عندما تكون وحدك، غريبًا في مواجهة الآخرين الذين يتوددون إليك في البداية ويصطنعون الحب، ستشعر بذلك. وعندما تتفاقم الأحداث، وتجد نفسك أسير مصيدة أكثر شراسة ووحشية من آكلي لحوم البشر، فاعلم أنك على وشك خوض مغامرة مثيرة مليئة بأعظم التأثيرات النفسية المخيفة الممكنة، لأنك تشاهد فيلم Get Out.
نجح الممثل الأمريكي جوردن بيلي في أول تجربة له كمخرج، في أن يصوّر حالات الاغتراب والخوف والفقد بشكل متقن وفريد، استحق عليها عدة جوائز مهمة في الإخراج، إضافة إلى ترشيحه لجائزة أفضل مخرج في الأوسكار الـ 90.
يبدأ الفيلم بمشهد للبطل كريس واشنطون، الذي يقوم بدوره الممثل الإنجليزي دانيل كالويا، وهو أفريقي الأصل، أسود البشرة، كجوردن بيلي الذي يبدو أنه اختاره بعناية لتأدية دوره في الفيلم، فكانت ملامح وجه كالويا تتحدث دون أن ينطق في العديد من المَشاهد، وبدا أنه يعرف بحق كيف يضع المُشاهد تحت تأثير الحالة التي يكون فيها، وكأن المُشاهد نفسه من وقع في المصيدة، ولذلك استحق كالويا ترشيحه لجائزة الأوسكار كذلك.
يجلس كريس مع خطيبته روز (أليسون ويليامز) التي كانت تمهد له أنه عليه أن يزور أهلها، ولكن كريس فوجئ بأنها لم تخبرهم أنه أسود البشرة، فشعر بتوتر، ولكنها أخبرته أن أهلها طيبون، ولن يشكل لونه لديهم فارقًا.
يمهّد الفيلم في بدايته إلى أن مشكلة عنصرية ما ستقع، خاصة عندما وصل كريس، ليجد أنهم يسكنون في حي بعيد عن المدينة، بعيد عن الزحام والبشر، وحدهم في بيت كبير، وقد كان أهل روز يعاملونه بلطف زائد عن الحد، ويقولون له إنهم يحبون أصحاب البشرة السمراء، وإن هؤلاء أشداء أقوياء، سلسلة من المدح المبالغ فيه، جعلته يرتاب، مع المُشاهد، بشأن شيء ما خطير على وشك الحدوث.
تتصاعد وتيرة الفيلم، يتعرف كريس على أصدقاء الحي، وهم أصدقاء عائلة روز كذلك، يرتاب كريس والمُشاهد عندما يرى كل منهما أن كل البِيض ينظرون نظرات مريبة لكريس، باهتمام زائد عن الحد، في حين ينظر سود البشرة -الحطاب والخادمة وزوج إحدى السيدات- إليه بشيءٍ من الشفقة، كمن يكتم حقيقةً ما، وتناقض ما يظهر في شخصياتهم، يثير الريبة والتساؤل، ثم في مشهد عبقري، وتمثيل فريد من الممثلة الأمريكية بيتي جابريل، تأتي الخادمة السمراء لكريس، وهي تصارع شيئًا ما بداخلها، كأنها تصارع شيطان يسكنها، يريد أن ينفجر، ثم تقاوم، وتأمر هذا الشيء بداخلها أن يختفي، وتترك كريس في حالة من الريبة المطلقة.
يضع بيلي المشاهد بشكل تصاعدي في حالة من الغموض والرعب النفسي، حتى يصل إلى مرحلة الفوران، ففي مشهد شديد الاحترافية، يتعرض كريس للتنويم مغناطيسيًا، على يد أم روز، التي تصنع من احتكاك الملعقة بفنجان القهوة صوتًا معدنيًا، له أزيز مخيف، وتحاول أن تبحث عن نقطة ما في طفولة كريس، لم يستطع فيها أن يتحرك، كي تسيطر عليه، وتأمره بأن يصاب بالشلل، وأن يغرق.
مشهد غرق وعي كريس، في "المكان الغارق" "Sunken Place" المصطلح التي ابتدعته الأم، هو مشهد في منتهى الروعة، حيث يغوص كريس ببشرته السوداء، في العدم الأسود، ولا يستطيع التحرك، أو التكلم، أو التعبير عن أي شيء، فقط وعي غارق في المنطقة الغارقة، يغوص فيها باستمرار، كالعبد الذي لابد ان يسمع ويطيع ولا يُعَقِّب.
هذا هو السيناريو الذي حصد بيلي بسببه جائزة الأوسكار الأخيرة، وهو بالفعل يستحقها عن جدارة.
المنطقة الغارقة أو المكان الغارق، هو الأساس الدرامي الذي ينبني عليه فكرة الفيلم، فتلك العشيرة البيضاء، أو أهل الحي، الذين يسكنون في منطقة نائية عن الناس، يقومون باستقطاب واستدراج ذوي البشرة السمراء، كي يستفيدوا من أجسامهم، عن طريق جلسات التنويم، والسيطرة الكاملة على وعيهم، ثم إجراء عملية جراحية بوضع جزء من مخ الرجل الأبيض في مخ الرجل الأسود، فيمتلك جسده، ويظل هذا الرجل حيًا، يراقب حياته بجسد رجل آخر، وهي فكرة شبيهة نوعًا ما بفكرة فيلم "أن تكون جون مالكوفيتش"، Being John Malkovich.
هنا نظرة مختلفة للعنصرية، ففي الوقت الذي نجد فيه أن أفكار معظم - إن لم يكن كل - الأفلام التي تخاطب موضوع العنصرية، تنظر إلى الملونين بشكل عام على أنهم درجة أقل شأنًا في كل شيء، كالحيوانات، لا يتساوون والجنس البشري، وضع Get Out الأمر على الجانب الآخر ولكن مع نفس النتيجة النهائية.
هؤلاء القوم يرون في سود البشرة القوة، والموضة، والجمال، والرونق، وصيحة العصر، والذكاء، وكل المعاني التي تسمى بالبشر، فهم يريدون أن يصبحوا مثلهم، فيلجأ كل صاحب ورم خبيث، أو ذراع مقطوعة، أو صحة تحتضر، إلى شراء جسد رجل أسود البشرة، واحتلاله، لأنه كنز، ومن هنا تحول الأمر في الفيلم إلى تمجيد لهؤلاء، ولهذا السبب "لن نستعبدهم، بل سنكونهم".
عندما يصل الفيلم لذروته الأولى التي يعلم فيها كريس أنه وقع في المصيدة، يكون الأوان قد فات، وتفعل الأم فعلها بملعقتها وفنجانها، فيقع كريس مغشيًا عليه في المنطقة الغارقة، ويجد نفسه في معمل، مكبل إلى كرسي، ومن أمامه شاشة تلفزيون قديم، يظهر فيه في كل فترة فيديو للملعقة والفنجان وصوت الأزيز، فيغوص، ثم يستيقظ، وهكذا، ثم يظهر فيلم توضيحي يتحدث عن التجربة العلمية لنقل المخ في الجسد، في أجواء تشبه فيديوها مبادرة دارما في مسلسل الغموض والإثارة Lost، ثم يظهر رجل كهل، أعمى ويقول له "أنا أريد عنيك".
https://www.youtube.com/embed/5Xjgobq4QUU?rel=0&controls=0&showinfo=0في هذه الأجواء العصيبة، والتي يجد المتلقي نفسه فيها متعاطفًا مع البطل، يظهر بين حين وآخر صديقه، رود ويليامز، الذي جسده الممثل الكوميدي ليلريل هاوري، بينما كان يحاول أن يصل لصديقه كريس، بأسلوب مرح غير متكلف، في محاولات لترطيب الإيقاع المتوجس للفيلم، بمشاهد غير مبتذلة، ولكن كوميديا لطيفة، برع فيها هاوري، وهذا ربما يفسر لماذا لقي الفيلم رواجًا كبيرًا في مصر، خاصة وأنه يجمع بين النقيضين، بشكل متناغم، هارمونية رعب نفسي، وضغط عصبي، مع لقطات طريفة من هاوري، كما تعود المتلقي المصري أن يحب في أفلامه الكوميديا الجميلة، التي لا تفسد روح الفيلم.
وربما كان تصاعد الرعب والإثارة والتشويق في سيناريو الفيلم مع موسيقى تصويرية فيها ما فيها من ترقب وتوجس وتربص، فيكاد يكون المشاهد الذي يتفاعل بكل حواسه مع الفيلم، يكاد يكون جالسًا على حافة الكرسي ثم يطير ويحلق في النهاية، من أسباب رواج الفيلم في مصر.
في النهاية يفك كريس أغلاله، ويتحول الشاب الذي كان لطيفًا ومهذبًا طوال الفيلم، إلى وحش قاتل وشرس، يفتك بالعائلة كلها، في مشهد دموي يحيلك إلى كوينتين تارانتينو الذي يشفي غليل الجميع، خاصة عندما التقى كريس بصديقه في نهاية الفيلم، ونفذ في النهاية مقولة أحد سود البشرة المُحتَلين المغيبين، الذين انفلتت شخصياتهم الضائعة في غياهب المنطقة الغارقة، بسبب فلاش كاميرا كريس بالصدفة، بينما كان لا يزال لا يعلم شيئًا عما هو مقدم عليه، فنظر له الشاب الأسمر نظرة مليئة بالخوف، والشفقة، صارخًا في وجهه: !GET OUT