باسم يوسف.. الأراجوز متحررًا من وهم البطولة
يليق بمفتتح هذا المقال عن باسم يوسف وظهوره من جديد على شاشة مصرية، بعد 11 سنة من الغياب، أن نتذكر تلك المرأة مجهولة الاسم، التي كانت مِن بين مَن أُسندت إليهم بعد 30 يونيو مهمة الاحتجاج أمام مسرح راديو في وسط البلد، حيث كان باسم يوسف يقدم برنامجه "البرنامج". بتأوّهات موحية، صرخت "باسم يوسف ده أراجوووووز". ثم عبّرت، فيما تمثل أنها تكاد تفقد الوعي، عن أُمنيتها "اعدمولي باسم يوسف عشان أرتاااااح".
عبَّر هذا المشهد عن عدد من التناقضات، فهي تسب باسم يوسف بما يحب أن يوصف به؛ "أراجوز". وفي الوقت ذاته تنتمي المرأة، ومعها باسم يوسف الذي تطالب بإعدامه كي "ترتاح"، لشعب يحب الأراجوز المنفلت، الذي شكَّل عبر قرون جزءًا مهمًا من ثقافته الشعبية ولسان حاله النقدي، محطمًا التابوهات، وهيبة أصحاب السلطة.
أباحة باسم يوسف المصرية بامتياز ستظل السؤال الاتهامي الثابت الذي سيطارده، أيًا كانت نوعية العرض الذي يقدمه، وأيًا كانت درجة بعده أو قربه، مكانيًا وموضوعيًا، عن وطنه، وطن الأباحة، ما دمنا لا نستطيع اتهامه بالفشل، أو إثبات أنه يروج لأكاذيب ويعمل لصالح جهات مشبوهة. فيتوقف البعض أمام "قلة الأدب"، وكأنهم لا يسيرون في الشارع المصري.
يعود محاور قناة أون تي في، أحمد سالم، بعد سنوات طويلة من مشهد تلك المرأة، ليكرر الاتهام في حضور باسم يوسف، بأنه أبيح تتضمن عروضه إيحاءات. ويحكي عن صديق وزوجته شعرا بالحرج أثناء حضورهما أحد عروض باسم الأوروبية.
مَن يطرح هذا السؤال الاتهامي لباسم يوسف عليه بالضرورة في كل مرة أن يتناسى التراث الضخم والعظيم من الكوميديا المصرية، في المسرح والسينما والتليفزيون ورسوم الكاريكاتير، وغيرها من الوسائط، الممتلئة بالأباحة، بل والمعتمدة عليها. وكأن باسم يوسف هو قليل الأدب الأول في تاريخنا. وهؤلاء تحديدًا، من المؤدبين في الإعلام المصري، لا يمكن أن يشيروا، ولو لمرة واحدة، إلى أن النجم و"الزعيم" عادل إمام، كانت الإيحاءات الجنسية، الأباحة، إحدى أدواته الأساسية لإضحاكهم وغيرهم.
احتفاء أكتوبري بباسم يوسف
بعد السابع من أكتوبر بأيام، ومن قرية كوبية صغيرة لم يسمع باسمها أيٌّ من قراء هذا المقال، أعادت شابة عبر إنستجرام نشر فيديو الأحا الشهيرة التي وجهها باسم يوسف لإسرائيل. لا تعرف هذه الشابة اللغة العربية ولا العامية المصرية، وتجهل عبقرية تعبير "أحا"، ولم تقابل مصريًا في حياتها، ولم تهتم مسبقًا بالقضية الفلسطينية. لكنها في هذه اللحظة، وجدت، مثل آلاف غيرها من الشباب حول العالم، في إعادة نشر أحا باسم يوسف، تعبيرًا عن غضبها وتضامنها.
أدركْتُ لحظتها مدى انتشار باسم يوسف. ولم يكن ممكنًا وقتها توقع حجم التأثير الذي سيحدثه خلال عامي الإبادة، وتحوله لأحد أهم الأصوات في العالم دفاعًا عن الفلسطينيين في مواجهة الأكاذيب الصهيونية. ربما بسبب ذلك، في الذكرى الثانية لطوفان الأقصى، وخلال شهر أكتوبر/تشرين الأول المبجل عند المُكوِّن العسكري في الدولة المصرية، غير المعجب بباسم يوسف، تسمح إحدى دوائر صنع القرار بظهوره مجددًا على شاشة مصرية. وكأنه تكريمٌ أو شكرٌ على هذا الدور الذي لعبه. أو ربما لنفي الخصومة مع نجمٍ عالميٍّ.
يلتزم المحاور أحمد سالم بالسيناريو المعد له، بحيث يبدو من الحوار وكأن باسم يوسف هو من قرر عدم الظهور طيلة هذه الأعوام على القنوات المصرية. الطريف أن الأراجوز لا ينفي هذا التصور أو يؤكده، يتركه مُعلقًا مع ذكره لإصرار طارق نور على استضافته، مرتكنًا في النهاية على أن جمهوره الأساسي يتذكر جيدًا ملابسات توقف "البرنامج"، والعراقيل التي وُضعت أمامه، وإرهاب باسم يوسف أمام المسرح، وقرار جهة سيادية واحدة على الأقل، بتغييب هذا الأراجوز غير المرغوب فيه عن المشهد، وعقابه إن استمر.
جوهر العقاب المحتمل كان مُبهمًا، وظلَّ مُبهمًا. ولم نعلم إلى أي مدى من الممكن أن يصل، ولا صداه المحتمل حين يكون الإعلامي الذي حقق النجاح الأكبر في تاريخ كل التليفزيونات العربية هو الضحية. ويبدو أن الشهرة والنجاح الكاسحين لباسم يوسف عقَّدا الوضع، فلم يتبقَّ سوى مخرج التوقف والمنفى الاختياري، خصوصًا وأن سلطة ما بعد 30 يونيو لم تكن لتسمح إلا بأن يصبح باسم يوسف بوقًا لها، مثل من استمر من بقية إعلاميي الصف الأول. وهو ما يعني نهايته، فالأراجوز الحقيقي، والأصيل في موهبته، لا يمكن أن يكون بوقًا لأحد، وإلا فقدَ خفة دمه، أداته الأساسية، وفقدَ منطق مهنته؛ النقد.
يعترف باسم بتواضع بأخطائه وبارتباكه وبعدم وضوح رؤيته أحيانًا
رَفَض وقتها باسم يوسف أن يتحول لبطل أو لضحية أو لشهيد. تمسَّك بهويته ودوره، باعتباره الأراجوز الذي يُدغدغنا ليوقظنا، ويمنحنا المتعة ليخفف بعض الألم، أو أن يصمت. فغادر بصمت. ليدينه قطاع من جمهوره ومحبيه لأنه لم يدخل "معركة سياسية" في مواجهة السلطة دفاعًا عن برنامجه، ولم يتحول إلى بطل أو شهيد. وكأن البعض منا يريدون رؤيته سجينًا، أو راقدًا في مستشفى بعد اعتداء من مجهول أو من شخص سيوصف بأنه مختل عقليًا، لتكتمل جدارية متخيلة للثورة المصرية، مكونة من صور صغيرة لوجوه كل الضحايا.
بعد هذه اللحظة بأحد عشر عامًا، يعود باسم للكلام على شاشة مصرية. لا تفارقه الابتسامات والقفشات والدعابات، متحايلًا على افتقاد محاوره خفة الظل. فيبدو وجهه كثيرًا ميالًا للجدية، متحدثًا عما يُقلق، ممتنعًا من جديد عن ارتداء معطف البطل بعد كل اشتباكاته في الإعلام الغربي، خلال عامين، انحيازًا لفلسطين. بل إنه، وبتواضع، يعترف بأخطاء، وبارتباك، وبعدم وضوح رؤية أحيانًا، وصولًا للاعتراف بجهله بالقضية الفلسطينية وبالهوية الحقيقية لدولة إسرائيل قبل السابع من أكتوبر الشهير.
برودة الجمهور الساخن القديم
يلفت الانتباه أن هذه العودة، ورغم أهمية ما يطرحه باسم يوسف من معلومات وتصورات يمكن الاختلاف معها، لم تلقَ التفاعل الجماهيري والضجيج والجدل والسخونة التي تستحقها. لا يوجد تفسير واحد لهذه المسألة. ربما نجد التفسيرات بتأمل أداء المحاور وأسلوب إعداد وإخراج حلقات الحوار الأربعة. وربما لأن الجمهور المأمول تعب من الإبادة وفلسطين وإسرائيل، الموضوعات الأساسية التي تشغل حاليًا باسم يوسف فيتحدث عنها.
وربما لأن الجمهور الأصلي لباسم يوسف فقد حرارة استقباله القديمة، وقدرته على إثارة الضجيج، عبر هذه الطريق الطويلة من الهزائم والإحباطات. وربما لأن باسم يذكّرنا بأنه "الرجل الخطأ في المكان الخطأ"، حسب تعبيره، فيما هو يكرر الخطأ نفسه؛ يبتعد قليلًا عن دور الأراجوز، يتحدث بجدية، يشتبك مع السياسة، وينبهنا لمستقبل لا نعلم ماذا سيحمل لنا وللفلسطينيين.
كان باسم يوسف مِن أوائل مَن أدركوا أن النكتة وخفة الدم والأباحة هي المداخل المناسبة للتأثير
وكأننا، ورغم إدراكنا الكارثة، لا نريد أن نرى وجه باسم يوسف إن لم يكن في سياق الشو، ضاحكًا ومبتسمًا دائمًا وأبدًا. وكأننا، مثلما طالبناه بألَّا يُوقِف الشو، ألَّا يُوقف "البرنامج"، وإن تحوَّل لبطل أو شهيد، لا نتقبل صورته كـ"مغترب عادي"، جالس أمام كاميرا في بيته البعيد ليحدثنا عما يحدث حوله، لكنه مهموم كذلك بحياته الشخصية وعائلته ومهنته وأكل عيشه، وبأن يطور أحَّاه الشهيرة في طرق جديدة.
يقول باسم عبارة "ما دام الناس هتتفرج ع السيرك...."، مكررًا تعبير السيرك، واصفًا العالم بأنه سيرك. وندرك مما يحكيه بعض أبعاد مشكلة أن الأعظم تأثيرًا في العالم الآن مجموعة من المؤثرين/influencers، يعملون بوعي أو من دون وعي، لصالح شبكة معقدة من المصالح الكبرى، أو ما يسميه هو بـ"الماكينة".
يدرك باسم يوسف روح اللحظة العالمية التي نعيشها، أن الشو هو الأساس. وأن عدد المتابعين والجمهور رأس مال البعض، الذي يُترجم لتأثير فكري وسياسي، ولعوائد مالية أيضًا. لكن ما لا يعرفه غالبًا جيل زد من جمهور باسم يوسف أنه كان من الرواد قبل 14 عامًا، من أوائل من أدركوا إلى أين يتجه العالم، وقيمة الأراجوز العصري، وقيمة وخطورة المؤثر/influencer المشتبك مع ما يحدث حوله. وأن النكتة، وخفة الدم، ومن جديد الأباحة، هي المداخل المناسبة للتأثير، وأن نجعل الآخرين يدركون عدالة قضايانا، وإن كان بشكل سطحي.
باسم يوسف العادي
ينزع أحمد سالم إلى إدخال باسم يوسف في خانة الاستثنائية، كي لا يتحول لنموذج ملهم لمن لم يعاصروه في بداياته أيام الثورة المصرية. فيحاول تصويره كشخص لا يرضى بأي أوضاع، في مصر أو أمريكا، وبأن الحريات هنا وهناك لا تكفيه. وبالتالي تكون المشكلة في ذاته.
في مواجهة هذه النزعة يذكرنا باسم يوسف بلباقة، ومن دون اصطدام أو خطابية، بأنه مواطن عادي. مثلنا جميعًا، يحمل الطموح التاريخي للبشر في الحياة الكريمة والحرية الحقيقية. فيُخرِج ذاته من دائرة الاستثناء، مثلما يجرد برنامجه القديم "البرنامج" من الاستثنائية. فلا يتعامل مع إيقافه، والامتناع عن إنتاجه وبثه من خارج مصر، بأسطورية أو بكائية. بل يعيده لأصله، كمنتج فني وسياسي كان ابن لحظته، ونتاجها. لحظة الثورة التي حين انتهت مهزومة، انتهت معها البيئة التي تسمح باستمرار أحد منتجاتها؛ "البرنامج".
قبل تسعة أعوام كتبت مقالًا في موقع البداية قبل توقفه عن باسم يوسف. جاء في خاتمته "الأراجوز هو هذا الذي يجعلك تفتح عينيك لترى. وبهذا المعنى ربما يكون باسم يوسف تطويرًا حداثيًّا وعبقريًّا لفكرة الأراجوز ودوره في ثقافتنا". نعم، إنه أراجوز يفتح أعين جمهوره ليرى ما يرتكبه أراجوزات آخرون، قليلو الموهبة وشديدو التفاهة، ضلوا طريقهم، فلم يصلوا لخشبة المسرح، بل لقصور الحكام، فلا يوقظون جمهورهم بإضحاكه، بل يتسببون في الكثير من الدم.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.
