أمام كاميرا قناة "البلد"، وقف عزيز محمد أحمد وخلفه ما يبدو مصرفًا أو ترعة ري شبه جافة، يشكو انخفاض منسوب المياه إلى حد منعه عن زراعة الأرز، وتلاه فلاحون آخرون يرددون نفس الشكوى على شاشة التلفزيون، وقتما كانت الفضائيات لا تزال تنقل هذه النوعية من شكاوى المواطنين.
نُشر الفيديو في مايو/ أيار 2016، ليأتي ضمن عدد من التقارير والتحقيقات الصحفية المكتوبة والمصورة التي رصدت بدء أزمة جفاف حادة ظهرت في الدلتا مُهدِّدَة العديد من المحاصيل الزراعية على رأسها الأرز، لتتوالى التحذيرات من مستقبل صعب يتهدد الزراعة، في ظل مواسم جفاف مرشحة للتفاقم مع بدء ملء خزان سد النهضة الإثيوبي.
منذ ما يسبق أزمة الجفاف الحالية، دأبت الدولة لسنوات على تقليص مساحة الأرض التي يزرعها فلاحو الدلتا أرزًا، عبر تحديد نطاقات الزراعة في المحافظات وعدد الفدادين المنزرعة في كل منها، وفرض غرامات كبيرة على من يخالف النطاقات المحددة. بدأ تنظيم نطاقات زراعة الأرز مع صدور القانون71 سنة 1953 لتحديد مناطق ومساحات زراعة الأرز وتوقيع غرامات على من يتجاوزها. بعدها صدر قانون رقم 31 لسنة 1961 لزيادة الغرامات.
حتى عام 1988 لم تتجاوز المساحة المنزرعة أرزًا مليون فدان، وزادت تدريجيًا لتتراوح اليوم بين 1.2 مليون، و1.5 مليون فدان. ومع زيادة الاهتمام بمشروعات الاستصلاح الزراعي منذ عام 1997 والتمادي في السياسات النيوليبرالية الداعمة للزراعات التصديرية، تم تشديد المراقبة وزيادة الغرامات على المزارعين المخالفين من 30 قرشًا إلى 60 قرشًا عن كل متر مكعب للمياه، لتصل قيمتها للفدان الواحد حوالي 3660 جنيه للفدان.
في أعقاب الزيارة الأخيرة للرئيس المصري إلى إثيوبيا، تواترت أنباء عن حدوث اتفاق يتضمن ملء خزان سد النهضة خلال ثلاث سنوات، تتوقف مصر خلالها عن زراعة الأرز وتستورد احتياجاتها من الخارج بقرض من البنك الدولي تسدده إثيوبيا. وتُرجمت الزيارة إلى قرارات متتابعة من المديريات الزراعية ومديريات الري بالمحافظات، تقضي بتقليص المساحات المسموح بزراعتها إلى أقل من نصف المساحات المقررة في العام الماضي، الذي مثل واحدًا من أقل الأعوام من حيث المساحة المنزرعة، حيث جرى خلال 2017 تخفيض مساحة أراضي الأرز بنسبة 34% تقريبًا عن العام السابق عليه. وتستهدف وزارتا الري والزراعة تخفيض الإنتاج هذا العام إلى حدود مليون ومئة ألف فدان فقط.
يتم ذلك كله دون مناقشة الأبعاد الاجتماعية والبيئية لهذا الحل مع أصحاب الشأن من الفلاحين. بينما هللت العديد من الأصوات الإعلامية والحضرية (من سكان المدن) لهذا الحل، كونه يضمن للمستهلكين استمرار النفاذ إلى الأرز بأسعار معتدلة من خلال الأرز المستورد، متناسين ما يسببه هذا الحل من كوارث للفلاحين وبيئتهم الزراعية وسبل عيشهم، وغياب العدالة البيئية في توزيع المسؤوليات والخسائر خلال الأزمة المحتملة.
التهديد البيئي
أراضي الدلتا تتميز بطابع زراعي بيئي هش ومعرض بسهولة للتدهور، كونها مرتفعة الملوحة تأثرًا بمياه البحر المتوسط الملاصق لها. تتأثر 25-30% من أراضي الدلتا بهذه الظاهرة.
تحوُّل الدلتا إلى شكلها وحجمها الحالي من الزراعة المنظمة ذو تاريخ حديث جدًا. فتاريخيًا ظل شمال الدلتا منذ نهاية العصر الفرعوني وحتى بدايات القرن العشرين (1929) عبارة عن مستنقعات مليئة بالخوص والبردي ومواشي سائبة في البرية، وكانت تُسمي بالبراري. وتقلصت هذه المساحات البرية بفضل جهود الفلاحين، وتلاشت البراري تقريبًا وصارت المنطقة زراعية وتكاثرت فيها القرى والعِزَب والكفور.
في دراسته الصادرة عن الهيئة العامة في كتاب بعنوان "البراري"، يرصد أستاذ الجغرافيا البشرية عمر الفاروق السيد رجب أثر حفر ترعة التوفيقية خلال ثلاثينات القرن العشرين، وكذلك مشروعات الري والصرف التي توسعت فيها الدولة خلال الخمسينات والستينات، وما لعبته من دور بارز في انحسار البراري وتطور الزراعة ونشوء ما يُعرف الآن بمحافظتي كفر الشيخ والبحيرة. أيضا كان لزراعة الأرز وجهد الفلاحين الأثر الأبرز في حماية أراضي الدلتا وخاصة في شمالها، وتحويلها إلى أرض زراعية توفر الغِذاء، وامتداد طبيعي لفلاحي الدلتا على مدار السنين.
خلال هذه السنوات الطويلة راكم الفلاحون خبرات كبيرة في زراعة الأرز، وقاموا بأقلمة أصنافه وتجويد التقاوي، لتكتسب على مر السنين مواصفات خاصة جعلت الأرز المصري مطلوبًا محليًا ودوليًا.
يعلم الفلاحون وكذلك المهندسون الزراعيون والخبراء، أن زراعة الأرز في الدلتا، خاصة في الشمال (محافظات كفر الشيخ والبحيرة)، ليست مجرد خيار اقتصادي أو أمان غذائي للفلاحين فقط؛ لكنه ضرورة بيئية تحتمها هشاشة النظام البيئي-الزراعي لتلك الأراضي. وهو ما يدركه الفلاحون الذين يعون ثمن التراجع عن زراعة الأرز، المتمثل في ارتفاع ملوحة الأرض وفقدها للخصوبة والصلاحية بمرور الوقت.
تقترح الدولة في أحد السيناريوهات أن يتوقف مزارعو الدلتا تماما عن زراعة الأرز كحل لمواجهة أزمة المياه المنتظرة مع بداية عمل سد النهضة وملء خزانه، دون ذكر النتيجة المترتبة على هذا السيناريو وهي خسارة ثلث مساحة الدلتا الزراعية المقدرة بحوالي 1.5 مليون فدان، وتحوُّلها إلى مستنقعات ترتفع فيها المياه المالحة وتنمو فيها غابات الخوص والبردي، فيما يمثل استعادة مشهد تكلف مئات السنين من الاستصلاح والجهد ليتحول شمال الدلتا الي واحة خضراء منزرعة.
سيؤدي هذا أيضا الي خسارة ملايين الفلاحين لمورد رزقهم الأساسي، وستتأثر مئات الورش والمصانع العاملة في تعبئة وتبييض وتغليف الأرز في المدن الحضرية بالدلتا. كما أنه من المرجح أن تختفي الأصناف البلدية المُخزَّنَة في منازل الفلاحين، حيث سيتم استهلاكها خلال تلك السنوات الثلاث. وأخيرا، لا توجد أية ضمانات لاستعادة زراعة الأرز بعد هذه السنوات، لما سيتطلبه ذلك من ضرورة استعادة الأراضي التي فقدت خصوبتها وكفاءتها الإنتاجية، ما يحتاج إلى مزيد من المياه والمجهود البشري والدعم الحكومي الذي لا يوجّه عادة للفلاحين.
الأرز سيد الأطباق
الأرز هو محصول الحبوب الوحيد الذي تحقق فيه مصر اكتفاءً ذاتيًا، بل وتنتج قدرًا أكبر من استهلاكها المحلي، حيث يمثل الإنتاج المحلي 102.8% من الاستهلاك أي بفائض 2.8%. وتُقدّر القيمة المنتجة بحوالي 3 مليون طن. كما أن الفلاح المصري يحقق أحد أعلى المعدلات العالمية في إنتاجية الفدان (3.8 طن للفدان)، ففلاح الدلتا يتمتع بالكفاءة والخبرة التي طورها عبر سنوات من العمل والتعامل مع المحصول.
الأرز طعام سهل الإعداد كما أنه مغذٍ جدًا، حيث يوفر الأزر حوالي ثلثي الاحتياجات اليومية من السعرات الحرارية في المناطق الأكثر استهلاكا له. ويُعد الأرز هو المصدر الرئيسي للسعرات الحرارية في النظام الغذائي بالدلتا، التي صار الأرز فيها جزءًا من الثقافة الغذائية منذ القرن السابع الميلادي. وتمدد هذا المحصول ليتحول الي طبق رئيسي لا تخلو منه مائدة في وجبتها الرئيسية ليس فقط بالدلتا ولكن في كل مصر.
يتميز الأرز بتعدد طرق إعداده في الثقافات المختلفة. فلو كنت تتناول المحشي بأصنافه المختلفة، وتحتفي بالأرز المعمر، ولا يمكن لك أن تتناول وجبة الغذاء في غياب طبق الأرز؛ فأنت بالتأكيد تنتمي لثقافة الدلتا الغذائية. يحتل محشي الكرنب (الملفوف) مكانة بارزة في النظام الغذائي لسكان قري الدلتا، فيزرع الفلاحون الكرنب علي حدود أراضيهم. ويعد مظهر الكرات المتراصة عند حواف الأراضي من المشاهد الزراعية المميزة للدلتا، ويُطبَخ هذا الطبق الغني بالخضروات والكربوهيدرات عادة يوم الخميس كطقس بديل أو مكمل للحم.
يمثل الأرز غذاءً رئيسًا لمن يعيشون علي الكفاف أو علي مقربة منه من صغار الفلاحين. ويمثل وجود جوال الأرز بالبيت مصدرًا للأمان الغذائي، أو بالأحرى السيادة الغذائية للأسر الريفية الفقيرة في شمال مصر، وهو الدور نفسه الذي يلعبه جوال الدقيق في الجنوب.
الخطر المصاحب لوقف زراعة الأرز بالدلتا إذن لا يهدد فقط البيئة الزراعية والنظام البيئي، كما يهدد الموروث الثقافي والاجتماعي لسكان الشمال؛ بل ويهدد كذلك سُبل عيش وبقاء الفئات الأكثر فقرًا من سكان شمال الدلتا. ولذلك لا يجب التعامل مع مسالة زراعة الأرز كنقطة تفصيلية غير مهمة في اتفاق سد النهضة، لارتباط هذه التفصيلة بسُبل عيش ومصادر دخل ملايين المصريين، كما أنها تتعلق بفقد ثلث مساحة الدلتا، وإهدار لتاريخ طويل من الاستزراع والتوازن الزراعي والبيئي والاجتماعي.
لا عدالة للفلاحين
غياب العدالة البيئية تعني الوصول غير العادل والمتساوي للموارد الطبيعية. ويشتمل مفهوم غياب العدالة البيئية علي التوزيع غير المتكافئ للمكاسب المرتبطة بالموارد الطبيعية مثل الأرض والمياه والمراعي والمصائد بين الفئات المختلفة من السكان. كما أنه يشمل عدم تساوي التكلفة التي يتحملها المنتمون للقطاعات الاجتماعية المختلفة، نتيجة لآثار المشكلات والأزمات المرتبطة بالموارد الطبيعية.
ويؤدي غياب العدالة البيئة إلى تفاقُم الأزمات البيئية للفئات المهمشة من السكان. وقد يكون غياب العدالة نتاج عنصرية بيئية تُوقِعها السلطات ضد فئات معينة من المواطنين. والعنصرية البيئية هي التمييز علي أساس الدين أو الجنس أو النوع أو الطبقة الاجتماعية ضد جماعة معينة، في توزيع المنافع أو تَحمُّل الأعباء البيئية.
مفهوم العنصرية البيئية طوَّره بنيامين شيفيز حين درس العلاقة بين مواقع إلقاء النفايات السامة وتجمعات سكن الأمريكيين السود والطبقات الفقيرة من البيض، حيث تتمركز تلك النفايات بالقرب من مساكنهم، وبعيدًا عن التجمعات السكنية للأمريكيين البِيض الأغنياء. ونتيجة لضغط المجتمع المدني الأمريكي أصدر الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون قرارًا تنفيذيًا يجبر الدولة علي مكافحة عدم العدالة البيئية.
تحمل الأفكار المرتبطة بوقف زراعة الأرز شكلاً من أشكال العنصرية البيئية تجاه الفلاحين، تقودها الدولة وتدعمها النخب الحضرية التي لا تعتمد على الزراعة كمصدر رزق. فالدولة تطلب من مزارعي الأرز وحدهم تحمل آثار أزمة المياه المحتملة نتيجة سد النهضة، دون غيرهم من المواطنين.
تُجبر الدولة الطرف الأضعف في معادلة القوة على دفع الفاتورة كاملة، والطرف الأضعف في المعادلة المائية هم الفلاحون، الذين يضطر معظمهم لزراعة الأرز للحفاظ علي أرضه من الملوحة، خاصة في محافظتي كفر الشيخ والبحيرة، أو للحفاظ على أمانه الغذائي وتحسين سبل عيشه عبر توريد الأرز للتجار، وتخزين احتياجاته المنزلية.
العنصرية تجاه الفلاحين لها مستويات مختلفة تشمل أيضا عنصرية الحضريين تجاه الريفيين. من يصفون مزارعي الأرز بالأنانية وعدم التفكير في المصلحة العامة، يُخفون خلف هذا الاتهام أنانيتهم وخوفهم علي نمط حياتهم وطريقة استخدامهم للمياه. كما أنهم يتحايلون على إظهار خضوعهم لخطاب أنتجته الدولة لتخفي انحيازاها لصالح فئات معينة من المستثمرين ومن يستغلون المياه استغلالاً ترفيًا. يتخفّى هذا الخطاب خلف المصلحة العامة لإسكات صوت الفلاحين وكتم احتجاجاتهم، تحت ضغوط شعبوية تمارس عنفًا هيكليًا منظمًا ضد الفلاحين.
على مدي أكثر من ثلاثين عامًا، روجت أجهزة الدولة لكسل وفشل الفلاحين في الإنتاج الزراعي، لتبرير نزع الدعم عنهم وإغداق الأراضي والمياه والقروض والمزايا على المستثمرين الزراعيين. الآن تعود الدولة والإعلام لتحميل الفلاحين مسؤولية الأزمة، ولكن هذه المرة يتهمونهم "بالإنتاج الزائد" والنشاط الكبير في زراعة الأرز.
الأرز المُنقَذ
ترصد سلسلة البيانات الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن مساحات الأراضِ المزروعة بالأرز تراجعت من 1.5 مليون فدان عام 2003 الي 1.2 مليون فدان عام 2015. وتوضِّح نفس سلسلة البيانات أن عام 2008 شهد زيادة عالية في إنتاج الأرز، لتصل إلى 1.8 مليون فدان. ويمكن إرجاع سبب هذه الزيادة الكبيرة إلى الأزمة الغذائية العالمية عامي 2007 و2008، ما ألجأ الفلاحين وغيرهم من المستهلكين إلى الاعتماد بشكل أكبر على الأرز. وهذا يؤكد الأهمية الغذائية لهذا المحصول، ومحوريته في تحقيق السيادة الغذائية وحماية الحق في الغذاء.
براءة الحبوب البيضاء
تدافع الدولة دائما عن فكرة توفير الاستصلاح الزراعي للمياه، متناسية مجموعة من الحقائق الظاهرة للعيان والمرتبطة بعمليات البخر التي تحدث للقنوات والمسطحات المائية المحفورة للاستصلاح، مثل قناة توشكي وترعة السلام وترعة النقرة، وغيرها من الترع والقنوات المكشوفة، والتي تفقد جزءًا كبيرًا من مياهها عبر البخر.
نسبة الأراضي المروية بمصادر المياه المختلفة المتاحة في مصر عام 2010
المصدر: بيانات التعداد الزراعي لعام 2010- وزارة الزراعة واستصلاح الأراضي.
توضح بيانات توزيع الأراضي الزراعية المنشورة بدورية "نشرة الاستصلاح السنوية" الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن 2015، كانت فيه مساحة الأراضي القديمة المزروعة (الدلتا والوادي) تصل إلى 5.6 مليون فدان، والأراضي المستصلحة الجديدة بلغت حوالي 3.1 مليون فدان، يُسقى منها حوالي مليون ونصف فدان من مياه النيل. أي أن حوالي نصف الأراضي المستصلحة تُسقي من مياه النيل. أضف الي ذلك أن 14% فقط من الأراضي في مصر يلجأ مزارعوها للري بالرش والتنقيط وغيرها من سبل الري الموفرة للمياه، أي أن 1.27 مليون فدان فقط من بين 8.7 مليون فدان تستخدم الري الحديث.
وإذا افترضنا أن جميع هذه الأراضي تقع في المناطق المُستَصلحة، فهذا يعني أن 50% من الأراضي المستصلحة لا تزال تستخدم الري بالغمر، رغم أن قوانين الاستصلاح تجرم ذلك. تُظهر بيانات التعداد الزراعي أيضا أن 27% من الأراضي الزراعية محرومة من الصرف زراعي، وغالبيتها يقع ضمن الأراضي المستصلحة حديثًا، وهذا يسبب تدهور حالة التربة بسرعة كبيرة.
يتم زراعة أراضي المناطق المستصلحة غالبًا بمنتجات تصديرية بالإضافة للأعلاف، وتذهب المنتجات التصديرية ومعظم الأعلاف إلى الخليج، أو تُباع إلى مزارع الأبقار في مصر.
تبرر الدولة الاهتمام بالاستصلاح، بالتصدير الزراعي وتحريك السكان وتوفير المياه، ويؤكد الباحث ديفيد سيمس في كتابه "أحلام الصحراء- تنمية أم كارثة" الصادر بالإنجليزية عن الجامعة الأمريكية بالقاهرة، أن عملية تحريك السكان وانتقالهم للصحراء محدودة جدا، كما أن الاستثمارات والتصدير والاستغلال الزراعي منحسر بشكل كبير. كما يُثبت عبر الصور الجوية انتشار شكل الفيلات المحاطة بحدائق الفاكهة وحمامات السباحة، والتي تُستَغَل كسكن نهاية الأسبوع لأغنياء العاصمة، خاصة في المناطق القريبة من القاهرة. ويتساءل لماذا إذن يتم سحب مياه النيل من الدلتا، وتحديدا من صغار الفلاحين، لري هذه المنتجعات السياحية وهذا الشكل من الاستثمار الزراعي الترفيهي؟
منذ أيام قليلة وقّعت شركة إماراتية عقدًا مع الحكومة المصرية لزراعة 180 ألف فدان بنجر وإنشاء مصنع للسكر. سيحصل الإماراتيون إذن علي مياه لما يقل قليلاً عن 200 ألف فدان في صمت. لم نسمع صوتًا واحدًا يتحدث عن أزمة المياه أو سد النهضة حين أُعلن عن هذا المشروع الضخم، بل قوبل بالتهليل والفرحة. وأخيرا؛ على مدي السنتين الأخيرتين قامت الدولة بتشييد مشروع العاصمة الإدارية الجديدة وأنفقت بالفعل 135 مليار جنيهًا خُصصت لمرافق المرحلة الأولى للعاصمة الجديدة، وتمتلئ الصور الدعائية لها بالبحيرات الصناعية والمسطحات الخضراء الترفيهية.
ماذا لو أنفقت الدولة هذه المليارات على صيانة الترع والمصارف، التي تتكلف 200 إلى 300 مليون جنيه فقط سنويًا، عوضًا عن جمعها من صغار الفلاحين؟ ماذا لو استثمرت الدولة تلك المليارات في تحسين كفاءة الري الزراعي؟ ألم يكن هذا جديرًا بتوفير ملايين الامتار المكعبة من المياه.
في الوقت الذي تصرخ فيه الدولة وخلفها أصوات حضرية (من سكان المُدن) بوعي أو بدون وعي عن إهدار الفلاحين للمياه في زراعة واحد من أهم المحاصيل الزراعية "الأرز"؛ لا تثير سخطهم مناظر الإعلانات التي تعرض لهم المنتجعات وملاعب الجولف، أو حتي البحيرة المائية الخضراء التي تحيط بفندق الماسة الذي تم تشيده بالعاصمة الإدارية الجديدة.
قبل أن نجبر الفلاحين على التخلي عن الأرز
هل تريد الدولة فعلاً حلولاً لأزمة المياه المتوقعة نتيجة سد النهضة دون المساس بحقوق الفلاحين في الحصول علي غذاء آمن؟
يمكنها البدء بمراجعة كافة المسطحات الخضراء والبرك الصناعية، والاستغلال الترفي للمياه في الصحاري والمنتجعات الترفيهية التي تُهدر فيها آلاف الأمتار المكعبة من المياه لأغراض لا تخدم سوى قطاع محدود جدا من المصريين. كما يمكن مراجعة كافة مشروعات الاستصلاح الزراعي، وتقييم العائد من الترع المُشيَّدة والمياه المستخدمة (مياه النيل والجوفية أيضًا).
ويمكن أيضا أن تتخذ الدولة إجراءات مشابهة لتلك التي اتخذتها المملكة العربية السعودية لحماية مواردها المائية عبر منع تصدير الأعلاف الخضراء والمجففة لما في ذلك من إهدار للمياه، وينطبق ذلك على البرسيم والأعلاف التي يتم زراعتها بمساحات شاسعة بغرض التصدير للخليج. كما أنه يمكن تحديد مساحات الموز ومنع زراعته في المناطق المستصلحة أو بغرض التصدير، حيث أنه يستهلك ثلاثة أضعاف ما يستهلكه الأرز من مياه.
كما ستتمكن الدولة من توفير ملايين الأمتار المكعبة من المياه، من خلال تبطين المجاري المائية الفرعية وصيانة الترع والمصارف التي تتعرض للبخر أو تسريب المياه للتربة، مما يؤثر علي جودة الأراضي القديمة عالية الإنتاجية.
هذه الحلول المُقترحة لا تعني عدم مناقشة مساحات زراعة الأرز ومحاولة وقف زيادتها على المليون فدان، لكنها تعني بالأساس النظر إلى مسألة المياه في مجملها، واستخدام أساليب أكثر عدالة وتوازنًا حتى يشعر الفلاحون بجدية الدولة في التعامل مع المسألة بدون تمييز ضدهم وتحميلهم وحدهم أعباء الأزمة.
انحيازات السلطة لصالح فئات معينة من المنتجين والمستهلكين، وغياب العدالة في النفاذ لمياه الري بين الفئات المختلفة للمستخدمين، وتفضيل كبار المستثمرين والزراعات الصحراوية على الفلاحين مزارعي الأرز؛ كل هذا يجعل الفلاحين يشعرون بالظلم، ويدفعهم لمواجهة الدولة أو التحايل عليها، وزيادة مساحات الأرز علي خلاف سياسات الدولة.
الأرز بالدلتا مسألة حياتية تمس معظم السكان، فهو صناعة متكاملة تقوم عليها موارد رزق آلاف الأسر في الريف والمناطق الحضرية المحيطة. ما يجعل إيقاف زراعته كارثة بكل المقايس. أما تخفيض زراعته فيجب أن يتم في إطار حوار مجتمعي حول مسألة المياه. وأتصور أنه يجب أولا إيقاف تصدير الأعلاف المجففة إلى الخليج، وإعادة النظر في مشروعات الاستصلاح والاستهلاك الترفي الحضري للمياه، وصيانة شبكات الري والصرف قبل البدء في وقف زراعة الأرز، كي لا يتحمل الفلاح وحده تكاليف أزمة مياه النيل.