لم يعد صوته العالي مؤثرًا، بدت نبرة صوته المستهزئة مرتعشة، أثناء استضافته في برنامج يتوقف نجاحه على سخونة الاشتباك بين الضيوف. هاجم شابين في مقتبل عمرهما حاولا التحليق خارج السرب، وأصبحت أغانيهما أوسع انتشارًا من أي وقت مضى، لم يُبد الشابان انزعاجًا من سبابه لهما. نظرا إليه باعتباره عجوزًا متعجرفًا تجاوزه الزمن، لدرجة أنه لم يجد سوى السخرية من اسمي شهرتهما، أوكا وأورتيجا.
منذ عقود، توقف الملحن حلمي بكر بطل تلك المشادة عن الإبداع، وصار يلعب دورًا جاهزًا كـ "سبّابٍ فنّي" يستضيفه الصحفيون والمذيعون كي يمارس هوايته التي صارت الآن علامة على حضوره الفني. هو الموسيقي الذي كف عن إنتاج الموسيقى وتفرغ للهجوم على كل وافد جديد عليها.
حلمي بكر ابن لزمن الرقابة على الفنون الإبداعية، الفنون المصنفة طبقيًا كما رسختها دولة يوليو، وقوانين الرقابة التي ابتدعتها تلك الدولة بدعوى حماية النظام العام والآداب ومصالح الدولة العليا.
في السنوات الأخيرة لم يبق في جعبة بكر سوى استعراض صوته العالي، يربط بين سطوته الموسيقية المفترضة، وذكوريته التي تجعله يرفض أن يراجعه أحد، حتى زوجته المُعرّضة للطرد من البيت إن اعترضت يومًا على تأخيره.
التمسح في الزمن الجميل
حفل أضواء المدينة عام 1960.
تُقدِّم المطربة وردة لجمهورها ملحنًا شابًا حصل لتوه على دبلوم المعهد العالي للموسيقى، وبدأ مشواره معها بتلحين أغنية "شوية صبر". لكن تلك الأغنية الناجحة لم تكن كافية كي تضع اسم حلمي بكر ضمن القائمة القصيرة من ملحني جيله، الذين صار يُنظر إليهم كمجددين في الموسيقى العربية المعاصرة مثل كمال الطويل ومحمد الموجي وبليغ حمدي. غير أن بكر نفسه لم يدرك ذلك.
بعدها بعامين، يستخدم كمال الطويل حلمي بكر من أجل عودة ليلى مراد إلى الغناء، ويعده بمكافأة مالية، الخطة أن يدّعِي حلمي أنه مطرب ويريد من ليلى مراد تقييم صوته، يدخل كمال الطويل إلى منزل ليلى وفي يده حلمي بكر، يدندن لها الأغنية ويعجبها اللحن، ويريد منها حضور البروفة في استوديو محمد فوزي في العتبة، فتوافق.
يعرض عليها بكر أن تغنى الأغنية أولاً له حتى ترشده، فتوافق. كانت تلك أول مرة تصعد ليلى مراد منذ زمن للغناء أمام فرقة موسيقية، انسجمت لساعات في الغناء واللحن، وحين انتهت البروفة، فاجأها بكر بأن مهندس الصوت سجل الأغنية بصوتها، واعترف لها أن كمال الطويل استخدمه من أجل تلك الخدعة.
مع الوقت، بات بكر منعزلاً عن جيله، حاول أن ينسب نفسه إلى دائرة لم تر فيه شيئًا مميزًا يجعلها تخاطر بماضيها عبر انتمائه إليها. وقع في خانة خانقة مع عبدالحليم حافظ، اقتصر عمله فيها على تلحين أغاني الدرجة الثانية التي لا تخرج عن الحفلات المنزلية، كأغنية بمناسبة قدوم مولود جديد للملك الحسن، أو أخرى بمناسبة زواج الملك عبد الله بن عبد العزيز. جاءت هذه المعلومات على لسان حليم نفسه في برنامج "منتهى الصراحة" مع الإذاعي وجدي الحكيم.
قال عبد الحليم إنه لا يحب ألحان بكر، لذلك يقصُر تعاونه معه على أغاني الحفلات الخاصة، ما ينفي حكايات بكر الفخورة التي لا تنقطع عن علاقته اللصيقة بعبد الحليم حافظ.
مع تكرار ظهوره في البرامج الحوارية، اختلفت روايات بكر نفسه لتلك المواقف. لكن الثابت في جميع الحوارات المتكررة، أن هذه الأغاني التي لحنها لا يذكرها أحد، حتى مُعدّو البرامج أنفسهم ومقدموها لم يسمعوا عنها من قبل، ولم تحقق نجاحًا يسمح لها بالبقاء في ذاكرة الجمهور.
يعيش بكر على قص روايات جميع أبطالها أموات، من ضمن ما روى أن أغنية "معندكش فكرة" التي غنتها وردة كان من مفترضًا أن تغنيها له أم كلثوم قبل أن تغادر البلاد للمرة الأخيرة من أجل العلاج بعد وفاتها. يحكي كذلك عن علاقة الصداقة التي ربطته بمحمد عبد الوهاب، وهي الحكايات التي طعنها عبد الوهاب في أوراقه الشخصية، حين قال إن رأيه في حلمي بكر أنه "يلحن للموسيقيين، فيهتم بأن يلفت نظر الملحنين أكثر من أي شيء آخر".
إن فاتك الميري..
لكن هناك مرتكز آخر يمكن عليه قياس مدى نجاح حلمي بكر، فطالما كانت الإذاعة في ذلك العصر هي المنفذ الأساسي للغناء والموسيقى. ولكن وجود حلمي بكر في الإذاعة لم يكن بصوت ألحانه، ولكن من خلال منصبه كعضو في لجنة الاستماع التي تتحكم في اعتماد المطربين والملحنين.
يفخر حلمي بكر في لقاءاته وحواراته التلفزيونية بأنه كان وراء استبعاد محمد منير وحميد الشاعري ورفض السماح لهما بالغناء في الإذاعة عندما سمعهما لأول مرة. لا يتعرض بكر لكون أغانيهما صارت عماد العديد من المحطات الإذاعية، بما فيها المحطات الحكومية التي قرر هو يومًا استبعاد صوتيهما منها، ويفوته التعرض لدلالة ظهور هذين الصوتين اللذان كانا ضمن أصوات قادت المشهد الغنائي والموسيقى العربي منذ نهايات سبعينات القرن الماضي.
خلال تلك الفترة، ابتعد حلمي بكر عن المشهد الغنائي، اقتصرت أعماله على تلحين بعض أغاني فوازير رمضان. وتراجع اسمه أكثر عن الساحة الغنائية التي كانت تشهد تغيرات في الألحان، على يد جيل جديد محب للتجريب قادته أسماء مثل عمار الشريعي ويحيى خليل وهاني شنودة، وتبعها موجة جديدة سميت بالأغنية الشبابية بقيادة حميد الشاعري الذي كان سببًا في بزوغ نجم عمرو دياب في تلك الفترة.
أثار نجاح ذلك الجيل موجة غضب بكر، شعر أنه أُقصي من تلك التجربة، فلجأ لاستخدام منصبه كعضو لجنة استماع نقابة الموسيقيين، لإستصدار قرار من النقابة عام 1992 بوقف حميد الشاعري عن العمل، قبل أن يتعاون معه بعدها بسنوات في العمل الدعائي "الحلم العربي" الذي اشترك بكر في تلحينه مع صلاح الشرنوبي ووزعه حميد الشاعري الذي صار مكتشفًا لأغلب مواهب جيله.
الطلقة الأخيرة
يمكن القول إن إخفاق العديد من ألحان حلمي بكر يعود إلى خلوها من أي تجديد موسيقي، بالإضافة للتعقيد المتعمد في الجمل اللحنية واستعراض العضلات، كما ألمح محمد الموجي، خلال حوار تليفزيوني له مع مفيد فوزي.
ترافق هذا التراجع مع استمرار بعض الملحنين القدامى في النجاح مثل سيد مكاوي وبليغ حمدي، وظهور ملحنين من جيل لاحق على بكر، مثل عمار الشريعي وحسن أبو السعود وهاني شنودة الذين حققوا نجاحات على المستوى الفني والتجاري.
خلال التسعينات كانت لحلمي بكر محاولة أخيرة للخروج من شخصية سي السيد؛ قدم مطربة جديدة أحاطها بدعاية كبيرة في حفل ليالي التليفزيون بأغنية "أنت حر"، كان هذا الصوت للمطربة منال، وظهر بكر في مقدمة أغنيتها المصورة يلعب شخصية ملحن كبير، يقف في المطبخ أثناء إعداده القهوة، ويخط لحنًا على الجدران إذ يأتيه الإلهام. يلخص هذا الكليب رؤية بكر لنفسه كفنان من زمن مضى، يحاول فرض قواعده على الواقع. يستطيل اللحن ليصل إلى 10 دقائق، حوالي ثلاثة أضعاف زمن امتداد الأغاني في تلك الفترة.
الملل المصاحب للأغنية كشف عن غياب الروح والموهبة للملحن والمطربة. انعكس ذلك على الموسيقى والإخراج، فبدت الأغنية وكأنها أنتجت قبل إذاعتها بسنوات.
كانت النتيجة بطبيعة الحال هي فشل الأغنية وغرق مطربتها في النسيان، استمرارًا لهزيمة بكر الجماهيرية أمام الشكل الأحدث للأغنية وقتها، المتجلي في الفيديو كليب.
انسف حمامك القديم
هذا لا يعني أن بكر لم يقدم ألحانًا ناجحة؛ لكن عدد الألحان الناجحة له مقارنة بمشواره التلحيني الذي بدأ في عام 1960 يبدو قليلاً. أبرز هذه الألحان "فاكرة وناسية" و"مهما الأيام" لنجاة، و"عرباوي" لمحمد رشدي، و ع اللي جرى لعليا التونسية، وبعض ألحان الفوازير لسمير غانم ونيللي وأغاني مسرحية "سيدتي الجميلة" لفؤاد المهندس وشويكار .
مع دخول الألفية وظهور الفضائيات، قرر بكر لعب دور جديد بعيد عن التلحين، بعدما أعجبه دور المهاجم الشرس لمعظم التجارب الغنائية الجديدة. وجد بكر في المعارك الشخصية مع مطربين صغار مكانة أبوية حلم بالسلطة التي تمنحها طويلا.
أحبت البرامج الساخنة شخصيته الجديدة: شيخ حارة يترحم على زمن الفن الجميل، وضيف في الحوارات الساخنة التي تنتهي بتبادل الشتائم على الهواء.
كمرتضى منصور، صار حلمي بكر ضيف مضمون، سيشهر لسانه في مواجهة الجميع، صاحب تصريحات متناقضة، يهاجم مطربًا اليوم ويمدحه غدًا، والعكس. قادر على الخوض في جميع الموضوعات من الموسيقى للأغنية المصورة، ومن تأييد السيسي إلى استعراض تعدد زيجاته وحياته الشخصية.
عوض حلمي بكر عدم نجاحه الفني بتلك الشخصية الزبونية في الفضائيات. صار نجمًا للتوك شو وحارسًا على قيم الفن، حتى لو اضطر لـ"الردح". يمارس عملية تنفيس، يقوم بها نيابة عن الجمهور المحب لإطلاق طاقاته العدوانية ضد النجوم الذين يحبهم ويحسدهم في نفس الوقت.