أجنبي - عربي.. القلب الغاوي

منشور الاثنين 22 يناير 2018

 

ربما تتقاطع الأغنية العربية في كلمات أغانيها، وربما ألحانها، مع ثقافات غير عربية. ربما يحدث هذا التقاطع باقتباس صانع الأغنية العربية لحنًا عالميًّا معروفًا أو أغنية ناجحةً، ثم يعرّب الكلمات بشكلٍ ما أو بآخر. وربما يحدث التقاطع بأن يؤَلِّف صانع الأغنية العربي كلماتٍ غيرَ عربية ولحنًا من إبداعه بالكامل دون اقتباسٍ يُذكَر. في الحقيقة، تثير هذه التقاطعات أسئلةً تشبه تلك المُثارة حول أمانة الترجمة لأعمال الأدب، ومدى حرية حركة المترجِم في تناول النص الأصلي، فضلًا عن أسئلة أصالة الإبداع وأسئلة الهُوِيّة وغير ذلك.

لا أقَلَّ مِن شخصيّةٍ تتميزُ بهذا التنوّع في تكوينِها الثقافي كالرائع منير مراد (مصريّ من عائلة يهودية؛ تربّى في المدارس الفرنسية، واحتكّ بالثقافة الأوربّية بكثافة)، ليُخرِجَ لنا قطعةً فنّيّةً نادرةً كأغنية "قلبي يا غاوي خمس قارّات"، من فيلم "مطاردة غرامية"، للمخرج نجدي حافظ، من إنتاج عام 1968. الفيلم تمصير لفيلم "What's new pussicat?" الفيلم اﻷول للودي آلن (ككاتب سيناريو)، والذي أخرجه كليف دونر Clive Donner، من إنتاج عام 1965.

الأغنيةُ من أداء الأستاذ فؤاد المهندس والفنّانة شويكار. تنقسمُ إلى ثلاثة أجزاء، الأول لفؤاد المهندس الذي يجسّد دور منير، الطيّار الذي يحبّ منى (شويكار)، لكنّه لا يستطيعُ مقاومةَ المضيفات الجميلات من جنسياتٍ مختلفة، ولا أحذيتِهِنّ! هُنا يلومُ قلبَه على هذا الغرام بالنساء والأحذية. في الثاني تغنّي شويكار، وترقصُ كفتاةِ جيشا يابانيةٍ، وراقصة "كان كان" فرنسية، وراعية بقر أمريكية، وراقصة إسبانية. في الثالث تحدثُ المواجهةُ بينهما وتُظهِرُ حقيقةَ تقمصِها الأدوارَ الأربعة فيعتذرُ لها ولا تقبلُ اعتذارَه.

https://www.youtube.com/watch?v=oxu3lA9csGU&ab_channel=RotanaClassic

 

 

هنا نلمحُ خفةَ دم الشاعر الغنائي الكبير حسين السيد، الذي يوافقُ مقتضى حال غرام منير بنساء القارات الخمس، فيستعير لكلماته مفرداتٍ من حقول الجغرافيا والسياسة والأحداثِ الجارية المهمةِ في تلك اللحظة: "تصبح منهم منطقة حارّة"، "يحصل بيننا غرام فيدِرالي/ شرقي غربي جنوبي شمالي"، "عندك عُقدة من العُتَقِيّة/ وَلاّ دا مِن تأثير الذّرّة؟!"، "روح ما يخيّب لَكش وليّة/ مِ الولايات يابني المتّحِدَة".  كما تتجلّى خِفَةُ دمِه في استخدامِه للمَثَل الشعبيّ والأقوال الدارجة بكثافةٍ تقَرّبُ الأغنية من المتلقّي المصريّ، كما في جُمَل: "زي القرع تمِدّ لبَرَّة" على لسان الأستاذ، و"ماهو أصل قليل الأصل يسيب الأصل وياخد الصورة"، المحتشد بنوع شعبي من الجناس التامّ، و"لما تشوف ودنك حتشوفني ولمّا تعُضّ قفاك تلقاني"، على لسان شويكار. وتتجلى أخيرًا في اختيارِه هذا البَحر (الخَبَب) ذي التفعيلة البسيطة "فَعِلُنْ فَعِلُنْ" مناسبةً لحالةِ الكوميديا الرومانسيّة الخفيفة للفيلم والأوپريت إن جازت التسمية.

أمّا موسيقى منير مراد المذهلة في حيويتِها ونقلاتِها المقاميّة، فتبدأُ بمقدمةٍ موسيقيّة في مقام النهاوند الكُردي على إيقاع المقسوم الراقص، بعد جملة بسيطة في نفس المقام يعزفُها الجيتار الكهربائي، ليتسلّم منه الأكورديون المقدمةَ ثُمّ يُسَلِّمُها للوتريات، ثم يغني الأستاذ الجزء الأول بكامله على نفس المقام والإيقاع.

يبدأ الجزء الثاني بموسيقى يابانية لا تُشعرُنا بالغربة لأنّها في سُلَمٍ خماسيٍّ يابانيٍّ صغير minor pentatonic scale يُشبه السلّم الخماسي النوبي القريب من الذائقة المصرية. يتجاوب الأستاذ مع ظهور فتاة الجيشا شويكار بجملة غيرِ منغومة recitativo "إيه دا؟ يا خبر ابيض!". حين تنتهي شويكار من اليابانية، نفاجَأ بنزول سريع على مقام الراست (وهو المقام الأساسي في الموسيقى العربية من ذوات ثلاثة أرباع التُّون) ليعلّق الأستاذ على ظهور اليابانية في الرّاست أيضًا "ياختي عليها وعلى حلاوتها/ خطفت قلبي بيابانيِّتها"، في معادل موسيقي للهبوط من حُلم اليابان إلى أرض الواقع المصرية، وهو المُعادل الذي سيتكرر بعد كل أغنيةٍ أجنبيةٍ تغنيها شويكار في هذا الجزء الثاني.

تدخل شويكار ثانيةً مرتديةً زيّ راقصات "كان كان }شى-ؤشى" على أنغام مقطوعةِ "Galop Infernal القفزة الجهنمية" في سلّمٍ كبيرٍ مِن أوپريت "أورفيوس في العالم السفلي" للفرنسي جاك أوفنباخ Jacque Offenbach،  وهو أول أوپريت كامل في تاريخ الموسيقى الكلاسيكية، وهذه القطعة أشهر قطعة مرتبطة برقصة "كان كان"، وتم تأليفُها عام 1858.

وتذكَرُنا استعارةُ منير مراد لها بأشهر وأغرب استعارةٍ لها في تاريخ الموسيقى، وهي التي قام بها الفرنسي كاميّ سا-سانس Camille Saint-saens، مع إبطاء إيقاعها الثنائي السريع لتناسب الحركة الرابعة (السُّلَحْفاة) من متتاليتِه (كرنفال الحيوانات) Carnaval des Animaux وهو اختيار نابع في الحقيقة من وعيٍ حادٍّ بالتناقُض والتشابُه لدى سا-سانس.

لكن كفانا استطرادًا، ولنعُد إلى الرقصة الصعبةِ المتطلّبةِ قَدرًا عاليًا من الرشاقة، المثيرةِ جنسيًّا أيضًا حتى أنّ راقصاتِها كان يُلقى القبضُ عليهنّ أحيانًا في القرن التاسع عشر، ويُقالُ إنّ اسمَها مشتقٌّ من الكلمة الفرنسية Cancans بمعنى القيل والقال أو الفضيحة! يحيّي الأستاذُ الظهورَ الثاني لشويكار بجملة مُلقاةٍ كسابقتِها قائلاً: Oh Mon Dieu!. ثُمّ يعلَقُ عليه في مقام الراست كما حدثَ أوّلاً "يا سلام لو تقبلني عريس/ واخُد شهر عسل في باريس".

الظهور الثالث يكون أمريكيّا بأغنية Lay that pistol down - ضعي المسدس جانبًا، في سلم كبير.  ألّفها وغنّاها آل دِكْسْتر Al Dexter عام 1943.

 

ولهذه الأغنية تاريخٌ حيثُ اقتبسَ دكستر موسيقاها من الأغنية الفولكلوريّة Boil them cabbage down الّتي تتحدثُ عن طَهو نوعٍ فقيرٍ من الكعك وتقديمِه مع حساء الكرُنب. ويقولُ المؤرّخُ الموسيقيّ آلان لوماكس Alan lomax إنّها أغنيةٌ ارتبطَت بالعبيد الأفارقة المجلوبين إلى أمريكا من النيجر.

تنتمي الأغنية إلى أغاني الكانتري (الرّيف)، وتؤدّيها شويكار مع إطلاق مسدّسين يمينًا ويسارًا، وهو ما يعطي انطباعًا بالعناد الرَعويّ الأمريكيّ، فالكلماتُ ترجو الفتاةَ أن تلقي السلاحَ جانبًا، والمغنيةُ تطلقُ سلاحَها غيرَ عابئة! يحييها الأستاذ بجُملة !My God ويودعُها في الراست: "أمّا دي حِتَة أمريكانية/ لسة ماشفتش زيّها واحدة".

الظهورُ الرابعُ يكونُ مع موسيقى إسپانيا الغجرية España cañí في السُّلَّم الفريجي Phrygian Mode المنحدر من الموسيقى اليونانية القديمة مع بعض التغيرات عبر الزمن، وهو يعادل مقام الكُرد الشرقي. ألّفها پاسكوال نارّو Pascual Marquina Narro في 1921. وهي من موسيقى الخطوة المزدوجة Pasodoblo الّتي تُعزَفُ فيها الكوردات (التآلفات النغَمية) منفصلةَ النغمات ومتلاحِقة arpeggiated chords.

يحييها الأستاذ بالصيحة الإسپانية "أوليه" ويودعُها بطريقةٍ مختلفةٍ هنا حيث يقول في مقام العَجَم: "فين منى فين؟ تيجي تشوف! دانا منها بقيت مكسوف!"، وربما اختارَ منير مراد هذا الخروج عن عادة اللّحن ليُشعِرَنا بانتهاء الجزء الثاني من الأوپريت.

الظهور الأخير لشويكار يكون في (الملاءة اللَفَ) حيث تقول "أنا جيت!" في مقام الهُزام، في كلمات ولحن تُشِعّ باللوم والرثاء، يعضّدُها إيقاع أيُوب ثُمّ المقسوم، وتستمرُّ في ذاتِ المقام حتى تنتهي من بيان الحقيقة لمنير/الأستاذ، الذي يعودُ بنا إلى مقام النهاوند حين يغنّي "بتقولي إيه؟! بريء يا بيه بريء يا بيه"، ليستمر النهاوند حتى النهاية.

لا يفوتُنا تفاعلُ الأستاذ مع شويكار في الرقص، لدرجةِ تقمُّص الثَّور بينما تتقمصُ هي المُصارِعَ في الفقرة الإسپانية. بالتأكيد هذا التفاعل واحدٌ من تجلّيات (القلب الغاوي) المسيطر على الأوپريت، مع غواية قلب منير مراد، الذي حشَدَ كلَّ هذا الثراء الممتع في عمل أقصر من عشر دقائق، و(تناصَّ) – بلغة نقَاد الأدب – مع الموسيقى العالَمية في أربعة مواضع ليبُرهِن على غواية قلبِه المخلص للجَمال.

انتهاءً، لا يفوتُنا كذلك أن نشيرَ إلى حكاية الغرام العاطفيّ/ الجنسيّ بأحذية السيدات، والتي استخدمها الفيلم كباعثٍ على الضحك. هذا الغرام نوعٌ من الفِتِشِيّة الجنسية fetishism، بمعنى توجُّه الولع الجنسي ناحية أهداف غير بشرية بشكل كامل أو متمّم للولع التقليدي بالجنس الآخَر. يُعرَف هذا النوعُ بالرتيفية retifism نسبةً إلى الكاتب الفرنسي نيكولا-إدمي ريتيف (1734- 1806) Nicolas-Edme Retif الذي اتّسمَت كتاباتُه بالفانتازية الجنسية. وقد وصلَت هذه الفتشِيّة في القرن التاسع عشر إلى عادةٍ كان يمارسُها الطلَبَة العُشّاق في وسطِ أوروبّا، وهي شُربُ الشامپانيا من أحذية خليلاتِهِنّ. وهي العادة التي استلهمَتها علامة الأحذية الفرنسية "لوبوتان Louboutin" عام 2009 حين أنتَجت كأسًا زجاجيةً في شكل حذاء امرأة!

والفِتِشيّة كلمةٌ مشتقّةٌ من اللاتينية من كلمة facticius بمعنى "اصطناعي". وهذا يُذكِّرُنا بناقدة الأدب سوزان سونتاج Susan Sontag في مقالها "ضدّ التأويل Against Interpretation"، الذي تُصَدِّرُه باقتباس من رواية "صورة دوريان جرِاي" لأوسكار وايلد؛ الكاتب المُحتفي بالفنّي والاصطناعيّ والظاهريّ إلى أبعد الحدود. حيثُ تحاول أن تضعَ مصطلح "إيروتيكا الفَنّ erotics of art" بمعنى البحث في آليّات تشكُّل العمل الفنّي على نحوٍ حسّيٍّ يشبه الخبرة الجنسية بوحشيتِها، بديلًا عن جماليات وهرمنيوطيقا الفنِّ، بمعنى البحث عن قواعدَ صارمةٍ تحاولُ الوصولَ إلى النتائجِ من خلالِ مقدماتٍ مَنطقية. يهيأُ لي أنّ هذا العمل الثري الذي أمتعنا به منير مراد مع حسين السيد وفؤاد المهندس وشويكار -بانطلاقه من موضوع فتشِيٍّ وباحتفائه بغواية القلب على كلِّ الأصعِدة: كلماتٍ وموسيقى وأداءً ورقصًًا- يصلُحُ لمحاولة البحث الإيروتيكيّ التي دعَتنا إليها سونتاج، منذ أكثر من خمسين عامًا، وهو ما يمكن أن يُسفِرَ عن خبراتٍ أعمق وأمتع بكثيرٍ ممّا حاولَ أن يلفِتنا إليها هذا المقالُ المتواضع!