تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
توم برَّاك المبعوث الأمريكي لسوريا ولبنان

رسالة توم برّاك: الحدود تراب تحت أقدام القوة

مبعوث ترامب وشريكه يبشّر بلحظة انتقالية نحو عصر جديد لا يعترف بالضمانات

منشور الاثنين 29 أيلول/سبتمبر 2025

خارج البيت الأبيض وقبيل لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بنظيره التركي رجب طيب إردوغان، أدلى السفير الأمريكي في تركيا ومبعوث ترامب الشخصي لسوريا ولبنان توم برّاك بتصريحات مقتضبة أثارت جدلًا واسعًا مفادها أنه "لا يوجد شرق أوسط، بل بشر وعائلات وقبائل وقرى وأديان، ثم في النهاية دول قومية أنشأها اتفاق سايكس - بيكو بين بريطانيا وفرنسا لخلافة إرث الدولة العثمانية".

عندما نضع العبارة إلى جانب تصريحات خطيرة أدلى بها الأسبوع الماضي في لقائه مع المذيعة هادلي جامبل وإطلالات تليفزيونية متفرقة، يمكننا التوصل إلى معالم رؤية إدارة ترامب للمنطقة، بغض النظر عن تسميتها بـ"الشرق الأوسط" أو "الخليج والشام وشمال إفريقيا" أو ربما "محيط إسرائيل"! ولمَ لا والكيان الصهيوني هو أهم حليف يمكن الاستثمار فيه ومعه حتى الآن، وبما يتجاوز دول الخليج التي يتفاخر ترامب بضخ أموالها في الاقتصاد الأمريكي.

مدينة زحلة اللبنانية، جارة الوادي، التي أنشدها أمير الشعر أحمد شوقي "شرفًا عروسَ الأَرز كلُّ خريدة :: تحت السماء من البلاد فداك" هي مسقط رأس والدي توم برّاك وأجداده، لكن قرنًا عاشته الأسرة بين نيويورك وكاليفورنيا خلق منه صديقًا مقربًا من ترامب كمستشار قانوني وعقاري في مانهاتن ثم مناطق أخرى، ثم شريك أساسي في عالم المال والعقارات، حتى لعب دورًا أساسيًا في جمع التبرعات لحملة ترامب الرئاسية الأولى، من خلال مساهمته في تأسيس لجنة للحشد باسم Rebuilding America Now وعيّنه ترامب رئيسًا للجنة التحضيرية لحفل تنصيبه الأول في يناير/كانون الثاني 2017.

ثم اختفى برّاك من الواجهة وإن بقي عنصرًا أساسيًا في الدائرة اللصيقة بترامب. ففي عهد جو بايدن تحوّل إلى هدف سهل لمحاولات الديمقراطيين ملاحقة المجموعة الحاكمة السابقة، فوُجّهت إليه اتهامات من وزارة العدل بالعمل وكيلًا غير شرعي وغير مسجّل لصالح دولة الإمارات للتأثير على السياسة الأمريكية والنأي بها عن التدخل في الخلافات الخليجية، كما اتُّهم بالكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي، لكن هيئة المحلفين برأت برّاك من جميع التهم المنسوبة إليه.

الشريك من الظل إلى الواجهة

يبدو أن هذه المشكلة كانت من دوافع ترامب لنقل شريكه من موقع استشاري خفيّ إلى أروقة العمل السياسي العلني، فكان اختياره سفيرًا لدى تركيا من أول قرارات ترامب على الصعيد الخارجي، واتضح فيما بعد أن هذا المنصب قاعدة انطلاق لمهام أخرى أكثر حيوية وحساسية في المنطقة، فأصبح مبعوثًا إلى سوريا ولبنان، إلى جانب التواصل المستمر مع أصدقائه القدامى في الخليج.

ونجد برّاك حريصًا دومًا على إظهار أنه يعمل على ضوء تعليمات ترامب وفي ظل إرشاداته وفي الإطار المرسوم لمهامه المختلفة، ويفضّل الحديث عنه بلقب my boss ويسهب في إبراز مناقبه زعيمًا سيحقق نجاحًا سريعًا وأننا سنرى في عهده ما لم يتحقق طوال ثمانين عامًا.

المدخل السابق مهم لاستيضاح الموقع الذي يحتله برّاك في عقل ترامب ومن ثمّ في السياسة الأمريكية، بغض النظر عن خبراته الدبلوماسية الضعيفة ومحدودية ثقافته العامة المنعكسة في تصريحاته حتى من قبل دخوله عالم السياسة، لكن الرئيس الذي لا يعرف الفارق بين ألبانيا وأرمينيا يعتبره من مرجعياته الأساسية لفهم طريقة إدارة الأمور وشواغل شعوب المنطقة.

https://www.youtube.com/watch?v=nJNCq4uIfyo

استكشاف لجذور الفاشية الجديدة

الأهم هو وضع تصريحات برّاك في مجموعها تحت المجهر، لندرك أننا نمر بلحظة استثنائية ربما تطابق في حساسيتها فترة تقسيم فلسطين ووضع الرتوش النهائية لقيام دولة إسرائيل والاعتراف الأمريكي بها، والممتدة بين نهاية الحرب العالمية الثانية إلى حرب فلسطين (1945-1948).

نسأل أولًا: لماذا الإشارة إلى سايكس-بيكو؟

لقد مرت 110 سنوات تقريبًا على ذلك الاتفاق السري في حينه بين فرنسا وبريطانيا على تقاسم المناطق العربية بعد هزيمة العثمانيين في الحرب العالمية الأولى، وعلى أساسها لاحقًا عُيّنت الحدود بين سوريا والعراق وصحراء شبه الجزيرة العربية وفلسطين ومصر، وهي حدود لطالما اعتُبرت من قبل القوميين العرب ودعاة الخلافة الإسلامية مجرد خطوط مصطنعة لإشعال النعرات القومية وتقطيع أوصال "الأمّة" لصالح الوطن القومي لليهود، لا سيما وأن وعد بلفور (الصادر في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني 1917) كان من إفرازات المرحلة ذاتها.

وعندما يتحدث برّاك عن اصطناع تلك الحدود "لأن الغرب كان جشعًا بلا شك" حسب تصريحات سابقة له في حوار مع الإعلامي اللبناني ريكاردو كرم في يوليو/تموز الماضي، فإنه لا يقصد بذلك الانتصار لـ"أمّة عربية أو إسلامية" بل يدعو ضمنيًا إلى تقسيم جديد للمنطقة، حسب المصالح الاقتصادية والسياسية.

يتباهى بحاسته السادسة اللبنانية لكنه في الوقت يهين الصحفيين اللبنانيين المفتقرين للتحضر والتسامح والعطف

سأله كرم: هل أمريكا منفتحة على إعادة تعيين الحدود أم إعادة ترسيم مناطق التأثير؟ امتدح برّاك السؤال. لم يُدلِ بإجابة حاسمة لكنه أطلق عدة أسئلة تمثل دعوة صريحة للتحلل من قيود الماضي ووثائقه واتفاقياته، والتركيز على المصالح المشتركة من أجل "الاندماج". قال "الناس يهتمون أولًا بأنفسهم وعائلاتهم وقبائلهم ودينهم. الحدود رُسمت حول القبائل. هل تتغير الحدود التي تنشب حولها المشاكل على خمسة وثلاثة كيلومترات؟ نحن بحاجة إلى طريقة جديدة للنظر إلى بعضنا وإلى الحياة. هل يمكن أن يكون هناك اندماج بدون حرب؟ إن علينا اتخاذ خطوات صغيرة أولًا للتخلص من هذه القضايا".

ضع هذا التصريح المبهم إلى جانب تصريحه مع هادلي جامبل عن القضية الفلسطينية "لماذا لا يقبل أحد أن يأخذ الفلسطينيين؟ إنه لغز حقيقي. لكن الأمر في رأيي المتواضع يتعلق بالهوية وليس بالحدود أو الأرض". وعلى خلفية خبراته القانونية والتفاوضية لا ينطق بالهدف المباشر من عباراته، مكتفيًا بتلميحات إلى ازدراء ثوابت القضية الوطنية وقدسية الأرض.

ربما يتأثر برّاك في هذه الرؤية الفردانية شديدة الذاتية بتاريخه الشخصي، حيث ما زال يؤكد أن حمضه النووي ينتمي إلى زحلة ويتباهى بـ"حاسته السادسة اللبنانية" لكنه في الوقت نفسه يكرر أنه "مدين للحرية الأمريكية" ويهين الصحفيين اللبنانيين في قصر بعبدا ويتحدث عن افتقار المنطقة للتحضر والتسامح والعطف!

ملامح جديدة للمستقبل

إن هذا التعامل الماديّ مع كل شيء انطلاقًا من مصالح الأفراد والمجموعات تعبير أمين عن فاشية صافية، تحتقر الشعوب المتمسكة بتاريخها ولغتها وثقافتها وتدافع عن مستقبلها. هذه القيم بالنسبة لإدارة ترامب التي تخطط لـ"ريفيرا غزة" ظواهر طواها الزمن، تمامًا كحدود سايكس-بيكو. يقول برّاك لريكاردو كرم "حدد ما تريد الوصول إليه بغض النظر عن التواريخ والاتفاقيات والحدود والخطوط الحمراء والخضراء والزرقاء، واعمل على تحقيقه ونحن سنساعدك".

سياسات واشنطن لم تنجح في تغيير الأنظمة وبدلًا عن ذلك "اعمل على تحقيق هدفك وسنساعدك فيه"

وتحت هذا الفهم يمكنك إدراج ما شئت من سيناريوهات مرعبة؛ التهجير.. الضم.. الفصل.. أو إهدار سيادة الدول تحت عنوان الازدهار الاقتصادي والشراكة لنسيان الماضي.

وهنا يأتي السؤال الثاني: ماذا يحكم المنطقة في غياب الحدود؟

يحمل برّاك إجابة واحدة: القوة. نجده مع هادلي جامبل يتحدث بلغة تجمع بين الإعجاب والتبعية التامة عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "بعد السابع من أكتوبر تغير كل شيء. بيبي لا يهتم بالخطوط الحمراء والخضراء والزرقاء (من الواضح أنه يفضل تنويع ألوان الخطوط) فإذا شعر أن حدوده أو شعبه في خطر فسيذهب إلى أي مكان وسيفعل أي شيء full stop"، وبحماسة أكبر يشدد على أن القضاء على "رؤوس الأفعى الإيرانية" ضرورة حتمية للمصالح الأمريكية، لكنه يشير إلى أن "واشنطن لن تفعل شيئًا، بل إسرائيل تواصل توجيه الضربات لحزب الله والحوثيين وحماس، ثم التعامل مع نظام طهران".

نجده يتحدث في الاتجاه ذاته مع ريكاردو كرم عن تركيا، ممتدحًا رئيسها رجب طيب إردوغان وإدارته لعملهم الجاد "لنيل الاحترام والتقدير" معترفًا بأنهم "يستحقونه" لأنهم استطاعوا تنفيذ أجندتهم في دمشق "لولاهم لما كنا سنرى سوريا الجديدة" ومشيدًا أيضًا بمساعدتهم لواشنطن مرارًا في عدة ملفات.

وفي الحوار ذاته، يتحدث عن الرئيس السوري أحمد الشرع ومجموعته كـ"فريق في حرب عصابات يحظى الآن بدعم أمريكا" لماذا؟ "لأن ليس لديهم تاريخ في خيبة الأمل. يضعون أهدافًا ويسعون إلى تحقيقها تدريجيًا"، معترفًا بأن سياسات واشنطن لم تنجح في تغيير الأنظمة وبدلًا عن ذلك "اعمل على تحقيق هدفك وسنساعدك فيه".

أشباح الماضي تعود

الخريطة الرسمية للأراضي الفلسطينية بعد قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة تقسيمها إلى دولتين عربية ويهودية

لا يخلو التعامل مع مناسيب مرتفعة من الفاشية والحقارة من ألم ضروري، إذ لا يحتمل مستقبل الشعوب العربية تكرار المأساة.

لقد كان الأمريكيون عشية تقسيم فلسطين يدركون موقعهم المستقبلي كوريث للإمبراطورية البريطانية، لكنهم ظلوا مترددين في منح الصهاينة أولوية الدعم والاعتراف الكامل خوفًا من تنامي الدور السوفيتي في العالم العربي واحتمالات قطع إمدادات النفط.

وكان الرئيس آنذاك هاري ترومان متشككًا بشدة في نجاح خطة إقامة الدولة الإسرائيلية، وخاطب شعبه والمؤسسات الأمريكية في يونيو/حزيران 1947 مطالبًا بالحذر من أي نشاط يؤدي إلى تأجيج عواطف السكان والمهاجرين في فلسطين وتقويض النظام العام وتشجيع العنف.

بل إن الولايات المتحدة كانت تؤيد فرض قيود على هجرة اليهود، وأوصت الأمم المتحدة بضم يافا إلى المنطقة العربية عند تقسيم فلسطين، وكانت تتمسك في خطابها الدبلوماسي بتكافؤ الفرص بين العرب واليهود وضرورة ضمان تمتع جميع المناطق بالمرافق والخدمات!

غير أن الإسرائيليين نجحوا في إثبات أنهم الطرف الأقوى الأقدر على تأمين المصالح الأمريكية ثم قدرتهم على هزيمة العرب المتشرذمين والمنصرفين إلى مصالحهم الضيقة في حرب 1948، فكان هذا السلاح الذي جعل ترومان يتجاوز رؤيته السلبية لليهود كـ"أنانيين ولا يجوز أن يتحكموا بهذا القدر في العالم" ليصبح المساند الأهم لحصول الكيان على عضوية الأمم المتحدة وأول المساعدات المالية والاتفاقيات التجارية مع واشنطن بين عامي 1949 و1950.(*)

التاريخ يكرر نفسه. فهذا بالضبط الوجه الآخر غير المعلن من تصريحات برّاك وسياسات ترامب: الطرف غير القادر على الدفاع عن نفسه أو الوصول إلى أهدافه لن يحصل على دعمنا، لأننا ببساطة لا نضمن أي شيء لأي طرف. تمامًا كما حدث في العملية الإسرائيلية ضد قطر.

يبشّر برّاك بلحظة انتقالية في المنطقة يرسم قواعدها "بيبي" لأنه الأقوى حتى الآن على الأرض، وتُنذر التائهين بين أوهام الحماية الأمريكية وقواعد الاشتباك القديمة، ومن يراهنون على أن عدالة القضية وحدها تكفي لانتزاع الحقوق.


(*) للمزيد عن تغير الموقف الأمريكي تجاه إسرائيل في عهد ترومان، راجع الجزء الأول من ثلاثية "المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل" لمحمد حسنين هيكل، والحلقة 18 من برنامج "مع هيكل" التي أذيعت عام 2005.