أثار قرار الجامعة الأمريكية بالقاهرة بمنع ارتداء الدارسات بها النقاب، جدلًا واسعًا ما بين مؤيد ومعارض، تمحور الجدل حول الحرية الشخصية ووضع قيود عليها، رأى بعضهم في القرار حربًا على الإسلام، ورآه آخرون حربًا على الحرية، ونظر إليه آخرون من زاوية مختلفة خاصة باعتبارات ظرفية، أمنية واجتماعية.
سبق وأن أدليت بتصوري حول تلك القضية في تعليقات موجزة واكتفيت، إلا أن الصديق الكاتب تامر وجيه أثار رغبتي في الاشتباك مجددًا معها. كتب وجيه منشورًا مطولًا على صفحته بفيسبوك، أعاد فيه استدعاء القضية التي أوشكت على الغياب. ورأيت أنه من المهم الاشتباك مع ما كتبه لما تضمنه من أفكار تستحق التوقف والنظر، ولأني أختلف معها بقوة.
مقال وجيه نظر الى القضية باعتبارها مساس بـ "حق الناس في إنهم يلبسوا اللي عايزينه: اللي عايزة تقلع الحجاب تقلعه، اللي عايزة تلبس مايوه تلبسه، اللي عايز يطول شعره هو حر، واللي عايزة تلبس نقاب تلبسه ".
وأن التحفظ – مجرد التحفظ – الذي أثاره البعض على ارتداء النقاب في نطاق التعاملات الوظيفية والدراسية التي تشهد جمهورا أو طلابًا، هو مما يدخل في "دائرة معاداة الحريات"، حيث شن هجومًا عنيفًا على هذا التحفظ معتبرًا إياه تعبيرًا عن موقف دولتي محافظ متخفٍ في مظهر حداثة (متأخرة – حسب تعبيره)، وأعرُج مباشرة على تصورات وجيه لمناقشتها.
هذا الخلط المدهش
في معرض هجومه على المتحفظين اتهمهم بـ "التخفي وراء التجريد، ونفي السياق التاريخي الاجتماعي دفاعًا عن موقف هو في أساسه، مش قادر يبلع الحريات والتمن اللي المفروض يتدفع لحمايتها".
وردًا على ما اعتبره المتحفظون – وأنا منهم – الذين أثاروا مشكلة النقاب كلثام قد يتخفى فيه إرهابيون أو مجرمون جنائيون، رجالًا أو نساءً، لارتكاب جرائم آمنة نسبيًا، مما يجعل من الصعوبة بمكان التعرف على الجاني الذي قد يكون غير أنثى أصلًا بينما سيدور البحث عن أنثى/مجهولة. قال: "لو الحجة دي صحيحة فعلًا ومتسقة فعلًا يبقى لازم معارضي النقاب يعارضوا حاجات تانية كتير. لازم مثلًا يعارضوا كتير من عمليات التجميل اللي بتغير شكل الناس، ولازم مثلا يعارضوا البواريك اللي ممكن تخفي هوية، ولازم مثلًا يعارضوا الماكياج والنيولوك ومليون حاجة تانية، لأن كل ده ممكن يخلي الناس متعرفش واحد شكله حاجة وبالماكياج والنيولوك والقصة الجديدة شكله اتغير جدًا. كمان لو الحجة دي صحيحة يبقى لازم يكون فيه كره ومعارضة للمنتمين لقبائل أو إثنيات أقلية أو ما شابه، اللي تراثهم يتضمن إخفاء الوجه كليًا أو جزئيًا أو يتضمن عمل تشريط في الوش أو لبس أقنعة أو شعر مستعار أو وضع مساحيق تقيلة... إلخ".
يقوم وجيه هنا بخلط مدهش بين سلوك اجتماعي يومي عند الغالبية العظمى من البشر، وهو التجمل أو التزين، معتبرًا إياه مماثلًا للتخفي، الإخفاء التام للوجه وللهوية، فمثلًا يمكن بسهولة إخفاء سلاح ما تحت النقاب، بينما تصور إخفاء سلاح تحت الميك أب يدخل في باب الخيال العلمي، والتجمل لا يخفي هوية صاحبه أو صاحبته حتى يمكن اتهامه بالتخفي، ولا يخفي الانطباعات عند التعامل، ويقدم هوية بصرية في نطاق التفاعل الاجتماعي، بينما النقاب يحجب كليًا الهوية البصرية.
أضف الى ذلك أن لبس باروكة أو وضع عدسات لاصقة مما يغير شكل العين هو أمر شديدة التفاهة في مسألة التخفي الإجرامي، يسهل على محقق جنائي مبتدئ استخدام قسمات الوجه مع برنامج فوتو شوب بسيط للوصول إلى الصورة الحقيقية للجاني من خلال إدلاء شهود بالملامح التنكرية (الملامح وليس الحجب الكلي للملامح)، وعمليًا لم نسمع حتى الآن عن استخدام التزين لدرجة الوصول عمليًا إلى مستوى التخفي.
قس على ذلك النوع الآخر من الخلط، حيث يقارن مع أقوام لهم عاداتهم القبلية أو الاجتماعية التي تنطوي على عادات مغايرة للمجتمعات الحديثة بأزيائها وعاداتها، مثل الهنود أو الأفارقة مثلًا، "هل علينا أن نكرههم؟" كما يشير وجيه مستنكرًا.
القضية هنا لا تتعلق أصلًا بمشاعر الحب والكره بأية صورة، ولا مبرر على الإطلاق لاستدعاء قضية الشعور النفسي في مناقشة تلك القضية، فضلًا عن أن لها جانبين، لو أن هؤلاء المغايرين ثقافيًا داخل نطاقهم الخاص لن تثار مشكلة على الإطلاق لا اجتماعية ولا نفسية ولا قيمة لأي رأى بيننا – خارج حدودهم كليا - بخصوصه.
أما لو أن أحدهم يتفاعل مع جماعة أو مجتمع آخر فالقاعدة هي أن يراعي الوافد تقاليد المجتمع المضيف، وهي قاعدة تتعلق بقبوله والتفاعل معه وعدم رفضه، ولا يصل الأمر إلى حظر (تشريط في الوش أو لبس أقنعة أو شعر مستعار أو وضع مساحيق تقيلة... إلخ). فالمجتمعات الحديثة تتحفظ فقط على ما يخالف بقوة أعرافها الاجتماعية، أو يمثل خطرًا محتملًا مثل الأقنعة او النقاب أو التلثيم بوجه عام. سواء تعلق ذلك بزائر أفريقي/ هندي، أو مواطنين مصريين. هذا النوع من المقارنات يفقد النقاش جديته فعلًا.
يحاول وجيه إظهار الأمر كعداء مجرد للنقاب، متجاهلًا أمرين، أن النقاب – قبل الاستخدام الجنائي له – لم يكن محل تحفظ على الإطلاق، ولكن فقط وجهت إليه انتقادات ثقافية وحضارية تتعلق بمدى اعتباره جزءًا فعليًا من شرائع الدين، أو أثره على الشخصية من حيث التفاعل في النطاق العام، أو التعرض لانعزال وحصر اجتماعي، أو دلالته في قضية النظر الى المرأة كمحض جسد يثير الشهوة والفتن فحسب، ولذا يجب حجبه كليًا. فمنذ عقود غابرة ارتدت المرأة المصرية الملاية واليشمك وبعدهما البرقع ولم يثر ذلك أية تحفظات، وفي الثمانينيات لم يكن هناك سوى تحفظ ثقافي دون مخاوف واعتبارات جنائية، لكن تطورات الظرف السياسي والاجتماعي، وكثرة استخدام جنائيين للنقاب، والوقوع تحت تهديد زرع متفجرات أو ارتكاب جرائم، طرح قضية النقاب بصورة مختلفة، خاصة عند التفاعل مع مؤسسات، فضلًا عن أهمية التفاعل الانطباعي البصري بين الطبيب والمريض، أو التلميذ والمدرس، ووظيفته اللازمة لمثل تلك المهن. ليس الأمر كما يزعم وجيه، أننا "مشغولين بالنقاب بس"، أو أننا نقول ذلك من باب العداء – كما يلمح - للإسلام أو الإسلامين "الهجوم على النقاب هجوم تاريخي ملموس مهما خد شكل مجرد، وهو هجوم على تيار محدد وفكر محدد". أو بقية تهمه الموجهة للمتحفظين. إن وجيه هنا هو الذي يقوم بما يرمى به المتحفظين، عدم النظر للموضوع "بدءًَا من فهم سياقه التاريخي والاجتماعي".
نعم هناك قيود على الفردية المطلقة
وجيه وقد أخذته الحماسة في معرض دفاعه، ضرب المثل الآتي: "لما رحت أدرس في جامعة في مدينة في جنوب بريطانيا وشفت إن الجامعة ملهاش أصلًا سور واللي يخش يخش استغربت وسألت نفسي لوهلة: هو إيه ده؟ هي سبهللة؟ الناس تخش كده من غير أسوار؟"
ليصل من خلاله إلى النتيجة التالية - "أيوه الناس تخش من غير أسوار. وأيوه كاميرات الشوارع والمحلات دي تعدي على الناس، وتعدي وسخ كمان. وأيوه فكرة البطايق والكارنيهات دي فكرة جديدة وعمرها قصير جدًا. وأيوه الباسبورات والحدود دي أفكار جديدة. ومش لازم تكون صح. وليس لها علاقة بالتنظيم وتحسين الحياة وإنما ليها علاقة بإن الحداثة المتأخرة تميل ناحية الرقابة على وضبط أجساد البشر بشكل مطلق ونهائي لا فكاك منه". مستنكرًا "الهسهس الأمني" والمساهمة في "سردية الضبط والرقابة الدولتية".
هذا التعبير، "الهسهس الأمني"، يذكرنا بالمقالات الإنشائية حول "الإسلاموفوبيا" التي تكاد تقنعنا بأن داعش والقاعدة وفروعهما وأشباهما المنتشرين كالسرطان ليسوا سوى تهيؤات وتخيلات تصورها لنا نفوسنا المريضة، وعقولنا المرتابة، وما نسمعه من انفجارات أو ما نراه من ذبح وأسر مجرد أوهام بصرية أو مبالغات إعلامية.
يدعو وجيه هنا ضمنيًا إلى نوع من الحرية التي تفترض لتحققها وصول العالم برمته إلى حلم ماركس بالمجتمع الشيوعي، حيث يمكن إلغاء الهويات الوطنية والشخصية وجوازات السفر والحدود وحتى الدولة وأنظمتها الأمنية، نتمنى ذلك بالفعل وبصدق شديد ، لكن التمني لا يحل مشكلات العالم الواقعي، وليست الحدود فكرة "جديدة" بل هي أصلًا من أقدم الأفكار، ليس الإنسانية فحسب بل ما قبل الإنسان والمجتمعات البشرية عمومًا، فكل قطيع في الحياة الحيوانية إلى الآن له مناطق نفوذه (أي حدوده المحلية) التي لا يسمح لغيره بالاقتراب منها إلا بقتال عنيف، وليس ذلك بالقطع إحدى الغرائز، لكنه ضرورة تنظيمية واقتصادية واجتماعية تمليها حياة الجماعات إلى الآن، ولا توجد في أي من الأنظمة الاجتماعية حرية فردية تخلو مما يسميه "سردية الرقابة المستمرة للأفراد وضبط أجساد البشر"، ولكن تكمن المشكلة في أمرين .. صيغة المبالغة والتعميم التي يستخدمها وجيه، وتحديد الحدود التي تكون فيها المراقبة أو المعاقبة (ضبط الأجساد) مقبولة لصالح الجماعة الاجتماعية أو أغلبيتها.
كل نظام دولة يسعى وسيسعى لنوع ودرجة من الضبط العام، ويحتاج إلى قدر من الرقابة أو المراقبة لعمل ذلك، ثمة حاجة لدى جميع الأنظمة الاجتماعية إلى ما يمكن تسميته بالأمن الوقائي، مثل الحاجة إلى الطب الوقائي تمامًا، وتظل مشكلاته هي تعيين قدره وحدوده بما لا يحوله إلى ضبط تعسفي، أو انتهاك لخصوصية لا ضرر منها على الجماعة الاجتماعية، في ظل عالم تنافسي وصراعات وضرورات وتنظيمات تشريعية وتقسيمات طبقية وامتيازات فئوية وحرمانات الخ، سيكون كل ذلك ضروريًا إلى أن يتم القضاء على أساسه المادي ربما في العالم برمته، حيث تزول المخاطر والضرورات التي تفرض مثل تلك الأمور.
يمكن هنا طرح موقف الحكومة البريطانية من قضية ارتداء النقاب في المدارس، كمثال، حيث قررت أن الأمر متروك للمدارس تقرره حسب ظروفها دون تدخل من الدولة، ورفضت تعميم الموقف منه حظرًا أو قبولًا. بينما الأمر خلافي في فرنسا وألمانيا، وعلى صعيد حقوق الإنسان أقرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة.
فالقضية ليست هكذا بالتبسيط الذي طرحه الكاتب ناسبًا إياه إلى مجتمعات "الحداثة المتأخرة".
من غير المستساغ وجود حظر عام على حرية ارتداء النقاب، مهما كان رأينا فيه، وبالمثل أيضا تصور إطلاق تلك الحرية في ارتدائه في كل الأماكن وفى كل الظروف، فما من حرية مطلقة سوى حرية التخيل والتمني، وبدرجة ما حرية التعبير، عداهما كل الحريات مرتبطة "في ممارستها الاجتماعية" بالظرف الذي تمارس فيه، وبتقدير الجماعة الاجتماعية لحدود ممارسته، وهذا التقدير هو أمر خلافي لا شك، لكن المبدأ ذاته – نسبية الحرية وأولوية حاجات الجماعة على رغبات الفرد – ليس محل خلاف، لا في التصورات الحقوقية ولا في الفلسفات السياسية، إن شئت حرية مطلقة – حيث لا حدود ولا جواز ولا هويات أو قيود – فأمامك الصحراء ، حيث لا أسوار، ولا التنظيمات الاجتماعية وما تتطلبه من شروط (عامة) تحد من الرغبات الشخصية.