تصوير ريم جهاد
أطباق رز بلبن مرشوش عليها الفستق المطحون والزبيب، يونيو 2025

طبق أبيض يحبنا ونحبه.. موجز تاريخ الرز بلبن

منشور الخميس 10 يوليو 2025

كتبتْ صديقة مصرية في محادثة على جروب واتساب "والله لما تخلص الحرب في غزة هقف في شارعنا وأوزع رز بلبن ع الناس"، فردت عليها صديقة فلسطينية "في بعض مناطق فلسطين يوزعونه في خميس الميت". ضحكنا، وقلنا جميعًا إننا سنوزع أي شيء يحلو لأهل فلسطين حين تنزاح الغُمَّة.

ذكَّرني الحديث العابر بقدر الأمان الذي يغمرني وأن أرى الأرز باللبن يوزَّع على الناس في الشارع أو على ضيوف البيت. هذا الطبق الأبيض الطيب الذي لا يتطلب تحضيره سوى مكونات وخطوات بسيطة، وله أثر السحر على النفوس، فهو حلوى الطفولة وذكريات التنافس على الفوز بالأرز القليل الشهي في قعر الحلة بعد حكِّه، والشوق بلا صبر في انتظار أن يبرد في الثلاجة.

أحببته جدًا في طفولتي، خصوصًا مع جوز الهند المبشور، وكنت منبهرة بالطبقة الرقيقة المتجمدة على سطحه، ليس فقط لطعمها المُشبَّع بالفانيليا لكن أيضًا لقوامها وملمسها، حتى أنني تسللت ذات مرة في الليل إلى المطبخ وأخرجت من الثلاجة طبقًا زجاجيًا به أرز باللبن أعدَّته أمي، وأمَلتُه بحذر لأرى إلى أي مدى ستصمد هذه الطبقة العجيبة، وما زاوية الميل التي ستسقط فيها بفعل ثقل الأرز تحتها؟

انتهت تجربتي الليلية نهاية غير سعيدة. اندلق الأرز على الأرض وسقط الطبق وانكسر وانكشف أمري. لم أتحسر على كسر الطبق بقدر حسرتي على إهدار الكنز الثمين من اللؤلؤ الطري الأبيض الذي كان داخله.

عشرة عمر

اعتاد المصريون على توزيع أطباق الأرز باللبن على الجيران والمعارف وأهل الشارع في المناسبات السعيدة مثل سبوع المولود والطهور ونجاح الطلاب والوفاء بالنذر، بل ننتهز أي فرصة للفرح لمشاركة الجموع الأرز باللبن، كهؤلاء النسوة في سوهاج اللاتي وزعنه احتفالًا بإعادة فتح المساجد للصلاة بعد انحسار جائحة كورونا في 2020. كما نوزعه في ذكرى الميت تكريمًا لروحه وطمعًا في إثقال ميزانه بالحسنات، كما يوزع عند مساجد الأولياء الصالحين على سبيل الصدقة.  

https://www.youtube.com/watch?v=ADGMWpKEByU

لكني أتساءل لماذا الرز باللبن بالذات الذي يختاره المصريون ليعم الفرح وتزيد البركة ويرضى الله عنهم؟ هو ليس طعامًا يُشبع الأجواف وحسب، مثل القُرَص التي توزع في المقابر، بل حلوى لذيذة معدة بعناية، ترطب الجسد في الجو الحار، وهو ما يشترك معنا فيها أهل الشام إذ يقولون عنه "كل ما يبرد بيطيب".

يكسبنا تناولُه سعادة لا أعرف ما سرها؟ هل لأن لونه أبيض يذكر بنقاء القلب؟ نقول إنه طعام الملائكة، يأكلونه مع أطفالنا عندما يغطون في سبات عميق نظل نتمنى نصف راحته بقية عمرنا. وهو عنوان تدوينة للكاتبة رحاب بسام أسرتنا قبل عشرين عامًا، وتحولت إلى كتاب ما زلت أحتفظ به في مكتبتي.

أصل وفصل

تتنافس حضارات العرب والعالم في الفوز بلقب أول من أهدى الأرز باللبن إلى البشرية. في الصين، حيث زرع الفلاحون الأرز قبل حوالي تسعة آلاف عام، ظهر طبق باسم الكنوز الثمانية أساسه الأرز والسكر مع إضافة الحبوب والمكسرات والفواكه المجففة، يُزعم أنه صنع لأول مرة إجلالًا لثمانية ضباط شجعان منذ نحو ألف عام قبل الميلاد.

وفي الهند ذكر طبقٌ من الأرز واللبن والسكر في ملحمتي مهابهاراتا ورامايانا الهنديتين اللتين يرجع تاريخ كتابتهما إلى نحو ثلاثة قرون قبل الميلاد، ويزعم أن الأحداث وقعت قبل ذلك بكثير. يطلق اليوم على الطبق اسم كير

في إيران وجدت حلوى من الأرز والسكر قبل قرون بعيدة لونها أصفر واسمها "شُله زَرد"

يؤرخ حبيب سلوم في كتابه أطيب الحلويات من ألف ليلة وليلة الصادر بالإنجليزية عام 2013 لأشهر حلويات الشرق الأوسط، ويوثق فيه الأرز الحلو، بدون حليب، والمهلبية التي نسبت إلى المهلب بن أبي صفرة، أحد ولاة الأمويين، لكنه حين يذكر الرز بلبن لا يبدو أن ثمة تاريخًا أو واقعة واضحة أنجبته لنا كما نعرفه اليوم.   

يشير سلوم إلى كتاب الطبيخ وإصلاح الأغذية المأكولات وطيبات الأطعمة المصنوعات لأبي محمد المظفر بن نصر بن سيار الوراق، الذي يعد من أشهر الوثائق الموسوعية عن الطبخ في العصر العباسي، يرجح العلماء تاريخ كتابته إلى القرن الرابع الهجري ومعاصرة المؤلف للخليفة العباسي المستكفي بالله. يذكر الوراق في كتابه وصفة بعنوان "مهلبية من نسخة المأمون" تصنع من الحليب والأرز المطحون ويضاف إليها السمن والسكر.  

سكرين شوت من الكتاب، ريم جهاد، يونيو 2025

ثم نرى في كتاب الطبيب البغدادي ابن جزلة منهاج البيان فيما يستعمله الإنسان الذي كُتب في القرن الخامس الهجري الأرز باللبن مذكورًا بوضوح، لكنه جاء ضمن كتاب عن فوائد وأضرار مختلف الأطعمة من وجهة نظر طبية.

أما في كتاب مطالع البدور في منازل السرور فكتب المؤلف علاء الدين الغزولي (توفي عام 1412م) أن الكثير من حكام العراق كانوا يقدمون الرز بلبن والسكر في بداية الطعام "ثم يتبعونه ما شاءوا، إيثارًا له على غيره"، ويشير إلى إيمانهم بفوائده الصحية، التي من بينها إطالة العمر لأنه "يولد أحلامًا صحيحة، فإذا صحت الأحلام فهي من زيادة النوم على اليقظة لأن النوم موت واليقظة حياة".

وفي إيران وجدت حلوى من الأرز والسكر قبل قرون بعيدة لونها أصفر واسمها شُله زَرد، لكنهم لا يصنعونها بالحليب، بل يضيفون إليها ماء الورد والحبهان والزعفران. أما في تركيا فيرجح أن أول توثيق للأرز باللبن بنسخته الأقرب لما نأكل اليوم جاء في عهد الدولة العثمانية في القرن الخامس عشر الميلادي، ويسمونه اليوم سوتلاج وهو يوضع في الفرن حتى يتكرمل سطحه ويصير لونه بين البني والذهبي. 

اليوم وغدًا

سافر الرز بلبن إلى أوروبا، وأصبح من الأطباق الكلاسيكية في بريطانيا، ويصنع الإيطاليون كعك الرز بلبن المشبع بالخمر، أما في الدنمارك فيأكلونه مع صلصة التوت المسكرة، وهو حلوى تقليدية في فرنسا يقدم الطهاة المشاهير طريقة أمهاتهم وجداتهم في صنعه، أما في الولايات المتحدة فجعلوا له عيدًا سنويًا يحتفل به هواة الطبخ في أغسطس/آب من كل عام، وهو موجود حتى في أمريكا اللاتينية حيث يشاركوننا نفس لفظ كلمة "أرز".  

في بلادنا العربية نلتف حوله وإن اختلفت طرق تحضيره وتعددت أسماؤه. يُطلق عليه في السودان كما في مصر "رز بلبن"، لكنه أثار بلبلة عن غير عمد عندما وضع في قدر ضخم على عربة للأمتعة في مطار الخرطوم وقُدم للمسافرين قبل عدة سنوات.

هو "محلبية" في تونس، و"أرز بحليب" أو بحتة في بلاد الشام. هذا الطبق استطاع أن يحل زائرًا محبوبًا في بيوت كل البشر، بل ويتباهى كل منهم به وكأنه إنجازه الشخصي، نتشابه في هذا الأمر أكثر مما نختلف.    

أشعر أني سأكون كاذبةً لو تمنيت في نهاية المقال أن تنتهي الحرب قريبًا ونجتمع كلنا حول أطباق الأرز باللبن، لا أشعر أن النهاية تلوح في الأفق، يؤلمني التفكير في الأيام المقبلة كالكثيرين ويخيفني، وترددت قبل الكتابة عن هذا الطبق بينما الاحتلال يُجوّع ويقتل الأطفال في الأرض التي لم يطأها أغلبنا، ولكن تتعلق بها قلوبنا.

أتخيلني في فلسطين، هناك حيث الرمال بلون الذهب، مشبعة برائحة البحر والبرتقال والزعتر، حيث تحمل الريح نغمات الناي يغني معها أحمد قعبور "يا رايح صوب بلادي دخلك وصللي السلام..."، تسيل دموعنا، وتختنق حلوقنا بمرارة القهر حين يقول "ونادي كان في عنّا ساحة نلعب فيها من زمان، ونادي كانت حول بيوتهن حلوة أشجار الرمان، قطعوها وبقيت واحدة... اسقوها شوية حرام...".*


*غنى الفنان اللبناني أحمد قعبور أغنيته الحزينة "يا رايح" من كلماته وألحانه في ألبوم حب الصادر عام 1985 أثناء الحرب في جنوب لبنان، ولكنها اقترنت أيضًا بفلسطين وأهلها النازحين، وكل من يؤلمه حال البلاد.