الأسبوع الماضي، أكمل أيمن موسى عامه الحادي والثلاثين من عمره الذي قضى نحو ثلثه حبيسًا، إذ سُجن وهو في التاسعة عشرة بعد القبض عليه من مظاهرة في أكتوبر/تشرين الأول 2013. ومنذ ذلك التاريخ قبل 11 سنةً، وهو وراء القضبان.
كتبت، كعادتي السنوية، بوست عن عشرينياته التي سُرقت منه لأجل مظاهرة. عن الضوء الذي انطفأ في عينيه، ورغبته في الموت أمام سجن لا تلوح نهايته في الأفق وحياة دُمِّرت بغير رجعة. إذا كنت تتابع السوشيال ميديا، لربما تعثَّرت في البوست؛ شاركتَه أو دمعت عيناك ودعوتَ له بالفرج. لربما أيضًا رأيت الهجمة المضادة المعتادة من اللجان وصحفيي بير السلم في كل مرة يشتعل الإنترنت بالتعاطف مع القضايا التي تشبه قضية أيمن.
أقالوا لك إن هناك الكثير مما تجهله خلف الكواليس؟ إنه إرهابي؟ أسمعتَ حكاية علم داعش وصورة الكلاشينكوف؟ أم أرسل لك أحدهم صورة إسلام يَكَن في سوريا وقال لك إنه أيمن؟ انتظر، لا تقل، صورة اللحية الطويلة في السجن؟
عندما يسمع أيمن تلك الإشاعات، يكاد يبكي من القهر. "عملتلهم إيه عشان يكرهوني كده؟" يسأل في رسائله. "عايزين مني إيه مش فاهم؟ أموت هنا؟".
الكثير يسأل: ماذا نصدق؟ أيُّ أيمن هو أيمن الحقيقي؟
للمرة الأولى، سأشتبك اليوم مع كل ما قيل عبر سنين بشكل تفصيلي، مبينًا حقيقة التشويه العمدي لأيمن وقضيته من منظور قانوني وتوثيقي، وخبرتي الشخصية كفرد من القضية نفسها أمضيت 6 سنوات زميلًا لهم، حتى حالفني الحظ وبعض المعجزات لأكون اليوم على هذا الجانب من الجدار.. لا بجوار أيمن.
سأحكي لكم عن أيمن وقضيتنا: قضية 10325 جنايات الأزبكية لسنة 2013، وعن حكم الـ15 عامًا من السجن المشدد حكمًا باتًا نهائيًا غير قابل للطعن عليه، بتهمة التجمهر.
حَوَت القضية 68 فردًا قُبض عليهم يوم 6 أكتوبر 2013 من مظاهرات منطقة رمسيس وشوارعها الجانبية على مدار اليوم من شتى الخلفيات: إخوان وسلفيون وليبراليون وألتراس زملكاوي ومراهقون بلا انتماءات مثلي وأيمن، جميعهم حمّسهم للنزول ما رأوه من مجازر على شاشاتهم.
في القضية إخوة وأبناء عمومة وآباء وأبناء، تصل لعائلة كاملة من أب وابن وعم وابن عم. أحد أفراد القضية متظاهرٌ زنقه البلطجية في مدخل مبنى وأبرحوه ضربًا حتى لم يعد معروفًا وجهه من قفاه، ليتدخل أحد المارة لتسليكه منهم، فيأتي الأمن ليقبض على الاثنين، المتظاهر والمار.
بالقضية تسعة أحراز بالعدد: كتاب، كمامة طبية، كاميرا، تي-شيرت عليه علامة سياسية، ومنشورات. ليس أي من تلك الأحراز مضبوطًا مع أيمن، أيمن بلا أحراز، وهذا مثبت في ورق القضية الرسمي.
الآن، دعنا نبدأ.
اتهامات القتل.. أو: دا قاتل ظبَّاط!
لم يُقتل في السادس من أكتوبر 2013 أي فرد شرطة. لم يُجرح حتى أي فرد شرطة. حتى الشرطة نفسها لم تزعم ذلك. في قضية أيمن لا توجد أي اتهامات لأي من المتهمين أفرادًا أو مجتمعين بقتل أي أفراد شرطة.
وزارة الصحة أعلنت مقتل 57 شخصًا في البلد يومها، مؤكدة أن ليس بينهم فرد شرطة. من هؤلاء الـ57، 32 قتلوا في رمسيس.
من القتلى إذن؟
- الإجابة: كلهم من المتظاهرين برصاص الشرطة.
تلطم اللجان الإلكترونية الموالية للدولة عندما نطالب بالعفو عن أفراد القضية: ماذا عن دم الضحايا الـ32؟! نعفو عن قاتليهم؟ وماذا نقول لأهاليهم؟ تساؤلات فكاهية على الأكثر، وكأن القتلى والسجناء لم يكونوا وجوهًا متجاورةً.
هناك ثلاثة أصدقاء نزلوا للمظاهرة يومها، قُتل أحدهم، يُدعى مالك، وقُبض على صديقيه. صار الاثنان زملاءنا في القضية، ليجدوا أنفسهم متهمين بقتل صديقهم الذي خرَّ بجوارهم برصاص الشرطة. أيٌّ من ثلاثتهم كان ممكنًا أن يُقتل في تلك اللحظة، لكن القدر اختار مالك.
في المحاضر، شهد الأهالي بأن ذويهم كانوا من المتظاهرين وقُتلوا برصاص الشرطة، وجاء والد مالك للمحكمة بنفسه ليشهد لأصدقاء ابنه ويتهم الشرطة بقتله.
عبثية الاتهام الأكبر منبعها السؤال الأهم: بأي دليل تزعمون أن المتهمين قتلوا أيَّ أحد؟ وهذا يأخذنا للاتهام التالي.
تجمهر مسلح.. دا متصور بكلاشينكوف!
كذبة محضة. التالي من نص حيثيات الحكم علينا جماعيًا في قضيتنا بالسجن 15 عامًا:
"وحيث إنه بالنسبة لحمل المتهمين أسلحة نارية آلية، فالمحكمة لا تساير النيابة العامة في أن المتهمين استعملوا أسلحة آلية في ارتكاب جرائمهم، حيث إنه لم يضبط مع أي منهم سلاح آلي. ومن ثم، فإن المحكمة تستبعد في وصف التهمة حيازة وإحراز أسلحة نارية".
حتى محكمة دوائر الإرهاب، التي أنشئت تحديدًا للتنكيل بمعتقلي تلك المرحلة، استشعرت الحرج من مسايرة النيابة اتهام المتهمين في القضية بحمل السلاح في ظل غياب هذا السلاح عن الأحراز.
كيف إذن، بعدما أثبتت المحكمة بنفسها أن المتهمين لم يحملوا سلاحًا، لم يمنعها هذا من إدانة المتهمين باتهامات تتضمن وتتطلب حمل السلاح؟
- الإجابة: قانون التجمهر 1914.
الحكم بقانون الاحتلال الإنجليزي
قانون التجمهر هو القانون الأساسي الذي بنيت عليه كل القضايا الجماعية لمظاهرات 2013، والتي ترواحت أعداد متهميها بين العشرات والمئات في القضية الواحدة، وانتهت دومًا بأحكام جماعية قاسية بين 10 و15 و20 عامًا، وحتى المؤبد والإعدام.
وُلد هذا القانون عام 1914 تحت الاحتلال البريطاني، وجرت صياغته في سياق الحرب العالمية الأولى كوسيلة لتبرير قمع التجمعات الشعبية. أصدرت الحكومة المصرية القانون في البداية بتعسف دون مراعاة للإجراءات الشرعية السارية في ذلك الوقت، فألغاه البرلمان عام 1928، وهو ما لم يعجب الملك فؤاد الأول الذي كان يحاول الحفاظ على السلطة، فطلب من بريطانيا أن تتدخل، لكن حتى سلطات الاحتلال خذلته، كون هذا القانون شديد القمعية ويصعب تبرير استمراره.
بعد موافقة مجلس النواب على إلغاء القانون، أُحيل إلى مجلس الشيوخ، الذي وافق بدوره على الإلغاء في 30 يناير/كانون الثاني 1928. وبعد ذلك، أُحيل إلى الملك فؤاد الأول للتصديق عليه. يُعتبر قانون الإلغاء مُصدَّقًا عليه تلقائيًا بموجب الدستور بعد مرور شهر دون اعتراض الملك. لذلك، لم ينشر الملك فؤاد القانون الجديد في الجريدة الرسمية عمدًا لتعليق تنفيذه، وهذا هو السبب العبثي الوحيد لوجود مساحة تحايل لاستغلال هذا القانون الملغى لليوم، حيث لا تزال الأنظمة المصرية المتعاقبة تراه كنزًا لا يمكن التفريط فيه.
ما يهمنا هو، لماذا يمثل هذا القانون كنزًا؟
ينص القانون على أنه يكفي كون "الغرض" من التجمهر ارتكاب جريمة ما، حتى لو لم تقع بالفعل. ولأن الغرض في النفوس، فالسند الوحيد هو تفتيش الأمن للنيِّات
يريح قانون التجمهر 1914 بال السلطة تمامًا من محاكمة الأفراد على ما أتوه كأفراد، أو من البحث عن أدلة وأحراز وغيرها، فأثمن ما فيه أنه يسمح بالإدانة بمجرد الاشتراك.
أي أن مجرد كونك مشاركًا في تجمهر من خمسة أفراد أو أكثر، ولو كنت واقفًا بجواره تصفق أو تسب، فأنت مسؤول جنائيًا عن كل التبعات. لا يهم ما الذي كنت تفعله ولا ما الذي كان بحوزتك ولا من أنت، فمن لحظة القبض عليك تتحول إلى وجه بلا ملامح داخل تلك الكتلة الهلامية المسماة بـ"المتجمهرين".
الأهم: لا يلتفت هذا القانون بالضرورة لحدوث جريمة، بل ينص على أنه يكفي كون "الغرض" من التجمهر ارتكاب جريمة ما، حتى لو لم تقع هذه الجريمة بالفعل. ولأن الغرض في النفوس، فالسند الوحيد هو تفتيش الأمن للنيِّات وتقييمه بأن الغرض الإجرامي موجود في سرائر المتجمهرين، ليُحمِّل القانون المشاركين مسؤولية كل الجرائم المحتملة، المنوي عليها، حتى وإن لم تقع.
من يوليو/تموز 2013 وحتى صدور قانون التظاهر الجديد في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه، كان قانون 1914 هو المرجع الأساسي لمحاكمة معتقلي المظاهرات، وهو القانون الذي حوكمت به أنا والمتهمون في قضيتي، بمن فيهم أيمن موسى، ليُحكم علينا بالسجن المشدد 15 عامًا، وبالمراقبة لخمس سنوات.
الملخص القانوني لقضيتنا
- مشكلة: أمامك 68 متظاهرًا قبضت عليهم من مظاهرة، بعدما قتلت 32 آخرين من نفس المظاهرة، كيف تحل هذا الموقف؟
= بسيطة: تتهم الـ68 المقبوض عليهم بقتل الـ32 الذين قتلتهم أنت، فتتخلص من الصداعين.
- مشكلة: لا يوجد أي دليل من أي نوع لاتهامهم بالقتل، خصوصًا بعدما شهد كل أهالي المقتولين في المحاضر الرسمية أن من قتلهم ذويهم الشرطة.
= بسيطة: أخرج قانون 1914 من الأدراج. إنه لا يشترط أي تلبس ولا أدلة، ولا حتى جريمة غير التجمهر في حد ذاته، ليصبح كل متجمهر مسؤولًا بالتبعية عن كل نتائج التجمهر. الآن كل من قُتل في التجمهر، وإن كان برصاصك أنت، مقتول من المتظاهرين بنص القانون، لأن تجمهرهم هو الذي أدى للموت الأسيف بيدك المضطرة.
- مشكلة: كيف تفرض سردية أن هناك سلاحًا في التجمهر وأنت لم تمسك بأي أحراز أسلحة مع أي من الـ68 الذين قبضت عليهم، ولم يُصَب أي من أفراد شرطتك ولو بخدش، وحتى محكمة الإرهاب بقانون الاحتلال الانجليزي اضطرت لإزاحة تهمة حيازة السلاح لعدم وجوده ضمن أحراز القضية من منشورات وتشيرتات؟
= بسيطة: كل ما عليك الآن هو الانتقال للحل السحري: التحريات السرية. من قال إن هناك سلاحًا خفيًا موجودًا والله العظيم حتى لو لم نره أو نمسك به أو تمسنا أي من طلقاته؟ التحريات السرية. وما دامت التحريات تقول إن هناك سلاحًا، فكل من قبض عليه مسلح وإن لم يكن مسلحًا. من قال إن هؤلاء إرهابيون؟ التحريات السرية. من قال إن غرضهم من المشاركة في التجمهر شر إرهابي مدمر؟ التحريات السرية.
- وما الشرط الوحيد لأن تصبح التحريات السرية ركنًا متينًا يعلق عليه إنهاء حياة 68 إنسانًا؟
= "اطمئنان المحكمة".
ولأن المحكمة في الأساس دائرة إرهاب تأسست تحديدًا لهذا الغرض، فقد أعلنت اطمئنانها لكل شيء حتى شبعت طمأنينة. وبات وجود السلاح من عدمه تفصيلة هامشية طالما توافرت التحريات السرية وساد الاطمئنان. وبلا مرحلة استئناف، للقضية وقتها كقضية جنايات لا جنح، انتقلت مباشرة للنقض.
ولأن الاطمئنان يجُبُّ ما دونه، اطمأنت محكمة النقض لاطمئنان محكمة الجنايات للتحريات السرية، ورفعت يدها دون ذلك رافضة النقض كونها تراجع الصحة الإجرائية للمحاكمة وفقط، ولا تعيد نظر تفاصيل القضية.
رائع: الآن؛ لديك قضية انتهت بحكمٍ جماعيٍّ نهائيٍّ باتٍ غير قابلٍ للطعن عليه بحق عشرات البشر مَمَّن لن يروا نور الحياة مرة أخرى لمجرد وقوفهم في مظاهرة. تلاحظون أن لا أيمن ولا غيره لهم أي اعتبار كأفراد منفصلين في أي لحظة: كلنا كتلة تجمهر هلامية.
العفو لمن لم يتورط في عنف
في 2016، أُعلِن إنشاء لجنة العفو الرئاسي خلال مؤتمر الشباب الأول في شرم الشيخ لإعادة النظر في القضايا السياسية المحكومة التي لم تتورط في عنف. بدأت تحقيقات مكثفة من الأمن الوطني، نتج عنها خروج خمس قوائم عفو عن نحو ألفي سجين سياسي محكوم بين عامي 2016 و2018.
كان الاختيار كلعبة يانصيب: تُفتح عدة قضايا كبيرة من كل محافظة، "يُكبش" عدد من المدانين في كلٍّ منها ويوضعون في قوائم العفو. أُعلن وقتها أن القضايا التي ستُفتح هي التي حدد الأمن الوطني أن المدانين فيها لم يتورطوا في عنف حقيقي، وتصنيف الأمن الوطني هو التصنيف ذو الثقل الوحيد، فلا التفات لتحقيقات نيابة ولا أحكام محاكم، تكفي معرفة الأمن بالواقع وحقيقة ما جرى.
كانت قضيتنا من أوائل القضايا التي فُتحت، أي أن الأمن الوطني صنَّفنا كأشخاص لم يتورطوا في عنف، ليخرج منَّا فوق الثلاثين فردًا بعفو رئاسي بين 2016 و2018. لم أكن أنا ولا أيمن بينهم.
كان الاختيار عشوائيًا؛ ستة قالوا في تحقيقات النيابة الأولى بلا مواربة إنهم كانوا مشاركين في المظاهرة بشكل سلمي، ومعهم أغلب مالكي الأحراز من منشورات وتيشيرتات وغيرها. كانت القائمة مليئة بالإخوان كذلك.
أتذكرون الشاب المتظاهر الذي أبرحه بلطجية ضربًا في مدخل بناية، فتدخل أحد المارة لإنقاذه ليقبض عليهما سويًا؟ خرج المتظاهر المضروب وبقي المار الذي تدخل لإنقاذه. سعدت بخروج من خرج، لكن العبثية صدمتني.
عندما زارني أهلي بعد إحدى قوائم العفو، كنت مدمرًا نفسيًا لا أفهم كيف لم يتم اختياري، قابلت ضابط الأمن الوطني أمام مبنى الزيارة فسألته. رفع كتفيه وقال لي ببساطة "لم تصبك القُرعة".
توقفت اللجان، ولم يعد يصدر عفو عن محكومين، وخرجت أنا منفردًا بمعجزة بعد إثبات خطأ محاكمتي كبالغ بينما كنت قاصرًا. وصار كما يقولون اللي جوه جوه واللي بره بره. لم يخرج أيمن مثله مثل الـ24 فردًا المتبقين من القضية، والحقيقة أن لا فرق بين النصف الذي خرج والنصف الذي بقي سوى مزاج الـ"قُرعة"، عندما انفرجت قبضة السجان لحظة ثم انغلقت من جديد.
لماذا أيمن تحديدًا؟ هو عشان حليوة ميبقاش إرهابي!
حقيقة، لا يوجد سبب له علاقة بأيمن. حملة الهجوم على أيمن كلها رد فعل عنيف غاضب من موجة التعاطف الجارفة معه. كلما زاد التعاطف، زاد التشويه سعارًا. لو كان التعاطف مع أحد أعضاء القضية الآخرين، لواجه الهجوم بدلًا من أيمن.
يعلم محرِّكو هذه الحملات جيدًا أن تشويههم سيشتعل كالنار في الهشيم. أيمن إرهابي. لا تغرنكم وسامته وحلاوة ضحكته ولمعان العين الملونة. لم تفلح المحاولة؟ إذن أيمن داعشي. لم تفلح؟ إذن هذا التجمهر كان يرفع علم داعش وهذا دليل أن أيمن داعشي. لم تفلح؟ إذن أيمن نفسه متصور يحمل علم داعش! يريدونك أن تتعاطف مع الإرهابي لأنه وسيم وابن ناس. تريدون عنفًا؟ حسنًا، دورة لجان إلكترونية جديدة تقول إن هناك ضباطًا قتلوا في التجمهر يومها. أقتلهم أيمن؟ نعم قتلهم أيمن! أيمن قتل الـ32 كلهم! أصلًا أيمن كان معه كلاشينكوف! ألا تصدقون؟ ما رأيكم أنه متصور بالكلاشينكوف! كل شيء متصور صوت وصورة، ليست معي الآن لكن والله العظيم متصور.
ماسورة من اللجان الإلكترونية وصحفيي الأمن بابتكارات وإبداعات مبهرة، كلٌّ منها أكثر شطوحًا وهستيرية من سابقتها.
في غياب الدلائل وفجاعة القمع تصبح بشاعةُ التنكيل دليلَ الإدانة
من يملك خليتي عقل يرى المغالطات. أيمن ليس بريئًا لأنه وسيم وابن ناس، أيمن بريء لأنه بريء. إن كان وقوفه في مظاهرة جرمًا آثمًا، فأهله يرجون السلطات من سنين أن يسامحوه وينظروا له بعين الرأفة. وسامته لا تُقحم في النقاش إلا من قبل من يشوهونه كأنها دليل إرهابه.
هو منهج معروف: في غياب الدلائل وفجاعة القمع، تصبح بشاعةُ التنكيل دليلَ الإدانة. احكم على أيمن وأصحابه بسنتين أو ثلاث، وسيقول الناس إنه مظلوم. الطشهم 15 عامًا من السجن المشدد أمام دائرة إرهاب ورش عليها عبارات كالقتل والدم، فيتحول رد الفعل إلى: لا بد أن هناك شيئًا تعرفه السلطات ولا نعلمه. جريمة بشعة خفية لا تدركها بصائرنا، وإلا لماذا 15 عامًا؟! مستحيل أن يكون بريئًا وأقرانه! مع تحبيشة من الكلمات المفتاحية المرعبة مثل داعش وكلاشينكوف وغيرها، لا يعود الدليل ولا الإقناع مهمين بعد ذلك.
استراتيجية فعالة لا تخيب، لأنها في الحقيقة تلعب لا على أيمن ولا قضيته، بل على رعب الناس من أن العالم قد يسمح بظلمٍ بهذا الحجم. ما يخيفهم حقًا هو: ماذا يعني هذا لي، إن كنت أعيش في ظل نظام قد ينهي حياتي وينكل بي كما فعل مع أيمن ومن معه، لأني كنت في المكان الخطأ في الوقت الخطأ؟ هل الاحتمال نفسه يرسل الناس أفواجًا للتعلق بسردية الدولة المطمئنة: بالتأكيد فعلوا شيئًا ليستحقوا هذا التنكيل. مالي ومال هذا يا عم؟ أنا مختلف. أنا في أمان.
كلهم مثل أيمن
منذ أسابيع، حلت الذكرى الحادية عشرة لقضية 6 أكتوبر 2013 بالأزبكية. كلمة ذكرى هنا مضللة: فبعد خروج أربع بنات من البداية والإفراج عني ومعي خمسة قصّر بجانب بقية المعفي عنهم، يتبقى اليوم 24 فردًا من القضية بالسجن. 24 إنسانًا ما زال هذا كابوسهم اليومي المدفونين بتربته أحياء. 24 روحًا، كل ذنبهم أنهم لم تصبهم "القُرعة".
أتذكر أيامي معهم، كل الأكلات والضحك والبكاء والعراك والتصالح وليالي السمر والغناء. أتذكر علي عارف وأكواب قهوته السادة التي لا تفرغ وهو يقطعني إربًا في بولة الاستميشن بالكوتشينة المهربة بعدما علمني أيمن كيف ألعبها. أسرح في صوت معاذ موافي وهو يغني لنا أثناء السمر فتطرب الآذان وتهفو القلوب. إفيهات عبد المعطي الساخرة التي تلسوعنا يمينًا وشمالًا ولا تملك إلا أن تنفجر ضاحكًا داعيًا ألا تكون هدفه غدًا. جمال عمر ساكنًا مراقبًا على فرشته جواري، واللمعة في عينيه عندما كنا ندرس النحو سويًا، فأسمع صوته الرخيم ينسل بعد ساعات صمت.
أكاد أجن: 11 عامًا؟ لماذا؟ من يعيد لهم طفولتهم وقد كانوا أشبارًا فباتوا على مشارف الجامعة بالكاد يعرفون آباءهم؟ بيوتهم التي دمرت وزيجاتهم التي وُئِدت وحبيباتهم اللاتي مرمطتهن طوابير الزيارة فَشِخْنَ قبل الأوان؟ من يعيد الآباء والأمهات الباكين على فراش الموت مودعين الحياة قبل أن تمنحهم حلم عقد أعمارهم الأخير بلمس وجوه أبنائهم بلا رقيب أو قضبان؟ من يعيد لهم الحياة التي خلفتهم وراءها ورحلت بلا رجعة؟
تذكرهم، وعندما يقولون لك: ليست مجرد مظاهرة بل بها قتل! اسألهم، من القاتل ومن المقتول؟
عندما يقولون لك: أيمن قتل ضابطًا، قل لهم إن شرطيًا واحدًا لم يُمس يومها. سيصرون، فاسألهم عن اسم الضابط. عندما يقولون لك: أدينوا في المحكمة، قل لهم نعم، بقوانين وضعها الاحتلال الانجليزي ثم تبرَّأ منها. عندما يقولون: أيمن ممسوك بكلاشينكوف وعلم داعش وبالصوت والصورة! اسألهم عن الصورة. ولأنه لا توجد صورة فسيحاولون تشتيتك بالكثير من التفاصيل، فكُن مُصرًّا على أن يأتوا لك بصورة أيمن بالكلاشينكوف وعلم داعش. سيسبُّونك ويتهمونك بدعم الإرهاب ويسألونك عن دماء الضابط الخيالي التي تفرط فيها، وعن أرملته الخيالية وابنتهما الصغيرة التي يُتِّمَت. لا تتشتت، أصر على الصورة.
عندما يقولون لك: لِمَ الكلام عن أيمن وحده؟ أي مؤامرة تلك؟ رد عليهم أنه لا فرق بين أيمن وغيره في القضية، وأنها محاكمة جماعية وإدانة جماعية لم يوجه فيها لحظة إصبع اتهام لشخص بعينه، لا أيمن ولا غيره. رد عليهم بأسماء كل المظلومين في القضية:
أيمن موسى وعلي عارف ومعاذ موافي وباشمهندس مجدي ونادر طارق ومحمود صوفي ومحمد محفوظ وعبد المعطي مراد وعبد الحكيم سامي ومحمد حسن والشيخ رفعت وعلاء ومحمد عاطف والشيخ فرج والنوبي عابدين والمهندس حسين ودكتور محمد زين وياسر برعي وعلي زكي والحاج محمد عبد الراضي ومحمد طلعت ومحمود الحداد ومصطفى الزفزافي وجمال عمر.
قل لهم: كلهم كأيمن بلا اختلاف، حتى الوسامة.