يعتبر الارتباط أمرًا أساسيًا في حياة الإنسان، ولكن في مصر، لكي يكون ارتباطكم مقبولًا اجتماعيًا لا بد أن يكون رسميًا، أي أن تمنع نفسك من الدخول في أية علاقة حتى تكون جاهزًا -ماديًا- لهذا الارتباط الذي تغلب عليه الشكليات الجذابة فقط.
مشهد 1
بدأت الحوار يومها بأن مازحت صديقي بالإشارة إلى إحدى الفتيات في محيط سكننا، واقترحت له أن يرتبط بها، فهي جميلة وجذابة ومن عائلة جيدة، واستكملت المزاح بأنه ينبغي أن يطلب يدها من أبيها. أثنى صديقنا الآخر على رأيي، وقال إنها مثالية، فهي لا تخرج من البيت أبدًا، ولا تختلط بالناس. أزعجني ما قاله و أثار أعصابي، لكنني قررت ألا أناقش الموضوع معه لأني أدرك أن النقاش لن يكون مجديًا.
مشهد 2
خرجنا نحن الثلاثة، وسرنا سويًا على ضفاف النيل، حيث يلتقي العشاق في مدينتنا البائسة، التي لا تكلل فيها قصص الحب بالانتصار إلا نادرًا. واصلنا الحديث عن الارتباط.
حدثتهم عن زميلتي في الجامعة التي أعجب بها، ولأثبت سبب إعجابي، أخذت أطلعهم على آرائها، التي تكتبها على "فيسبوك". لم يهتم صديقاي بالآراء، وكل ما اهتما به هو أنها تضع صورها الشخصية على الموقع الاجتماعي، وهذا في نظرهما يعني أنها ليست فتاة جيدة، فهي تسمح لأي شخص أن يرى صورها. سألاني عن علاقاتها بالجنس الآخر، وأخبرتهم أنها اجتماعية للغاية ولها أصدقاء من الجنسين. قال صديقاي إنه لا يليق أن أعجب بفتاة لها أصدقاء ذكور، لأن هذا يوحي بسوء تربيتها وسلوكها.
مشهد 3
تحدث صديقي المراهق عن الفتاة التي يحبها من فترة طويلة، وعبر عن خوفه من أن يصارحها خشية أن ترفضه. سألته ماذا إذا حدث عكس ذلك، وهي التي أخبرته أنها تحبه، فأجاب بما لا أتوقعه على الإطلاق: "هتنزل من نظري خالص عشان لو كلمتني ممكن تكلم غيري".
المواقف السابقة تجسد رؤية شريحة ليست بالقليلة من شباب ومراهقي مصر، فهم يريدون أن يكون دور الفتاة في الحياة هامشي للغاية، وأن تكون ذات علاقات اجتماعية ضعيفة، وكلما قل خروجها من منزلها كلما كان ذلك أفضل، بل يصل الأمر لتفضيل عدم وجود أية علاقة مع جنس الذكور. بالتالي لا يفضلون الاقتراب من فتاة ناجحة تتطلع للأمام. ولا يريدون فتاة تبادر بأن تصرح بحبها، وكأن الفتيات خلقن بدون إرادة.
كيف يرتبطون في مصر؟
يعتبر الارتباط أمرًا أساسيًا في حياة الإنسان، وهو يحتاج إليه احتياجه للطعام والشراب، ولكن في مصر، لكي يكون ارتباطكم مقبولًا اجتماعيًا لا بد أن يكون رسميًا، أي أن تمنع نفسك من الدخول في أية علاقة حتى تكون جاهزًا - ماديًا - لهذا الارتباط الذي تغلب عليه الشكليات الجذابة فقط.
مرحلة الأهل الكرام
من أجل إتمام العلاقة بشكل رسمي، لا بد أن تستلطف العائلتان بعضهما، وهذا في الكثير من الأحيان أهم من استلطاف طرفي العلاقة لبعضهما، فلا بد لأهالي الطرفين أن يشجعوا الفرق الرياضية نفسها، ويتشاركوا الآراء السياسية نفسها.
وهذا شيء لا بد أن يحرص الطرفان عليه، ففي الزواج ستكون لقاءات الأهل ركنًا أساسيًا في العلاقة، ولا يمكن المخاطرة بقبول بذور الخلاف بين العائلتين.
تتسم المقابلات العائلية دومًا بالملل الشديد والمجاملات الزائدة عن الحد، يتم الحديث فيها عن كل شيء وبلا توقف، ابتداء من المسائل المعقدة وصولًا لأنواع الطعام التي يفضلونها.
من المفترض أنه في هذه المقابلات، التي تشكل ما يعرف بـ "زواج الصالونات"، سيتعرف الطرفان على بعضهما، وذلك في اجتماعات جانبية تستمر لدقائق معدودة.
أما إذا كان طرفا العلاقة على معرفة وثيقة ببعضهما، فيفضل أن يتظاهر الطرفان بالبلاهة، وأن هذا أول لقاء بينهما حتى لا يستفزا عادات وتقاليد أغلب أفراد المجتمع "المحافظ بطبعه"، وأحياناً ما يشارك أفراد العائلتين في ممارسة تلك البلاهة.
الشهادة من أجل الزواج
من أجل الزواج عليك أن تكون حصلت على شهادتك الدراسية أولًا، لأنها من العوامل الجذابة التي سيضعها أهل العروس في اعتبارهم. لاحظ أن الأهم من مقدار حبكما وتفاهمكما، هو هل الشهادتين متناسبتين أم لا.
إن كنت خريج كلية "عادية" وترغب في الارتباط بفتاة من كليات "القمة"، غالبًا سترفضك عائلة فتاتك، ولن تحظى بمباركة مجتمعية لهذه العلاقة، فليس من المقبول أن يرتبط شخصان ليسا في نفس المستوى من التحصيل الدراسي.
الفكرة أن الاهتمام بالشهادة يأتي على حساب وجود توافق وتفاهم ثقافي وفكري بين الطرفين، لا يتم النظر إلى ذلك كثيرًا، فالشهادة تقوم بالواجب.
المساومات
بعد اتفاق الأهل المبدئي، تبدأ فقرة المساومات، حيث يحاول أهل العريس "الفصال" مع أهل العروس في طلباتهم من مهر وشبكة وشقة وغيره من الأشياء.
في العموم، إذا كنت تملك شقة في الإسكندرية، وأخرى في القاهرة، وسيارة جيدة، فغالبًا ستتمكن من أن تحوز على قلب أهل عروسك، لأنهم يريدون أن يؤمّنوا مستقبل ابنتهم، والأمان هنا متعلق بالأمان المادي فحسب.
بالطبع لا توجد مساحة لأن ترفض الفتاة شخصًا "جاهزًا" إلى هذا الحد، من أجل تفضيل شخص تحبه، أو حتى لأنها لا ترتاح لهذا الشخص.
يشبه الأمر أننا نسعّر المشاعر، فكلما كان العريس قادرًا على المتطلبات المادية، كلما طالبنا الفتاة أن تحبه وتعطيه المزيد من المشاعر. وكذلك يبدو الأمر وكأننا نطلب من الأشخاص الذين ليسوا في حالة مادية مثالية أن يجمدوا مشاعرهم، وأن يوقفوا رغبتهم في الدخول في علاقة، لأنهم لن يكونوا قادرين على متطلباتها المادية الضخمة.
المزيد من الشكليات (مش أقل من غيرنا)
في حال استمرت الأمور في السير على ما يرام، سنصل للنقطة الثالثة، حيث سيرهق طرفا العلاقة نفسيهما بتكاليف لا حصر لها من تجهيزات الزفاف المبالغ فيه وعش الزوجية الذي سيشترون فيه متعلقات الأطفال قبل وجود أطفال من الأصل. ويبدأ طرفا العلاقة رحلتهما الرسمية وهما مرهقيّن بالديون.
سيشجعك من حولك على المزيد من الإنفاق لكي لا تكون أقل من أحد، وغالبًا ما يكون هذا الـ"أحد" هو شخص لا تهتم به إطلاقًا لكنك ستحرص على أن ينظر لكما بعين الإعجاب.
ينسى أطراف العلاقة ومن حولهما أهم شيء وهو سعادة الطرفين ورضاهما عما يفعلانه، لا ما يرغب الأهل والمقربون في رؤيته.
هذه هي طريقة الارتباط الشائعة في مجتمعنا، تتحول فيها الشكليات والماديات إلى ركن أساسي في العلاقة، وربما لا يكون الحق لدينا بالتالي لا نتساءل لماذا لا يشعر معظمنا بالسعادة.
كيف تتكون صورة الارتباط في أذهاننا؟
رغم أن الارتباط رغبة طبيعية للغاية، إلا أن أغلب الأسر تربي أطفالها -الذكور والإناث- على أن العلاقة مع الجنس الآخر أمر غير محمود، فيتم نهر الأطفال عن اللعب سويًا، وعندما يكبرون قليلًا يتم فصل الجنسين في المدرسة.
في نهاية مرحلة المراهقة، يكون المجتمع قد غرس في الفتى والفتاة أن أية علاقة بينهما، مهما كانت، محورها الجنس. بالتالي فعندما يحين وقت الزواج يصبح الارتباط الرسمي أشبه بعملية البيع والشراء.
لذلك لا نندهش أن يُفرض على الانجذاب الطبيعي كل هذه الشكليات والقيود.