لم تكد الاحتفالات بعيدي الكريسماس ورأس السنة الميلادية تنتهي؛ حتى غيرت المراكز التجارية ومحال الهدايا زينتها، فأعادت أضواء وأشجار الميلاد الصناعية إلى مخازنها، واستخرجت منها القلوب والألعاب الحمراء استعدادًا لعيد الحب "فالانتاين". قبل ذلك كان نصف الكرة الغربي وبعض أجزاء الشرق قد انتهت من الاحتفال بالهالووين، الذي حملت واجهات المحال فيه أقنعة الرعب ووانتشرت على روفوفها أكياس الحلوى. هكذا أصبحت الأعياد فرصة لممارسة عاداتنا الاستهلاكية بتوحش أكبر بمجرد حلول مناسبة أو عيد ما.
ولكن هل كان هذا هو الحال دوما؟ لا بد أن التسوق كان دومًا رديفًا مهمًا للتحضير للأعياد، فشراء البخور والشمع والوفاء بالنذور وتبضُّع التذكارات كلها عادات قديمة. كما أن دخول العادات الاستهلاكية الحديثة لبلدان رائدة في حجم النمو الاقتصادي كالهند والصين، قد يفسر تزايد حجم المبيعات العالمي لعيد لا يتبع تقويما دينيا شائعًا كعيد الهالويين. لكن ما يثير القلق؛ هو ذاك الشعور المتزايد بأننا نضطر لاعتماد عادات استهلاكية متزايدة.
في كتاباته عن العمل في العصور الوسطى، يقول المؤرخ الفرنسي جاك لوجوف "في مقابل مواعيد التاجر، تضع الكنيسة مواعيدها الخاصة، والتي من المفترض أنها تتبع الرب وحده والذي من غير الممكن أن يكون هدفًا للتربح".
نعم الفالانتاين استهلاكي
لكن يبدو أن هذا التعارض بين "ما للرب والحب، وما للتاجر"؛ قد تبدل مع تغيير أسلوب الحياة والعادات الشرائية، حيث تطورت وتنوعت احتياجاتنا، وأصبحنا نشتريها عوضًا عن القيام بتصنيعها. ويوم العطلة الذي كان مخصصا للتعبد، أصبح الفرصة الوحيدة في الأسبوع للتسوق، خصوصا بعد أن أصبحت الأسواق أبعد وأكثر تخصصًا. فهل استبدلنا عاداتنا العبادية بالتوجه نحو التسوق المتخصص للمناسبة، وكأن العيد لن يبدأ دون تحضير مادي وليس روحي؟
عشية عيد الفالانتاين العام الماضي؛ كتبت جيرالدين روسل مقالا في صحيفة لو- فيجارو الفرنسية، كان عنوانه: إجابة لتساؤلاتنا السنوية مع اقتراب العيد: نعم الفالانتاين عيد تجاري.
في مقالها تذكر جيرالدين -بالأرقام- الأهمية التجارية للعيد في فرنسا، حيث ترتفع مبيعات الحلي والجواهر بنسبة 75% بالنسبة لبداية السنة، بينما يحقق بيع الزهور أرقامًا قياسية، حيث أن: "عيد القديس فالنتاين من دون شك أهم يوم في التقويم بالنسبة لصناعة الزهور العالمية". بحسب المكتب الزراعي الوطني الفرنسي "فرانس أجريمير".
في قائمة موقع أهم احتفال حول العالم بحسب موقع lists 10، يتصدر الكريسماس ورأس السنة والفالانتاين قائمة أهم الاحتفالات حول العالم. وهو ما يمكن تفسيره بعلمنة هذه المناسبات. فرغم أن الكريسماس مثلا يُعد عطلة رسمية في معظم دول العالم ذات الأغلبية المسيحية؛ إلا أنه يتخذ في نفس تلك البلدان منحى فلكلوري، خصوصًا بسبب اقترابه من احتفال نهاية السنة.
في كندا والولايات المتحدة مثلا، تغيَّر اسم العطلة الرسمية الخاصة بعيد الميلاد ورأس السنة لاسم "موسم الأعياد"، في انحياز واضح لعلمنة الدولة. أي علمنة العيد والتركيز على رموزه التي يمكن أن تنسحب حتى على غير المسيحيين، مثل كونه "عيد اجتماع العائلة وتبادل الهدايا"، ما ساعد على انتشار الاحتفال به بين غير المسيحيين.
ثمن الحُب
بحسب pew research center مركز بيو للأبحاث (مركز رصد أميركي غير هادف للربح)، فرغم أن سبعة فقط من كل عشرة أميركيين يصنفون انفسهم كمسيحيين؛ إلا أن الأغلبية العظمى من المُستَطْلَعين حوالي 95% ، أجابوا بأن لديهم النية للاحتفال بعيد الميلاد. هذه الأراء يدعم صدقها ما يولده هذا الاحتفال من أموال بالفعل. ففي عام 2013 وفي إحصائية لنفس المركز، تم تقدير 3 ترليون دولار أميركي حققها قطاع التجزئة (البيع في المتاجر التي تتعامل مع الجمهور مباشرة) في الولايات المتحدة.
أما مركز فونديفو، فأعلن أن 54.8 % من الأميركيين احتفلوا بالفالانتاين الماضي بإنفاق 19.7 مليار دولار على الزهور والهدايا والنزهات الرومانسية.
هذه الأرقام المذهلة قد تفسرها القدرة الشرائية العالية لسكان العالم الأول ذوي الأغلبية المسيحية، حيث أنه -وبحسب قائمة صندوق النقد الدولي لعام 2016 - فإن ستة من أول عشر بلدان الأقوى اقتصادًا؛ تشكل المسيحية بفروعها الكبرى الديانة الرسمية لأغلب سكانها، ما يدعم مبيعات المناسبات الدينية المرتبطة بميلاد المسيح.
لكن وبالرغم من كل ذلك؛ لا تزال التساؤلات نفسها تُطرح كل عام مع بدء موسم التسوق للأعياد. الأرقام هائلة، والإقبال على السلع والهدايا كبير، مما يطرح ظنونًا كبيرة حول تحوّل هذا الأعياد إلى مجرد مهرجانات كبيرة للاستهلاك.
مثلا المبيعات في كندا خلال عيد الميلاد: خلال شهر ديسمبر/كانون أول 2015، بلغت 43 مليون دولار كندي. في ذلك الوقت سعر الدولار الكندي كان يساوي 0.71 من نظيره الأميركي. وفي مصر، قفزت مبيعات هدايا عيد الحب 30% في 2015، رغم الضغوط الاقتصادية التي تعاني منها البلاد.
وبالنسبة لعيد القديس فالنتاين، فالبرغم من حذفه من التقويم الكنسي للكنيسة الكاثوليكية كعيد رسمي منذ 1969؛ إلا أن الاحتفال به استمر في الازدياد. ورغم كل الأساطير التي تتحدث عن أصوله، سواء كانت تعود لاحتفالات إغريقية وثنية أو احتفال موسمي تداخل مع مناسبة دينية؛ فإن تأثيره كاحتفال بالحب بدأ فعليًا في القرن الرابع عشر.
كشك الأعياد
من السهل إذن القول بأن الاحتفالات الدينية أو الموسمية، تحولت إلى أكشاك للسلع الاستهلاكية، حيث يتم تعليب المشاعر مع الهدايا، وتُسَوَّق للناس.
فمثلما تتزين ساحات المدن بالأضواء وتنتصب شجرات الصنوبر الاصطناعي المتلألئ (أشجار الكريسماس)، أو تنتشر القلوب اللماعة في المراكز التجارية، وتستعر نار إعلانات العروض التسويقية؛ تروج أيضًا المقالات والسبق الصحفي عن حجم السوق وارتفاع معدلات الاستهلاك وعادات التسوق والهدايا الرائجة.
في مقال معنون بالدجاجة التي تبيض ذهبا للشركات، كتب جيل جولدنبرك أحد المدراء السابقين لوكالة ديليوت التسويقية العالمية؛ شارحًا أهمية الحملات الدعائية في فترة التحضير لعيد الميلاد، حيث يجب إيصال المعلومة بشكل سهل، وخلال فترة قصيرة ذلك أنه "في عيد الميلاد يتم امتصاص الطفرة التكنولوجية بسرعة وتتغير العادات الاستهلاكية".
بالنسبة للفالنتاين فالاهتمام التسويقي به يتخذ منحى مختلف، حيث يتم التركيز على تقديم عروض تخص الثنائيات الغرامية، كالوجبات الثنائية للعشاء في المطاعم الفاخرة، أو الرحلات السياحية المُصممة للأزواج أو المتحابين.
تسويق الفالانتاين
كان الفالانتاين عيدًا كنسيًا بحسب تقويم الكنيسة الرومانية الخاص بالشهداء. هناك على الأقل شهيدان باسم فالنتاين، وكان يُحتفل بهما في الرابع عشر من فبراير/شباط، قبل أن يحذف الاحتفال من التقويم الكنسي الاحتفالي في عملية إصلاحية واسعة لكل التواريخ القديمة غير الموثقة.
رغم ذلك فما برح الاحتفال به يزداد. وبغض النظر عن كل الحكايات التي تربط الفالانتاين بعيد وثني قديم للخصوبة أو أن الشهيد فالنتاين تبادل رسالة حب مع ابنة حارسه فجر يوم استشهاده، فما يمكن التأكد منه أنه –وكالهالويين- تعود أصول الاحتفال به لإنجلترا الكاثوليكية في القرن الرابع عشر. حيث يرجح المؤرخون أن الشاعر الإنجليزي جيوفري تشوسر 1343-1400 هو أول من ربط بين الفالانتاين وتوثيق الروابط الرومانسية بين العشاق the parliament fowls
"وفي يوم عيد القديس فالنتين
حين يأتي كل طائر بحثًا عن وليف له"
ومنذ العصر الفكتوري (من ثلاثينات القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن العشرين)، ارتبط الاحتفال الرومانسي بعيد الحب بتبادل بطاقات تحمل كلمات عذبة، تُكتب باليد. قبل أن يبدأ إنتاج الكروت المكتوبة الجاهزة بكميات كبيرة في الولايات المتحدة.
ماذا عن الشيكولاتة؟ بحسب بوبول فو، الذي يجمع القصص التاريخية والأسطورية لشعب المايا، فإنه بعد هزيمة البطل هون هونافو قطع أعداؤه رأسه، وعلقوه على أغصان شجرة ميتة ما لبثت أن أزهرت وأعطت ثمار الكاكاو. وهكذا كان شعب المايا يستهلك مشروب حبوب الكاكاو مخلوطًا بالعسل في حفلات الزواج، استدرارًا للخصوبة.
وعززت الدراسات العلمية الحديثة من ارتباط استهلاك شراب الشيكولاتة بزيادة الخصوبة حسب معتقدات حضارة المايا، فقد أثبتت الدراسات أثر "الفينيلتيلامين" وهو ناقل عصبي موجود بالشيكولاتة، يعمل على تحسين المزاج.
مسيح الشيكولاتة
لكن ما الذي غير وجه عيد الميلاد، ثاني أهم عيد كنسي، ليتحول لمجرد احتفال بالعائلة وبالأطفال وبالمجتمع المتآلف؟
في مرحلة ما من التاريخ المسيحي الأوروبي، طرأت تحولات على نظرة المؤمنين للمجتمع حولهم وللطبيعة. ولعل أفضل مثال على ذلك هو القديس فرنسيس الإسيزي (1181-1226) مؤسس الرهبنة الفرنسيسكانية، التي تمتاز بأعمالها الاجتماعية والتنموية.
كان القديس يعيش حياة الفقراء ويشجع على التبسط واحترام الطبيعة. كما كان ثوريًا لدرجة أنه أقام عرضًا حيًّا لما حدث في المغارة (ولادة المسيح) من الممثلين وحيوانات الحقل، لتذكير رعيته بقصة الميلاد وأحوال الفقراء والمحتاجين، وإضفاء طابع اجتماعي تشاركي على العيد الديني. وهو تقليد ظلت تحافظ عليه الكنيسة الكاثوليكية حتى عهد قريب.
هذه الصورة الجديدة لعيد الميلاد كعيد للعائلة وللمشاركة والصدقة، ترددت أصداءؤه في أهم أعمال الكاتب الإنجليزي شارلز ديكنز حيث يعد كتابه "أنشودة للميلاد" أكثرها اكتمالا وشهرة.(1) حيث تصاحب احتفالات الميلاد تطور الشخصية الرئيسية من الخطيئة للندم للتوبة والخلاص. ويحتفي ديكنز باحتفالات الميلاد ووجبة عشية العيد، وعادات الألعاب، والرقص، واحترام براءة الطفولة والرحمة تجاه الاخرين(2). وهي تقاليد تم التركيز عليها في إنجلترا، كمحاولة من تعزيز الانتماء الوطني المتصاعد في منتصف القرن التاسع عشر.
وتتركز العادات الشرائية في عيد الميلاد على الهدايا، التي كانت مخصصة للأطفال، ثم صارت تُقدَّم للجميع.
ويعود تقليد تبادل الهدايا قرب بداية العام، لقرون عديدة مضت، بدأت في العصر الروماني الذي كانت بداية السنة فيه عيدًا لإلهة الصحة سترينيا، وبقيت العادة مع بعض التغيير في عصور قريبة، كانت الهدايا الثمينة تقدم فيها لأبناء الأثرياء والحكام.
وفى العصور الوسطى؛ كان الاحتفال بعيد القديس نيكولاس الذي يقع في السادس من ديسمبر يتم بتقديم الألعاب والحلويات للأطفال. ولا تزال الأمهات في أوروبا تقدمن الحلويات لأطفالهن في صبيحة كل عيد للقديس نيكولاس.
إذن عادة تقديم الهدايا للأطفال ليس بالنزعة الاستهلاكية الحديثة، ففي تقديم هدية لأبناء الطبقة العاملة في كندا في بداية القرن الفائت، أو منح بضع قطع من النقود لشراء الحلوى (عيدية) كما يحدث في بلداننا العربية كل عيد، يشي بميل غريزي للعطاء ورسم الابتسامة على وجه هذا الكائنات الصغيرة. من ينسى ذلك المقطع الجميل من رواية البؤساء للأديب الفرنسي فيكتور هوجو، حين وصل جان فالجان ليلة الميلاد للحانة التي تركت فيها فانتين طفلتها كوزيت، في رعاية السيد والسيدة تيرانديه اللذان استغلا الطفلة وحولاها إلى خادمة فقيرة مضطهدة؟
خلال هذا الفصل، ينقل هوجو صورة مقيتة بشعة لاستغلال الأطفال الفقراء وإهمالهم. في تلك الليلة تتكور كوزيت ذات السبعة أعوام عارية القدمين تحت الطاولة خائفة بسبب غضب مربيتها، لأنها لمست دمية إحدى ابنتيها، فيخرج جان فالجان للشارع ويتجه للدكان الرئيسي في البلدة ليشتري أكبر دمية فيه. تلك المعروضة في المقدمة الزجاجية ويقدمها للطفلة التي ذهلت ولم تستطع الكلام.
في عام 1993 ، قدم أستاذ في السياسة الاقتصادية والشعبية في جامعة بنسلفانيا ورقته البحثية بعنوان الخسارة المقدرة لعيد الميلاد، أوضح فيها أن هناك خسارة اقتصادية في حال شراء هدايا للآخرين، ذلك أنه وبنفس مقدار النقود المصروفة لشراء الهدية، يستطيع من يتلقى الهدية أن يشتري غرض يناسب ذوقه بشكل أكبر: "وجدت أن الهدايا المقدمة من الأصدقاء أكثر فعالية من تلك المقدمة من باقي أفراد العائلة الواسعة، التي تسبب خسارة مقدارها الثلث من قيمة الهدية". كما يشرح تطويره لنموذج لأهمية تقديم منح نقدية بدل الهدايا العينية والتباين الشديد في تقييم كل من المقدم والمتلقي للهدايا.
قد يبدو أن دراسة مثل هذه تشكل تهديدًا واضحًا وصريحًا لقطاع التجزئة وتجارة الهدايا، وقد نتخيل للحظات تلك الثروة الصغيرة التي سنجمعها لو تم تطبيق هذا الاقتراح في الأعياد والمناسبات المقبلة، وأولها الفالانتاين الذي يحل غدًا.
أما كارهو التسوّق، فسيجدوها فرصة طيبة للتخلص من إرهاق ما قبل الأعياد. لكن على مايبدو فإن "الحلو ما يكملش"، وأننا سنستمر في البحث والتحضير وشراء وتغليف الهدايا العينية، ذلك أن كل من دافيد هيمنواي وسارة سولنيك، اهتما بدراسة أهمية تلقي هدية عينية.
تابع الباحثان تلك النظرية، وطلبا من طلابهما تقدير مبلغ من المال، يبعث فيهم نفس مشاعر الرضا عند تلقيهم لهدية. ثم قارنا ذلك بقيمة الهدايا المقدمة لهؤلاء الطلاب، ووجدا أن تلقي الهدايا يبعث على الرضا بشكل أكبر من تلقي النقود.