في سباق تنافسي اصطدمت لاعبة درّاجات بزميلتها فأسقطتها مصابة، ثم مضت تستكمل طريقها لتفوز بمركز متقدم في السباق. تقول اللاعبة التي أصيبت إن زميلتها قصدت إيذاءها، بينما تنفي الأخرى.
لكنَّ استمرار اللاعبة في السباق وعدم اكتراثها بإسقاطها زميلتها، وإن عن غير عمد، دون أن تحاول التوقف لحظة للاطمئنان، يثير تساؤلات حقيقية حول القيم الرياضية التي يتبناها كثير من اللاعبين، ويتصدرها البحث عن الفوز فقط وبأي وسيلة وطريقة، ويدفع إلى مقارنة برياضي مصري آخر، هو البطل محمد رشوان، الذي رفض استغلال إصابة منافسه الياباني ياسهيرو ياماشيتا في نهائي الوزن الثقيل للجودو في أولمبياد لوس أنجلوس 1984، ليخسر الميدالية الذهبية.
صار رشوان أسطورة فى الأخلاق الرياضية. أما فيديو لاعبة الدراجات فسيظل مثلًا نضربه عندما نتحدث عن "الغل الرياضي".
مفهوم مشوش
المؤكد أن هناك تشوشًا في مفهوم المنافسة عمومًا في المجتمع المصري، يبدأ من إهدار قواعدها الأخلاقية والقانونية، وينتهى عند استنكارها من الأساس. يجد من يتصدر مجالًا من المجالات أنه من العيب وربما الوقاحة أن يفكر أحد في منافسته وفق قواعد محددة، على طريقة الرئيس الراحل أنور السادات حين تندر مستنكرًا على أحد أحزاب المعارضة الذي يريد الوصول للحكم.
الأصل في المنافسة السياسية أنها تجري وفق الدستور والقانون، من أجل الحصول على ثقة الناخبين للوصول إلى الحكم. والقصة الشهيرة عن السادات أنه بعد إطلاقه حرية تأسيس الأحزاب السياسية نهاية السبعينيات، أعاد المرحوم فؤاد سراج الدين ونخبة من الوفديين القدامى تأسيس حزب الوفد المصري صاحب التاريخ الكبير في مقاومة الاستعمار، والحكم المرتكز على الإرادة الشعبية في العهد الملكي.
لكنَّ السادات في خطاب شهير وقف يعدد مآثره على الديمقراطية، بقوله إنه من هدم المعتقلات وأطلق الحريات وأعاد تأسيس الأحزاب، ثم تحدث عن الوفد بمنطق المانح قائلًا "منحتهم حزب وجريدة وسمحت لهم بخوض الانتخابات والتحدث بحرية مع الناس.. أتاريهم عاوزين يوصلوا للحكم". قالها السادات مستنكرًا وكأن سعي أي حزب إلى الحكم جريمة وليس هدفًا أساسيًا ورئيسيًا للأحزاب، وأساسًا قانونيًا ودستوريًا لمنطق العملية السياسية في بيئة سياسية تعددية.
كواليس كثيرة تشير إلى أن المنافسة العادلة وحدها لا تكفي في نظام كروي مثل الموجود في مصر
الأصل أنَّ الأحزاب تتأسس لتُنافس على الحكم. يتنافس مرشحوها على المقاعد البرلمانية أو كرسي الرئاسة ولا عيب في ذلك أو جرم. لكن في مصر تجد وصمًا كبيرًا لمن يجرؤ على المنافسة، أو يسعى إليها في إطارها المشروع، فيُوصم مرشحون رئاسيون في الفضاءات الإلكترونية، ويُسجن آخرون لأسباب مختلفة.
وكما في السياسة، في الرياضة، وكرة القدم بالذات، كونها اللعبة الأكثر شعبية وجماهيرية وتشغل المساحة الأوسع من اهتمامات الجمهور العام في كل مكان. الأصل أن تتنافس الفرق وفق قواعد ولوائح محددة وفرص متكافئة، لكنَّ كواليس كثيرة تشير إلى أن المنافسة العادلة وحدها لا تكفي في نظام كروي مثل الموجود في مصر.
حضرت لقاءً منذ سنوات مع صديق كان عضوًا في اتحاد الكرة المصري، في وجود رئيس اتحاد كرة قدم راحل، حكى فيه كيف تدخل قائد عسكري كبير كان معروفًا بحبه لنادي الزمالك في إدارة المنافسة في التسعينيات، لضمان فوز ناديه المفضل بالمسابقة عبر التحكم فى جدول المباريات بوضع الفرق الأضعف أولًا ليتصاعد مستوى الفريق تدريجيًا ويجمع أكبر قدر ممكن من النقاط قبل أن يصطدم بالفرق الأقوى.
وبالعكس، وضع غريمه التقليدي الأهلي، الذي كان يعاني بسبب عدم تجديد دماء فريقه وارتفاع متوسط أعمار لاعبيه، في منافسات مبكرة مع أندية قوية وجماهيرية تستنزف طاقته ونقاطه مبكرًا.
يحكي أيضًا أن القائد نفسه تدخل لمنع توقيع عقوبة الهبوط إلى الدرجة الأدنى على الزمالك، بعد انسحابه من مواجهة أمام الأهلي بسبب اعتراضه على حكم المباراة.
بالتوازي، نشرت مجلة "أحوال مصرية"، الصادرة عن مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في الأهرام، ملفًا مطلع الألفية عن الاحتكار والمنافسة في مصر، شمل أبوابًا عن الاقتصاد والسياسة والفن، وكرة القدم أيضًا،
في الملف قصة عن تدخل مسؤولين حكوميين كبار ينتمون للنادي الأهلي لدى رئيس الوزراء وقتها الدكتور كمال الجنزوري، وكان أيضًا رئيسًا للمجلس الأعلى للرياضة، ليعزل المهندس إسماعيل عثمان من رئاسة شركة المقاولون العرب، لأنه كان يدعم من خلالها النادي الإسماعيلي. كان الجيل الذهبي للفريق وقتها ينافس بشراسة على الألقاب، ويضم نخبة من النجوم، انتقل معظمهم لاحقًا إلى الأهلي، بدعوى أنه يصرف أموال الشركة العامة على الإسماعيلي ليهزم الأهلي و"يعكنن على البلد".
ما حدث أن إسماعيل عثمان عُزل بالفعل، بمساعٍ من وزير الإسكان القوي وقتها محمد إبراهيم سليمان، ليقضي على آخر أبناء عائلة مؤسس الشركة العملاقة عثمان أحمد عثمان في مجلس إدارة المقاولون العرب، ويحقق مصلحة مباشرة للنادى الأهلي بوقف شريان دعم كبير عن الإسماعيلي، لينتهي الأمر باستحواذ الأهلي على أغلب نجوم الإسماعيلي، الذين شكلوا قوام الجيل الذهبي للأهلي في النصف الثاني من الألفية.
أما الإسماعيلي، فبدأ رحلة انهيار تدريجية ولم ينجح فى الحفاظ على أي من نجومه النوابغ فى السنوات اللاحقة وبات مهددًا بشبح الإفلاس، حتى بات في المواسم الأخيرة يصارع على الهبوط.
مرازاة الغريمين
سألت الدكتور الجنزوري في جلسة خاصة عام 2011 عن تلك الواقعة فلم ينكرها، بل زاد عليها سماح الحكومات وقتها لنادي الزمالك بتسوية مديونيات كبيرة عليه كانت كفيلة بإفلاسه، للحفاظ عليه داخل دائرة المنافسة. مُنح قروضًا مضمونة، ودفع رجال أعمال لدعمه مقابل تسهيل مصالحهم مع الدولة، مؤكدًا أن الأصل في رسم السياسات أن تظل المنافسة بين الأهلي والزمالك اللذين يشغلان عقول المساحة الأعرض من الجماهير في مصر.
منحت هذه الجماهيرية الناديين الصوت الأعلى والنفوذ الأقوى داخل المنظومة الكروية، ومن ثَمَّ يصبح استمرارهما في المنافسة وعدم السماح بانهيار أحدهما مصلحة سياسية، لحكومة تريد باستمرار شغل الجماهير بصراعات غير أساسية تفرغ فيها طاقاتها بالهتافات والمشاحنات المحكومة داخل المدرجات.
يظهر مفهوم المنافسة القاصر رياضيًا وبوضوح أكثر، مع تأسيس نادي بيراميدز، الذي تشكل بقوة مُؤسِسه الأول ونفوذه كمسؤول سعودي كبير وملاءته المالية الكبرى، القادرة على منافسة الأهلي والزمالك في سوق انتقالات اللاعبين والمدربين.
وبفعل المشاحنات وقتها بين مؤسس النادي تركي آل الشيخ وإدارة وجمهور النادي الأهلي، ورغم مغادرته كمستثمر قبل سنوات، بقي الجمهور العريض للنادي الأهلي يتحدث عن بيراميدز كونه الفريق الذي تأسس لـ"مُرازاة الأهلي"، والتضييق عليه ومزاحمته.
يعكس هذا الاتهام أيضًا تشوش فكرة المنافسة على طريقة الرئيس السادات، لأنه إذا كان الدورى العام يضم 18 فريقًا، فالمنطق يقول إن هناك 17 فريقًا يفترض بهم مرازاة الأهلي، و16 فريقًا يتوقع منهم مزاحمة الأهلي والزمالك. فإذا كانت هذه "المرازية" تجري وفق القواعد واللوائح المعمول بها وأسقف الإنفاق المعتمدة، ما العيب فيها إذن؟!
في الرياضة تُسمى المنافسة "مرازية".. وفي السياسة المنافسة تعنى الديكور، ومن يهندسون المنظومتين هم فقط من يوزعون الأدوار بين أبطال محدودين، ومئات من الكومبارس.