على عجل، ودونما تجهيزات أو حسابات أو رؤية، انطلق الدوري المصري في أكتوبر/تشرين الأول 1948. قبل هذا التاريخ بشهر واحد فقط لا غير لم تكن هناك أي تنويهات بشأن إقامة المسابقة، أو ما يدل على أي نية لذلك، بالعكس، كانت محاولات محمود بدر الدين وأحلامه تبوء بالفشل دون بواكي. بدر الدين هو صاحب مشروع الدوري الذي لم يتحمس له سوى نفر قليل، ليسوا ذوي سلطة أو أصحاب قرار.
في 21 سبتمبر/أيلول 1948، أعلن اتحاد الكرة عزمه على إطلاق المسابقة، وفورًا، دون أن يعطي نفسه مهلة ولو لموسم واحد على سبيل الاستعداد أو التجربة، جريدة الأهرام نشرت القرار المقتضب، وعلقت بأنها فرصة طيبة لاحتمال قوة اللاعبين واستعدادات الأندية للتعاون على نطاق واسع، واختبار شهية الجماهير.
الأسباب المذكورة هنا تعطينا فكرة عن غياب مفهوم المسابقة عن "الرأي العام"، فالتعامل وكأنها مثل المسابقات الموجودة بالفعل، ككأس مصر وكؤوس المناطق، ولكن على نطاق أوسع. لم يكن حاضرًا أنها عصب النشاط الكروي المحلي وعموده الفقري، كما خلت التغطية من الإشارة إلى علاقة المسابقة بالمنتخب القومي (الوطني) الذي كان يُسمَّى آنذاك الفريق الأهلي.
عندما صدر قرار انطلاق المسابقة في ذلك التاريخ، لم تكن هناك لائحة منظمة لها، أو قواعد، أو ملامح، فقط كان قرار الإعلان، لأن اللائحة ببساطة لم تكن قد أعدت، والملامح لم تكن قد اتضحت، ولأن المسابقة تنطلق في غضون أسابيع، جرى إعداد اللائحة سريعًا، ورأت النور في 11 أكتوبر/تشرين الأول، أي قبل انطلاق المباريات فعليًا بأحد عشر يومًا فقط لا غير.
ركاكة أم مساواة؟
هذه اللائحة كانت قصيرة، 15 بندًا، لكنَّ قراءتها وتأملها يكشفان العديد من الأمور التي لا يزال تأثيرها حتى يومنا هذا. ومع الجملة الأولى نتلقى الأزمات؛ البند الأول: يقام الدوري العام المذكور من قسمين (أ) و(ب)، لنتوقف عند تعبير "قسمين" ونسأل: هل هما قسمان أم درجتان؟
ما نعرفه أن مسابقات الدوري العام في أي بلد مكونة من "درجات"، لأن هناك تراتبية، بغض البصر عن التسميات المختلفة من بلد لبلد، من قبيل الدوري الممتاز، ودوري البطولة، والدوري الاحترافي وغيرها من التعبيرات، لكن المفترض أن كل درجة من درجات الدوري تُعبر عن مستوى من المنافسة، لذلك نسمي الانتقال من الدرجة الأولى للثانية "الهبوط"، والعكس الانتقال من الثانية للأولى "الصعود"، فهي درجات.
تسمية "الأقسام" تعطي انطباعًا بالمساواة بين الجميع، كالتقسيم مثلًا في الجامعة، فهل كان استخدام تعبير "قسمين" في لائحة أولى نُسخ الدوري المصري، من قبيل الركاكة اللغوية، أم أنَّ هناك ما يمكن استنتاجه؟
هذه الفكرة التي لا نعرف لها أصلًا ولا سببًا هي السر وراء الشكل الغرائبي لدوري المظاليم حاليًا
الواقع، ومع تتبع مسيرة الدوري في مواسمه الأولى، وعلى مدار عقود، يمكن اكتشاف تمكُّن فكرة المساواة من عقلية صانعي القرار، والسعي الدائم لاعتبار جميع الأندية تشارك في مستوى واحد، أو لتنظيم درجة ثانية بنفس قوة الدرجة الأولى وشهرتها. ربما تكون المحاولات قد خمدت مع توالي الأزمان وفَرْضِ الواقع نفسه، لكنَّ الدودة في أصل الشجرة.
نعتقد أن هذه الفكرة التي لا نعرف لها أصلًا ولا سببًا هي السر وراء الشكل الغرائبي لدوري المظاليم حاليًا، في اللحظة التي تقرأ فيها المقال. فهناك درجتان تقامان عند المستوى نفسه، وكلتاهما تؤهلان للدوري الممتاز، لكن إحداهما تتميز عن الأخرى بميزة نسبية في عدد المقاعد وفرص التأهل. فهما متساويتان، وليستا متساويتين. منفصلتان، وليستا منفصلتين، وكأننا أمام إحدى لوحات سلفادور دالي السريالية، وللحق فإنها مدهشة!
لم ينتهِ البند الأول من لائحة 1948 بعد، فقد حددت عدد وأسماء الأندية المشاركة في القسم (أ)، وهي من اختيار اتحاد الكرة المحض، كما أشرنا في هذا المقال، أما القسم (ب) فهو ليس من اختيار اتحاد الكرة، إنما "مائدة نصف مفتوحة" فهي تقبل أي ناد (يرغب في المشاركة) بنص اللائحة، لكنها في الوقت نفسه تقصره على مناطق القاهرة والإسكندرية والقناة، لا وجود للفلاحين، لا وجود للصعايدة (ناهيك عن الأقاليم الحدودية فهي أحلام).
وقبل أن ينتهي البند الأول، يترك لنا لغزًا عصيًا على الفهم، وكأنه لم يكن يكفي نظام توزيع الأندية، فقد ذكر البند عن أندية القسم (ب) أنه يتكون من باقي أندية الدرجة الأولى! أي درجة؟ لا نعرف، كم درجة للدوري؟ لا نعرف، وإن كان الدوري درجات والمذكور قسمان، فهل القسمان مثلًا مجموعتان؟ لا نعرف، ولم يعرف المعاصرون كذلك، فقد حفلت تغطيات الصحف بتكهنات ومحاولة فهم من الصحفيين، لا محاولات إفهام.
كيف بدأت المؤجلات؟
على أي حال انتهى البند الأول التمهيدي، ويفترض أن نبدأ تفاصيل المسابقة في البند الثاني، فيا ترى من أين بدأ النظام في دورينا الحبيب؟ ما أول قاعدة طرأت في أذهان المسؤولين عن كرة القدم في مصر؟ والواقع أنني عندما اطلعت على اللائحة لم أمنع نفسي من الضحك بصوت عالٍ لمدة طويلة، فقد جاء البند الثاني بعنوان: عدم تأجيل المباريات!
لا أدري على وجه التحديد ما الذي دفع هذا البند إلى الصدارة؟ هل كان نابعًا من إحساس بصعوبة انتظام المسابقة والحفاظ على مواعيدها المعلنة؟ هل كانوا يخاطبون الأندية المشاركة أم يخاطبون أنفسهم؟ فهم من يحددون المواعيد، وهم من يملكون التأجيل. الأندية قد تملك الانسحاب (المخصص له بند آخر في اللائحة) لكنها لا تملك تأجيل مباراة، فمن كان الممنوع من التأجيل "مهما كانت الأسباب" بتعبير اللائحة؟
بالطبع، لم يُطبَّق هذا البند من اللائحة، وكانت أولى المؤجلات في الجولة السادسة بين الأوليمبي وفاروق، وعندما وصلنا إلى الجولة الثانية عشرة تقريبًا خرجت الأمور عن السيطرة، أما المواسم التالية فقد كانت مُثيرة للشفقة من حيث تنظيم مواعيد المباريات.
نكتفي بهذا القدر من اللائحة العجيبة في مقالنا هذا، لكنَّ اللائحة لن تكتفي من طرح الموضوعات والأفكار، فعلى موعد.