في يوم عصيب على المملكة العربية السعودية، ومُثير للتساؤلات والمخاوف في لبنان، ارتدى ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، ثوب الممثل الأمريكي آل باتشينو في المشهد الختامي لفيلم "العرّاب"، وبدا أنه يرغب في التخلص من كل "أعدائه" دُفعة واحدة. غير أن نهاية فيلم "العرّاب"، مثّلت ذروة التخطيط والنضج، الذي وصل إليه البطل، والذي بموجبه تمّكن من إنهاء كافة حروبه. أمّا في حالة محمد بن سلمان، فلا يبدو أن خطواته جاءت نتيجة تخطيط مُحكم، فحروبه على وشك أن تبدأ بالفعل.
أعلن سعد الحريري استقالته من رئاسة وزراء لبنان، من الرياض، التي أعلنت بدورها الحرب رسميًا، على إيران وحزب الله، وربما لبنان بأسرها. ثم جاءت حركة الاعتقالات، التي طالت عشرات الأمراء ورجال الأعمال، ليُعلن بن سلمان الحرب على كل معارضيه في الداخل. وأخيرًا جاء صاروخ الحوثيين في مطار الرياض، ليُذكّر بن سلمان بفشله الذريع في اليمن، ويدفعه لاتخاذ خطوات تصعيدية عقابية ضد حوثيي اليمن.
الحريري: رجلٌ طيب
"الحريري رجل طيب، ولكنه ليس قائدًا سياسيًا بطبيعته. فاغتيال والده، رئيس الوزراء الأسبق، رفيق الحريري، عام 2005، هو ما منحه دور زعيم الكتلة السنية اللبنانية، دون أن يكون مُهيأ لذلك".
هذا ما أورده الدبلوماسي الإسرائيلي السابق، والمحلل السياسي الحالي، "دانيال شابيرو"، في مقاله المنشور على صحيفة هآرتس الإسرائيلية، في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، خلال تحليله لاستقالة الحريري الأخيرة من السعودية. مُشيرًا إلى أنه خلال فترة ولايته الأولى، كرئيس للوزراء، من 2009 إلى 2011، اختار سعد أن يسير على خطى أبيه، وهو ما دفعته إليه أيضًا المملكة العربية السعودية، فهي صاحبة الفضل الأكبر في تأسيس إمبراطورية الحريري الاقتصادية. فلم يستطع الابن أن يتحرك يمينًا أو يسارًا دون الدعم السعودي. ولم يكن في مقدوره رفض الأوامر بالعودة إلى لبنان كرئيس للوزراء.
ورغم الضغوط الهائلة التي واجهها الحريري، في تلك الفترة، سواء من جانب حزب الله أو سوريا، إلا أنه صمد بفعل الدعم السعودي والأمريكي له. ولكن خلال عام 2010، تراجع دعم المملكة له، وذلك مع محاولات التقارب السعودي السوري، التي قادها الأمير عبد العزيز، بن الملك عبد الله آنذاك، وكذلك عندما بدأ بعض الأمراء والنافذين لدى حكام المملكة ووسائل الإعلام في مهاجمة الحريري، وطرح أسئلة عن مدى أهليته لإدارة السلطة في لبنان، ولتجسيد مصالح المملكة فيها. ويبدو أن ما سبق قد شجّع وزراء لبنان على الانسحاب من حكومة الحريري، حتى سقطت، فخرج من السلطة بطريقةٍ –اعتبرها البعض– مُهينة.
عرض بن سلمان الذي لا يمكن رفضه
الأمر المثير للدهشة، هو عودة الحريري مرة أخرة إلى صدارة المشهد السياسي اللبناني، بعد تكليف الرئيس ميشيل عون له، في ديسمبر 2016، وذلك في ظل ظروف سياسية واقتصادية أعقد من تلك التي واجهها في فترته الأولى. ولكن يبدو أن الضغوط السعودية كانت السبب المباشر وراء قراره هذا، أو بتعبير شابيرو: "إن السعوديين قد قدموا له عرضًا لا يمكن رفضه".
فلا يجب أن نغفل أن محمد بن سلمان مثّل طوق النجاة للحريري عام 2015، فخلال هذه الفترة عانت شركة "سعودي أوجيه" –شركة الحريري– من ضغوط اقتصادية شديدة، خاصة في ظل تربص محمد بن نايف –ولي عهد المملكة آنذاك – بالحريري. حيث أن نايف لم يغفر للحريري وصفه بالسفاح، في إفادته أمام محققي اللجنة الدولية الخاصة باغتيال والده. كما أنه لم يكنّ له الود أصلًا، إذ يحسبه على جناح أبناء الملك الراحل فهد، وأبناء ولي العهد السابق سلطان، والملك الراحل عبد الله، كما أن ابن نايف كان يُفضّل تغيير سياسة بلاده في لبنان، والكف عن حصر الدعم السعودي بآل الحريري. أمّا بن سلمان فقد وعد سعدًا بمساعدته، ومد يد العون له، وذلك في لقاء جمع بينهما، خلال العام ذاته، في العاصمة الفرنسية باريس، بعيدًا عن الأضواء.
وخلال الأشهر القليلة الماضية، بدا أن إيران قد أحكمت قبضتها على لبنان، عبر حزب الله، دون أن يكون للحريري دورًا فعليًا ومؤثرًا في مسارات الأحداث، كما كان يأمل بن سلمان. حيث اعتبر الرئيس ميشيل عون، في زيارة قام بها إلى القاهرة في فبراير/شباط الماضي 2017، أن سلاح حزب الله لا يتعارض مع الدولة، وهو جزء مهم من الدفاع عن لبنان. وقد كرر عون هذا التصريح، أخيرًا، عندما قال إن لبنان بحاجة إلى سلاح حزب الله، لأن الجيش ما زال ضعيفًا.
كما أجرى صهر عون، وزير الخارجية جبران باسيل، لقاءً بوزير خارجية النظام السوري، وليد المعلم، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول الماضي 2017، مما أثار حينها موجة احتجاجات في لبنان. وأخيرًا جاء قرار إعادة سفير لبنان إلى دمشق، والذي مثّل انفتاحًا كاملًا ومُعلنًا على النظام السوري.
وقبل أيام، وبعد لقاء الحريري بمستشار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، علي أكبر ولايتي، في بيروت، جاءت تصريحات الأخير، التي أدلى بها عقب انتهاء اللقاء، وتحدث فيها عن "الانتصارات" التي تحققها إيران على امتداد المنطقة، لتحرج بذلك الحريري أشد الحرج.
صحيح أن كل هذه المواقف لم تدفع الحريري إلى الاستقالة، أو حتى التهديد بها. لكنها منحت المراقبين، دلالات واضحة أنه فشل في التأثير على سياسات لبنان، أو حتى الحد من نفوذ حزب الله وإيران هناك. وهو ما تجلى في تصريحات وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج، ثامر السبهان، الذي دعا إلى ضرورة إخراج حزب الله من معادلة التسوية السياسية في لبنان، وانتقد صمت الحكومة اللبنانية عن سياساته الداخلية والإقليمية.
سياسة (اللا رؤية) في لبنان
وعلى ذلك، لم يكن من المُستغرب أن ترفع السعودية يدها من جديد عن الحريري، ولكن ليس على هذا النحو. فخلال زيارته الثانية للسعودية – في أقل من أسبوع – في 4 نوفمبر 2017، أعلن سعد الحريري استقالته من منصبه، من السعودية، وعبر شاشات قناة "العربية"، مُنتقدًا سياسات حزب الله في لبنان، وإيران في المنطقة.
بدا الحريري متوترًا، وغير مُتمكن من كلمات خطابه. وتؤكد جميع المؤشرات أنه كان مدفوعًا لتقديم هذه الاستقالة المُفاجئة بهذا الشكل، وفي ذلك التوقيت. فمع إدراك السعودية لمحدودية تأثير الحريري في لبنان، وعدم قدرته على صيانة المصالح السعودية ومواجهة إيران وحزب الله، قررت نزعه بالقوة، وبهذا الشكل، من المشهد اللبناني، ليس فقط لخلق أزمة حكم جديدة في لبنان، وتكثيف الضغوط على ميشيل عون وحزب الله، ولكن أيضًا للتأكيد على أنها تمتلك المعسكر السني في لبنان، وأنها طرف أصيل في دائرة النفوذ هناك.
المأزق الحقيقي أن استقالة الحريري بتلك الطريقة خصمت الكثير من رصيده السياسي في لبنان، وقد تحرمه من العودة لقيادة المعسكر السني هناك مرة أخرى، أو تمثيله بشكل رسمي في الحكومة، وعلى ذلك، فقد باتت السعودية مُهددة بفقدان أي تمثيل رسمي لمصالحها في الحكومة اللبنانية، حاليًا، وربما مستقبلًا، نتيجة لقلة السياسيين السنة في لبنان القادرين والراغبين في تمثيل المصالح السعودية. أي أن استقالة الحريري من السعودية، التي جاءت بمثابة إعلان للحرب على إيران وحزب الله، هي، في حقيقة الأمر، تنزع أبرز مكامن النفوذ السعودي في لبنان، وتمنح إيران وحزب الله فرصة ذهبية لتوسيع نفوذهم السياسي، وتشديد قبضتهم على مقاليد الحكم هناك.
ويؤكد ما سبق أن بن سلمان لا يملك خطة مُحكمة –أو أية خطة من الأساس– لإدارة نفوذه في لبنان، على العكس تمامًا من إيران، التي تُحكم قبضتها بالكامل على الدولة اللبنانية، من داخل مؤسساتها كافة، من خلال حزب الله، وتفرض خطوطًا حمراء على ما يسمح بمناقشته في البلد. ويدّعي الصحافي "أرنست خوري" أن الحديث عن عدم وجود رؤية أو استراتيجية سعودية في محاربة إيران، هي من المسلمات في حديث الكثيرين في بيروت، من الأوساط السياسية والشعبية والإعلامية.
بن سلمان: مشروع إماراتي أمريكي
في مقاله المنشور على موقع "إنترسبت" الأمريكي، ذكر الكاتب والمعلّق السياسي "ريان جريم" – صراحةً – أن محمد بن سلمان هو "مشروع إماراتي". وما لم يذكره الكاتب أنه ليس مشروعًا إماراتيًا فقط، ولكنه غدا كذلك مشروعًا أمريكيًا، للتأثير على واحدة من أكبر دول الشرق الأوسط، وإعادة ترتيب سياسات المنطقة وتوازنات القوة بها. فكلمة السر في تحليل التحركات السعودية الجارية على المستويين الداخلي والإقليمي، هي تحالف الولايات المتحدة بقيادة ترامب، والإمارات بقيادة محمد بن زايد، مع السعودية بقيادة محمد بن سلمان. وهو التحالف الذي ظهرت خطوطه الناظمة عقب الأزمة الخليجية الأخيرة.
ولكن التطورات الحالية تشير إلى أن محمد بن سلمان لا يلعب دور الحليف الناضج، الذي يخدم مصالحه عبر تحالفه هذا، لكنه أصبح واجهة لتنفيذ –أو بمعنى أدق، تجريب– رؤى الإمارات والولايات المتحدة تجاه المنطقة. خاصة بعد الأداء الدبلوماسي المتواضع التي ظهرت به الإمارات خلال إدارتها للأزمة الخليجية. وذكر "جريم" أن واشنطن في عهد ترامب دخلت في صفقة مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ويوسف العتيبة، سفير الإمارات لدى الولايات المتحدة، بحيث تقوم الإمارات والسعودية بضخ ملايين الدولارات في واشنطن، بينما تتحدث الأخيرة عن "الإصلاح الديني والسياسي" في المملكة، وتُبدي تقديرها لهذه الخطوات. وليس بخفي أنه على مدار العامين الماضيين، قام العتيبة باصطحاب بن سلمان إلى واشنطن، وقدّم تأكيدات بالتزامه بتحديث وإصلاح المملكة، وهو ما دفع المملكة لاستئجار شركة علاقات عامة في الإمارات مؤخرًا، وهي مجموعة هاربور.
لقد تحلى الأمير السعودي الشاب بالجرأة، في فتح العديد من جبهات الحرب الداخلية والخارجية، في آن واحد، وكذلك اتخاذ خطوات متسارعة –وقد يصفها البعض بالمتهورة– في تثبيت مقاليد حكمه في الداخل، وتبني مواقف جذرية حادة تجاه القضايا الإقليمية (خلال الأزمة مع قطر وإيران، أو إدارة الملف اليمني واللبناني)، وهي جرأة تستند إلى الدعم الكبير من جانب ترامب، وتتماشى مع رؤية الأخير التي تتسم أيضاً بالحدة والاضطراب، وأحيانًا التسرع.
وبات من المُرجّح أن خطوات بن سلمان التصعيدية تجاه حزب الله وإيران، بما في ذلك دفع الحريري للاستقالة، جاءت نتيجة تنسيق مباشر مع الولايات المتحدة وإسرائيل، خاصة بعد التصعيد الأخير الذي انتهجه ترامب تجاه إيران، حيث رفض الاقرار بأن إيران التزمت بالاتفاق النووي، واصفًا إياه بأنه أحد أسوأ الاتفاقات التي وقعتها الولايات المتحدة في تاريخها، ومُطالبًا بفرض عقوبات اقتصادية قاسية بحق الحرس الثوري الإيراني. وهو ما ترافق مع تصاعد نبرة التهديدات الإسرائيلية ضد حزب الله، والتحذير من تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة. وخير دليل على هذا التنسيق، قيام "جاريد كوشنر"، صهر ترامب وأحد كبار مستشاريه، بزيارة السعودية سرًا، قبل استقالة الحريري وقرارات سلمان الداخلية، مباشرةً، ولم تصدر أية بيانات أو تصريحات رسمية من السعودية وأمريكا بشأن الزيارة. ناهيك عن التسريبات الحكومية الإسرائيلية التي تحدثت عن زيارة بن سلمان لإسرائيل في سبتمبر الماضي، وهو ما نفته الرياض. ومن هنا، يمكن فهم ترحيب نتنياهو باستقالة الحريري.
وتجدر الإشارة إلى أن سياسات بن سلمان الإقليمية (خاصة فيما يتعلق بمواجهة إيران)، والتي تُلبي المصالح الأمريكية، لا تكفي ترامب كثمن لدعمه "اللا محدود" لموقف بن سلمان داخل المملكة. حيث أن عين ترامب هي دائمًا على ثروات السعودية، وهو ما دفعه إلى التعبير عن رغبته في أن تختار السعودية بورصة "وال ستريت" الأمريكية، لطرح أسهم شركة النفط العملاقة "أرامكو"، المتوقع في العام القادم 2018، مُعتبِرًا أن هذه المسألة هي أمر هام بالنسبة للولايات المتحدة.