لم يعرف معظم مَن شاهدوا أو زاروا ساحات الانتفاضة في وسط بيروت من غير اللبنانيين، سبب الجو الاحتفالي الذي ساد في المكان والذي اعتبره البعض مبالغًا فيه أو ليس ثوريًا كفاية، حتى وُصف المشهد بـ "البازار" و"الكرنفال". تمامًا، كما لم يفهم غير اللبنانيين وبعض اللبنانيين، أيضًا، الغضب الذي عبّر عنه المنتفضون تكسيرًا وعنفًا في وسط المدينة.
لسنا هنا في معرض شرح الأسباب النفسية والاجتماعية الكامنة وراء الجو الاحتفالي التلقائي أو وراء الحاجة التي أبداها عدد كبير من المنتفضين لممارسة العنف تحديدًا في وسط بيروت. لكن هناك سببًا جوهريًا واضحًا يتّفق حوله غالبية من نزلوا إلى وسط بيروت منذ 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 وهو أن الاحتفال في ساحة رياض الصلح وشارع المصارف وفي محيط مبنى اللعازارية وبين مسجد الأمين وساحة الشهداء يعود في جزء كبير منه إلى ذلك السرور غير المفهوم الذي يواكب ولادة العلاقات الجديدة، في حالتنا اللبنانية علاقة جديدة مع المكان، مع وسط عاصمتنا. علاقة تعارف مع مكان نحنّ إليه ولا نعرفه، وبالتالي علاقة عنف تجاه كلّ ما سبّب غربتنا عنه طوال 30 عامًا.
أردنا أن "نعمّد" دخولنا الى الوسط كتابةً على جدرانه وتكسيرًا لواجهات بعض المحلات التجارية والمصارف التي تسببت بإقصائنا عن المكان.
جزء من الابتسامات الكثيرة التي ارتسمت، من دون سبب، على وجوه المتظاهرين المحتشدين في شوارع وسط بيروت ارتبطت بفرح التواجد سويًا وفي هذا المكان بالذات. المكان المُحرّم على عامّة الشعب منذ انتهاء الحرب الأهلية عام 1990. مكان عزيز حُرّم عليهم لأن من أعاد بناءه لم يرده ملكًا للناس، كلّ الناس، كما هو حال وسط أي مدينة في العالم، بل أراده ملكًا خاصًا وسوقًا مقفلة لزبائن وزوّار من الأثرياء فقط.
حلم على مقاس رفيق الحريري
عاش رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري (تولّى رئاسة الحكومة في لبنان مرتين الأولى من 1992 حتى 1998 والثانية من 2000 حتى 2004) معظم حياته السابقة في المملكة العربية السعودية حيث راكم ثروة ضخمة وكان مقرّبًا من العائلة الملكية. من السعودية؛ خطط الحريري لمستقبله رابطًا إيّاه بمستقبل البلد بعد انتهاء الحرب الأهلية (1975 - 1990). تخيّل الحريري حتى، شكل المدينة التي خطط للاستيلاء عليها بحجة إعادة إعمارها، شكّل العاصمة بيروت. في مخيّلته بدت العاصمة تلقائيًا كالأماكن التي يحبّها معظم أمراء وأميرات الخليج وأثريائه: مدينة بأبنية فارهة ومحلّات تسوّق باهظة ومقاه وفنادق على الطراز الغربي بنفحة شرقية مع أقلّ اختلاط ممكن بالسكّان.
هكذا أعاد الحريري تصميم وسط العاصمة بيروت لا حسب ما تصوّره أهل البلد وتمنّاه السكّان وحلموا باسترجاعه، ولا حسب ما عايشه الشهود على تاريخ هذا الوسط وعمرانه وحياته ونبضه بل حسب رغبات الأثرياء فقط مواطنين وسيّاح، ووفقًا لمسطرة السياسات النيوليبرالية التي جاء بها الحريري ورعاها منذ بداية عهده. إعادة إعمار بيروت أو ما وُصف لاحقًا بـ "حلم رفيق الحريري"، جاء على مقاسه وبحجم طموحاته السياسية والتجارية البحتة.
مشروع إعادة الاعمار هو الباب الذي دخل منه رجل الأعمال اللبناني- السعودي رفيق الحريري إلى مرحلة حكم لبنان ما بعد الحرب الأهلية، وهو مصدر آخر لدرّ الأرباح وبناء شبكة مصالح ومنافع للحريري و"حاشيته" التي حكمت، وتملّكت عقارات، وتسلّمت مناصب وأُعفيت من الضرائب وخالفت القوانين وشرّعت الاقتصاد للسياسات النيوليبرالية في بلد منهك خارج للتو من حرب أهلية إقليمية طويلة. سياسات الحريري الاقتصادية قضت على ما تبقّى من دور لمؤسسات الدولة في تلك المرحلة، وبنت هوّة طبقيّة واسعة، وهمّشت المناطق وخصخصت المرافق العامّة وأهملت القطاعات الانتاجية الأساسية. بدت المحافظات اللبنانية بعد انتهاء الحرب معزولة عن بعضها أكثر من أيام المتاريس، عزلة اجتماعية واقتصادية حالت دون تصالح فعلي مع الذات ومع الآخرين بعد وقف القتال.
"الغربة" هو الشعور الوحيد الذي أحسّه كلّ من نزل إلى وسط بيروت بعد إعادة ترميمه منذ بداية التسعينات، غربة مربكة مزعجة شوّهت علاقة أبناء الحرب وأجيال ما بعد الحرب مع المكان الذي كان يفترض أن يحضن يوميات عودتهم إلى الحياة.
أوكل رفيق الحريري عام 1994 مشروع إعادة إعمار وسط العاصمة بيروت إلى شركة خاصة تدعى الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت (سوليدير) والتي كان يملك فيها حصّة كبيرة. سلبت تلك الشركة سكّان منطقة الوسط ممتلكاتهم من خلال حيل شراء ظالمة فخيّرتهم بين بيع عقاراتهم بمبالغ زهيدة أو أن يتكفّلوا هم، الخارجون من حرب وتهجير، بكامل تكاليف الترميم حسب المعايير العالية الباهظة التي تفرضها الشركة.
في فيلم وثائقي، يروي الصحافي والدبلوماسي الراحل غسان تويني كيف دعاه الحريري قبل إطلاق مشروع إعادة الاعمار ليريه "ماكيت" جاهز وكامل لوسط بيروت الجديد بعد ترميمه. كل شيء أُعدّ مسبقًا بعيدًا عن المدينة وأهلها، هؤلاء كانوا بنظر أصحاب المشروع الضخم مجرّد عوائق يجب إزالتها.
التطوير بالحذف والتهجير
سوّق الحريري و"سوليدير" منذ عام 1991 لفكرة أن إعادة إعمار وسط بيروت هدفها "محو آثار الحرب وذكراها"، لكنهم أرادوا تحقيق ذلك بإزالة الردم وترميم المباني فقط. قامت الشركة التي سُلّمت وسط المدينة المدمّر بإفراغه من سكّانه القدماء ومحت آثارهم وتاريخ المكان وهويته قبل أن تمحو آثار الحرب. لم يُسمح لأهل وسط المدينة بنفض الغبار عن منازلهم ليداووا جراحهم وجراح مدينتهم فيعيدوا فتح أبواب محالهم، وهم الأدرى بكيفية إعادة إحياء المكان الذي ولدوا وعاشوا وعملوا فيه، أكثر من رجل الأعمال الآتي من السعودية ومَن جاؤوا معه من مستثمرين أجانب. وللمفارقة أُقرّت حينها قوانين خاصة لـ "سوليدير" أُعطي بموجبها الأجانب الحق بالتملّك في وسط بيروت مع إغراءات وإعفاءات ضريبية.
والنتيجة؟ مبان إسمنتية مرممة بعناية فائقة لكن باردة، شبابيك جديدة لكن مغلقة دائمًا، شقق سكنية باهظة الأجر لكن بقيت فارغة بمعظمها، أرصفة تلمع لكنها خالية من المارّة، لا دكاكاين في وسط البلد ولا مقاهٍ شعبية ولا منتزهات عامّة بل محلات تجارية لماركات عالمية فقط، شوارع مشلولة ومقاه تجهد لاجتذاب الزوّار. سوق الصاغة والعطارين وأسواق عديدة أخرى (كانت شعبية وأبنتيها تراثية) حلّ محلّها شبه "مول" كبير احتفظ بأسماء الأسواق القديمة فقط لكن محلّاته هي لماركات وبضائع مستوردة لا تشبه منطق السوق الشعبية بشيء. وسط بيروت، المدينة المأهولة منذ أكثر من 5 آلاف سنة خلا من السكّان والحركة والروح، شُوّهت معالمه وداس فوق تاريخه مشروع تجاري لا يبغي سوى الربح.
بطقم أبيض احتفالي أعلن الحريري من وسط بيروت عام 1994 وضع حجر الأساس لمشروع "إعادة الإعمار"، وفي خطابه الشاعري يومها لعب على فكرة "إعادة إعمار القلب.. قلب لبنان وقلب العاصمة وقلوبنا جميعًا". لكن الحريري وشركته والمستفيدين من المشروع سلّموا اللبنانيين بعد سنوات مدينة دمية، عاصمة تاريخية انتُزع قلبها منها، أُلبست ثيابًا أنيقة واستعدّت لاستقبال الزوّار.
شعور "الزائر" العابر هو ما تملّك كلّ من قصد وسط بيروت خلال الـ30 سنة الماضية. لم يستطع أهل بيروت ولا أهل المناطق ولا الطلاب أو العمّال، أو حتى السيّاح أن يبنوا أي علاقة حميمية مع ذلك المكان المقفر. نزلنا إلى وسط العاصمة لنتفرّج عليها فقط، ونعود أدراجنا، هكذا تعاملنا مع وسط بيروت. هي دمية جميلة فعلًا، صامتة باردة ومتبرّجة.
.. ثم جاءت انتفاضة أكتوبر
في كلّ مرة أردنا أن ندلّ أصدقاءً على مكان تواجدنا في التظاهرات كنا نتلفّت مطوّلًا لنجد رمزًا ما نستدلّ به على مكاننا. لم نكن نعرف وسط مدينتنا الصغير جدًا ولم نحفظ شوارعه وزواريبه، لا مقاه اعتدنا ارتيادها ولا زوايا خاصة لنا هناك، ولا يملك معظمنا أي ذكريات فيه. في الأسابيع الأولى من الانتفاضة التي انطلقت في 17 أكتوبر 2019 كانت بعض المجموعات تجول في الشوارع المتفرّعة والساحات للتعرّف عليها فقط واكتشافها.
أدركنا فجأة أن المكان الذي قرّرنا أن يحتضن انتفاضتنا الأولى بعد فترة الحرب هو أكثر مكان غريب عنّا منذ انتهاء الحرب. صدفة أم لأن السراي الحكومي والبرلمان هناك؟ احتمالات كثيرة واردة، لكن مكوث الناس في منطقة وسط بيروت وافتراشهم الأرض ونصبهم الخيم والكتابة بشراسة على الجدران هو أيضًا بسبب رغبة دفينة، مكبوتة منذ أكثر من 30 سنة، باسترداد مكان عزيز نعرف أنه كان جميلًا جدًا يومًا ما. هي الرغبة باسترداد ما سلبته منّا، بوجه بارد، المجموعات الحاكمة المنتفعة في السلطة وأهدته لنفسها بعد أن طردتنا منه.
رغبة بتكسير كلّ ما فُرض علينا باستعلاء وإقصاء، رغبة بتكسير زجاج تلك "الشركة" الضخمة التي سمُيت "الوسط التجاري" بغية إعادة وسط البلد إلى أصحابه من السكّان وأصحاب المحال التجارية الصغيرة والباعة المتجوّلين وللمارّة وراكبي الدرّاجات وأهالي المناطق المجاورة والبعيدة وسائقي سيارات الأجرة وأصحاب النزل وبائعي الزهور وتجّار سوق العطّارين والصاغة وروّاد المسرح والسينما والمشرّدين والمتسوّقين.. لكن، السلطة الحاكمة التي ما زالت تقتات من النظام الاقتصادي والسياسي الذي أرساه رفيق الحريري ترفض التنازل عن حصن وسط بيروت.
سعد الحريري، ابن صاحب المشروع رفيق الحريري ورئيس الحكومة عندما قامت الانتفاضة، هبّ يدافع عن "حلم أبيه" متهمًا المنتفضين بالاشتراك في مؤامرة لتدمير وسط العاصمة. قبل أسابيع بنت السلطة جدرانًا إسمنتية سدّت مداخل الساحات الرئيسية والشوارع التي تضمّ عددًا كبيرًا من المصارف ومداخل البرلمان والسرايا الحكومي في منطقة الوسط. شعور بالضيق والغضب رافق مشهد تسوير تلك الأماكن. خشي المنتفضون أن يخسروا مجددًا تلك "الأراضي المحرّرة".
كرنفال وساحة معركة
خلال الأشهر الأربعة الفائتة بدا وسط بيروت كبازار أو كرنفال أو ساحة معركة، لكن هذا ما شكّل بالنسبة لنا إنجازًا ثوريًا بحدّ ذاته. أسقطت الانتفاضة عدائية ذلك المكان تجاه مواطنيه وكُسرت معظم حواجزنا النفسية معه. باعة متجوّلون وجلسات حوارية مفتوحة وحفلات موسيقية في الهواء الطلق وجدران تنطق لغة أهلها ولقاءات على الأرصفة ومواعيد أصدقاء يومية واشتباكات مع الأمن دفاعًا عن حقّ استعدناه وعن حلم نتمسّك به غاليًا. حلمنا نحن، لا حلم رفيق الحريري وورثته ومنظومته.
سألنا بعض المشاركين في انتفاضة 17 تشرين من مختلف المناطق اللبنانية عن شعورهم تجاه المكان الذي احتشدوا فيه طوال أشهر أي ساحات وسط بيروت وشوارعه وعن شكل وسط العاصمة الذي يحلمون به.. هكذا أجابوا:
سارة: فنجان قهوة لا يحتاج ثروة
ما بعرف اذا كان بيعني لي شي وسط بيروت. ما عندي ارتباط عاطفي فيه. ما بيعني لي شي غير إن ساحاته هي ساحات للتظاهر. أنا خلقت دغري بعد الحرب الأهلية فما بعرف كيف كان المكان قبل غير بالصور. أنا وطفلة كانوا ياخدوني أهلي لهونيك، عساحة النجمة ونأكّل الحمام جنب مجلس النواب، أو نمشي جنب الحمّامات الرومانية الأثرية، أو بأرجاء منطقة الأسواق يلي صار إسمها بعدين "بيروت سوكس" (Souqs جمع سوق)، ويحكيني أبي عن تاريخ المدينة وتراثها، وهيدا الجامع كان كنيسة، وهيدا المحل التجاري كان سوق.
أكيد ما كنا نروح عالمطاعم بالوسط لأنها أماكن ما بتشبهنا. مرّة أشارت أمي إلى بناية جديدة مرتفعة جدًا وأخبرتني أن هناك كان محل جدّي، كان يملك محل سمانة (بقالة). طبعًا، هدّت "سوليدير" المحلّ وبنت تلك البناية الشاهقة مقابل مبلغ مالي بسيط. جدّي أصيب بجلطة وتوفي بعد سنوات قليلة.
عدا ذلك ذكرياتي مع وسط المدينة مرتبطة بالمظاهرات. أكيد بالمستقبل ذكرى كل ما جرى منذ أكتوبر / تشرين الأول 2019 ستكون أكتر وضوحًا في ذاكرتي لأن ولا مرة قضيت وقت تحت إلى هذا الحدّ والآن صرت بعرف الشوارع كأنها المنطقة التي أسكن فيها. كأن وسط بيروت لم يكن لي ولا أتخيّل نفسي فيه، ثم اختلف الوضع، اكيد لم يصبح المكان لي لكن على الأقلّ لم أعد أشعر بالقرف عندما أمرّ فيه.
لا أحبّ أن يكون وسط العاصمة مكان يُشعر الناس أنها غريبة ومنبوذة منه، أو مكان كان تسبب بجلطة لأحد. بل مكان يلتقي فيه كل الناس ويمكنهم أن يشربوا فنجان قهوة في مقاهيه من دون أن يكلّفهم ذلك ثروة. مكان ليس لتلك المحلات التي لا يدخل إليها سوى 1% من الشعب، مكان فيه سوق شعبي، مكان ما فيه استغلال للعمالة الأجنبية كما هو حاصل اليوم. مكان يشبه بالونًا أحمر يطير.
وائل: بحثنا عن مدينة بشرية
ما عندي ذكريات بوسط المدينة. وهذا أمر يحزنني عندما أتحدّث عن بيروت. أو بطريقة أصح، ذكرياتي بشعة مع وسط المدينة. إلى جانب الاحساس بأننّي غريب، كنت أحسّ أنها منطقة عندها أزمة هويّة. مستحيّة، insecure، تفتّش عن هوية لها، فمن ناحية شكل أوروبّي لكن فارغ، ومن ناحية أخرى الفروقات الطبقية فيها مرعبة. كنت أنزعج، لا بل أشمئزّ، لمّا أسمع كلمة "الوسط التجاري". كيف وسط تجاري ليس فيه بائع واحد على الطريق؟
عندما نزلت إلى الساحة في 19 أكتوبر/ تشرين، ووقفت بجانب دار الأوبرا، كانت أوّل مرة آخد نفَس عميق وابتسم. أوّل مرّة أحس "البلد" تنفّس، ومشي في عروقه دمّ. نظرتي كتير رومنسية، لكن فعلًا كانت تجربة وشعور أوّل مرّة بحسّهم. عنالي كتير تكسير صورة الألوهية عن وسط بيروت. صارت بشَر، متل ما يقول الفنان خالد الهبر "بيروت شويّة ناس". تأنسَنَت. بعد ذلك شاهدت البياعين وصرت أسعى للشراء منهم كلّهم لكي لا يغادروا. كنت مشتاق أن أجد كعكة بجبنة وعرنوس (كوز) ذرة مثلًا، كان ذلك مستحيلًا في وسط بيروت لكن فجأة وجدتهم على عربات أمام محال Patchi و Chanel. لا يمكن وصف شعوري حينها.
وسط بيروت كما أحلم به؟ "بيت لي ما عندو بيت يأويه "، "شغل للي ما لاقى حدا يوظّفه" "ترامواي للي ما ملاقي حدا يوصّلو"... وسط العاصمة يلّي بحلم فيه، يكون نموذج عن مجتمعي. طالما وسط العاصمة صحّي، يعني مجتمعي صحّي. وبطبيعة الحال، هيك كانت سوليدير "نموذج Hybrid عن مجتمع بعد مش عارف حالو وين".
إيناس: حذاء جديد في الوحل
كان شي بيشبه التّار (الثأر)، كأن حدا معه كتير مصاري ولابس حذاء كتير حلو وإنتِ عارفة ما بحياتك رح تقدري تلبسيه، وإذا صارلك ولبستيه بكون عبالِك تمرمغيه بالوحل. هيك بالأول. مع الوقت بتنتبهي إنه هذا المكان هو مساحة عامّة ما بحياتها كانت موجودة بثقافتنا، بالقليلة أنا شخصيا ولا مرة كان خاطرلي حق التمتّع بهيك مساحات. بكل بساطة لأنّه فيها بذخ مخيف ما بيشبهني ولا بيشبه أغلبيتنا. وحتى لو كانت شي متاح، كانت منفّرة بكل المقاييس. وكان صارلي سنين بسأل ليش ما فيه عرباية ذرة بوسط هالبلد؟ شو هالوسط اللي ما فيه بيّاعين غزل البنات وترمس وفول؟ إجت الثورة وإجوا الباعة وزيّنوها وخلّوها بتشبهنا كتير حتى الجرافّيتي عالحيطان وحتى فكرة إنك تقدري تصفي وين ما كان.
وسط العاصمة الحلم؟ بيشبه مدينة صيدا القديمة وأحياء فرن الشبّاك (منطقة سكنية للطبقة الوسطى) القديمة الشعبية.
روان: مش نوستالجيا الستينيات
حسيت إنو هذا هو المكان اللي بدي كون فيه، بصرف النظر عن المكان المادي. أدركت أهمية الشعور الجماعي المشترك. بغير حالات، نحن منكون عم نفكّر لحالنا، ونعترض ونتمرّد لحالنا ببيروت. المظاهرات كانت من المرات القليلة اللي منعرف فيها أهمية الشعور الجماعي وحاجتنا له. وأن يتحقق ذلك في وسط بيروت له معنى مضاعف، المكان الذي لم نشعر يومًا بالانتماء إليه. عطول في حواجز معنوية ومادية بتبعدنا عنه، حواجز متعلقة بتاريخه، وبأبنيته ومحلاته. وقت المظاهرات صرنا عم نملكه: عم ننزل عليه وقت اللي بدنا، ساعة اللي بدنا، عم نمشي فيه، ونقعد على الطريق. هيدا الشي كان صعب يصير قبل لأن عطول بنمرّ فيه سريعًا بالسيارة. مش صدفة إن المتظاهرين كسّروه بالبداية وبعدهن عم بيكسّروه.
في صور لبيروت وساحة الشهداء بالستينات كان فيه مواشي وسوق شعبي. مش نوستالجيا، بس هيدا الشي تحقق وقت اللي الناس نزّلت عربات ذرة وفول، وخيم. القوى الأمنية وحرس المجلس النيابي كانوا عم يتعدوا على هؤلاء الناس كل ما تسنح الفرصة، وهذا يجسّد سياسة "سوليدير" بالقضاء على أي شي شعبي وحقيقي بالوسط، تمامًا متل لما حطوا الجدران قبل أيام. بالمظاهرات كان فيها ناس مش سيارات، ولأول مرة كنا عم نلتقي برفقاتنا وبناس منعرفهن تحت بالصدفة. هيدا شكل الوسط اللي بتمناه، وتحقق. ولا مرة التقيت بحدا من رفقاتي مثلًا بالصدفة بوسط بيروت إلا وقت المظاهرات. هيك بحلم فيه يكون مكان جامع متل أي وسط عاصمة بالعالم.