حينما اندلعت الثورة المصرية، في بداية عام 2011، أطلق عليها البعض اسم "ثورة الشباب" (بسبب أن الشباب كانوا هم حطبها)، وأسماها البعض اﻵخر "ثورة اللوتس"، (معارضة لثورة الياسمين بتونس)، وسميت أخيرًا "ثورة يناير"، وهو الاسم الذي ترسخ واستؤنس، وتوافق عليه نظام ما بعد الثورة والإخوان المسلمون. لم يرض النظام الجديد بتلقيب الثورة باسم "ثورة الشباب"، فخرج المعلقون والكتاب ليركزوا على فكرة واحدة، وهي أنها ثورة ساهم فيها كل الشعب، وبالتالي ليست قاصرة على الشباب فقط. بينما كان اللوتس يذكر الإخوان المسلمين، ومن تبعهم من جماعات إسلامية، بتاريخ مصر الفرعوني، الذي يريدون طمسه بكل الطرق. ولكن الشباب كانوا بالفعل شرارة الثورة، التي أحرقت نظام مبارك (أو هكذا ظنوا). هذا الشباب الحالم والمثالي الذي عزم على أن تكون الثورة سلمية بلا أي عنف، حتى أن الشباب كانوا يساعدون جنود الشرطة على الهرب، بعد أن يكسروا الحلقات والقيود الدائرية، التي كانوا يحيطونهم بها، ورغم أن هؤلاء الجنود أنفسهم ضربوا وقتلوا من الشباب العشرات.
الثورات يصنعها هؤلاء الحالمون المثاليون. الحالمون بغد أفضل لبلادهم ومجتمعاتهم. والمثاليون في عدم رد الإساءة. هؤلاء الحالمون المثاليون تستغلهم نظم ما بعد الثورة، لأن الناس تصدقهم، لأنهم بالفعل صادقون مع أنفسهم، ولا يرغبون في أية مناصب أو مصالح شخصية، بل يهتمون فقط بمصالح بلادهم ومجتمعاتهم. نشهد هؤلاء الشباب في الفيلم الأمريكي، "حُمر Reds" من إنتاج عام 1981، ولكن هذه المرة مع الروس، وبعد ثورة أكتوبر الروسية 1917، لا ثورة 25 يناير 2011.
الفيلم من بطولة وارين بيتي، وديان كيتون، وجاك نيكلسون، ومورين ستابلتون، ومن تأليف وارين بيتي، وتريفور جريفيث، وإخراج وارين بيتي. ورُشِح لنيل 12 جائزة أوسكار، فاز بثلاث منها، وهي أفضل ممثلة مساعدة، وأفضل تصوير، وأفضل إخراج. ويحكي الفيلم قصة الصحفي والكاتب الأمريكي جون ريد، الذي كتب واحدًا من أشهر الكتب عن الثورة الروسية، وهو كتاب "عشرة أيام هزت العالم".
في أحد مشاهد الفيلم، يكتشف الصحفي الأمريكي جون ريد (وارين بيتي)، أن النظام الروسي (البلاشفة)، الذي يحكم بعد الثورة الروسية، يخدعه ويستغله، وذلك حينما يكتشف أنهم يترجمون خطاباته بشكل خاطئ. ويأتي هذا الكشف بالصدفة، فخلال أحد خطاباته في باكو (عاصمة أذربيجان الآن)، وضمن حضور أغلبه من الأتراك والفرس المسلمين، الذين يحرقون تمثالًا للعم سام الذي يرمز لأمريكا، وجد جون ريد أن الجمهور بدأ يهتف له بشكل مغالى فيه، حينما قال "حرب طبقية"، ليعرف بعد ذلك أنها ترجمت –بعد تدخل عضو الحزب الشيوعي جريجوري زينوفاييف- إلى "حرب دينية"، حيث ظن الحضور أن نظام ما بعد الثورة الروسي هو نظام جهادي، يريد القضاء على الغرب الكافر. وبذلك فهم جون ريد أن النظام يستغله، ويستغل الناس البسطاء أنفسهم، في تعبئتهم عبر طرح ما يريدونه حيثما ذهبوا، من أجل دعمهم ضد معارضيهم داخليًا وخارجيًا.
دعونا نؤكد هنا أن الفيلم أمريكي، عن صحفي أمريكي أثار الكثير من الجدل ببداية القرن العشرين، وخاصة أثناء الثورة الروسية، حيث كان يريد نقل التجربة الروسية إلى الولايات المتحدة. وقد سافر إلى روسيا ومات فيها، فكرمه النظام الروسي لما قدمه له من دعم وخدمات. ولكن الأفلام التاريخية لا يتم صنعها اعتباطًا، فكل الأفلام التاريخية تهدف في الأساس إلى الإحالة إلى الحاضر. ومنها الفيلم الذي نتحدث عنه. حيث يوضح هذا المشهد الرئيسي والمحوري المغزى الحقيقي من وراء صنع الفيلم، وهو تشبيه الثورة الإيرانية الإسلامية، التي قامت قبل عرض الفيلم بعامين فقط (1979)، بالثورة الروسية الشيوعية (1917)؛ ليقول صناع الفيلم الأمريكي، أن خطر وزيف الثورة الإيرانية على المجتمع الأمريكي والعالم كله، كمثل الثورة الروسية قديمًا. وأن مصير الشخصيات الحالمة/ المثالية، كالصحفي الأمريكي جون ريد، والتي بهرتها الثورة الروسية/ الإيرانية، هو أن تكتشف يوما أنها خدعت، وأن ليس كل ما يلمع ذهبًا.
يأتى هذا الكشف، لبطل الفيلم، متزامنًا مع اكتشاف شخصيات أخرى أن الأحداث في روسيا قد خدعتهم، ليفكروا في محاولة العودة إلى بلادهم (الولايات المتحدة)، التي اكتشفوا أهميتها وقيمتها، مقارنة ما يرونه في روسيا، من خداع وزيف.
كل هذا يؤكد أن رؤية صناع الفيلم للثورة الروسية هي رؤية سلبية، وأنهم يستخدمون شخصية جون ريد، كشخص مثالي وحالم، ليعرّوا ما يرونه من زيف الثورة الروسية ونظامها ورموزها. ولهذا السبب يعتبر فيلم "الحمر" أهم الأفلام الأمريكية عن الثورة الروسية. وهو أحد بضعة أفلام أمريكية، لا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة، عن هذه الثورة، التي تعتبرها الولايات المتحدة أس الفساد والشر والمرض، الذي تفشى بين الناس وحول العالم، وحتى بداخل أمريكا نفسها، على يد جون ريد وأقرانه، من المؤمنين بالشيوعية، وحقوق العمال، ومثل هذه الأمور، التي لا يأبه بها النظام الرأسمالي الأمريكي.
ولكن ألا يعني ذلك أن صناع الفيلم أنفسهم قد وقعوا في نفس الشرك الذي انتقدوه في الفيلم؟ بالتأكيد، فهم أيضًا يستغلون السينما والفيلم لتأكيد الأيديولوجيا الأمريكية، مقابل أيديولوجيا الثورة الروسية، وأيديولوجيا الثورة الإيرانية. وبذلك يدخل الفيلم ضمن ما يمكن أن نسميه بالبروباجندا المضادة، حيث لم يقم صناع الفيلم، فقط بالهجوم على الثورة الروسية عبر كشف جون ريد وموقفه المتأخر من نظام ما بعد الثورة الروسية، ولكن أيضا هاجم الفيلم بروباجندا الثورة الروسية، عبر مهاجمة كاتب الكتاب الذي استلهم منه المخرج الروسي الشهير، سيرجي آيزنشتاين، فيلمه "أكتوبر" (1928)، الذي خلد الثورة الروسية، والمأخوذ عن كتاب جون ريد، "عشرة أيام هزت العالم". ففيلم آيزنشتاين يعتبر أهم فيلم عن الثورة الروسية، وقد دعم النظام الروسي صنعه، وساعد على عرضه ونشره في كل مكان حول العالم، من أجل أن يعرف الناس أكثر عن الثورة الروسية، وفقًا لرؤية النظام الذي حكم روسيا بعد الثورة.
بدأ استغلال السينما سياسيًا، عبر أفلام البروباجندا، في الولايات المتحدة، مع المخرج الأمريكي ديفيد وورك جريفيث، في فيلمه "ولادة أمة (The Birth of a nation (1915"، وبعض أفلام شارلي شابلن، أثناء الحرب العالمية الأولى، حيث كان للسينما دور كبير في حث الناس والشعوب على تقبل حالة الحرب. ثم استلم الراية الروس، بعد الثورة الروسية، مع فيلم "المدرعة بوتمكين (1925) Battleship Potemkin" للمخرج سيرجي آيزنشتاين، الذي تأثر كثيرًا بالمخرج الأمريكي جريفيث، ليس فقط في استخدام السينما سياسيًا، بل أيضًا في طريقة المونتاج. ثم نشهد أفلام البروباجندا قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية، في ألمانيا مع فيلم "انتصار الإرادة (1935) Triumph of the Will" و"أولمبيا (1938) Olympia" للمخرجة ليني ريفنستال. ثم العودة مرة أخرى إلى الولايات المتحدة مع شارلي شابلن في "الديكتاتور العظيم (1940) The Great Dictator" و"كازابلانكا (1942) Casablanca" للمخرج مايكل كورتيز. ثم سلسلة أفلام "لماذا نحارب Why We Fight "، للمخرج فرانك كابرا. وحتى بعض أفلام الكارتون، التي صنعتها شركة والت ديزني. وتستمر هذه النوعية من الأفلام حتى الآن، ولكن بأشكال وبطرق مختلفة غير مباشرة، مثل أفلام الأبطال الخارقين، كسوبر مان وسبايدر مان وكابتن أمريكا وغيرها.
بالتأكيد حاول صناع فيلم "الحمر" تقديم رؤيتهم، التي تندرج تحت البروباجندا، عبر قصة إنسانية جدًا، لتكون أكثر جاذبية وإقناعًا. بل نستطيع أن نقول أنها بدت كرؤية سامية وحالمة ومثالية، بسبب سمو الشخصيتين الرئيسيتين في الفيلم، وهما جون ريد، وزوجته لويز براينت (ديان كيتون). هذه القصة تجذب المشاهد، وتجعله يتقمص الممثلين، ليتخذ في النهاية موقفًا متشككًا، مثل ذلك الذي اتخذته الشخصيات الرئيسية في الفيلم، حينما كشفوا زيف نظام ما بعد الثورة الروسية.
أخيرًا، هذه الرؤية السينمائية المتمثلة في فيلم "الحمر" –ولنلاحظ أن كلمة "حمر" قد اتخذت في الثقافة الأمريكية معنى سلبيًا، يشير إلى الشيوعيين المخربين للمجتمع الأمريكي، وقيمه الأخلاقية، مثلما روجت النظم الأمريكية المتعاقبة– وأيضًا الرؤية التاريخية، التي بنى صناع الفيلم عليها قصة حياة جون ريد، هي رؤية انتقائية، قرر صناع الفيلم انتقاءها بدلًا من الرؤى الأخرى، التي أكدت أن جون ريد ظل حتى النهاية مؤمنًا بالشيوعية، وبالبلاشفة ونظامهم الحاكم في روسيا بعد ثورة أكتوبر. فالفيلم يدخل بذلك ضمن حرب البروباجندا بين الشرق (الاتحاد السوفيتي وقت عرضه)، والغرب (أمريكا)، والتي ما زالت قائمة حتى الآن، متمثلةً في العديد من الأشكال، ومنها السينما وجمهور السينما.