لطالما عاش مجتمع الميم، من المثليين والمثليات، ومزدوجي الميول الجنسية، ومصححي الهوية الجنسية، وثنائيي الجنس، في أوضاع غير إنسانية نتيجة للمعاملة التي يلقونها من قبل الدولة والمجتمع المصريين. فهم لا يُقابَلون سوى بالعنف والاضطهاد والتعذيب والتحقير؛ فقط لأن ميولهم وهوياتهم مختلفة عن الأنماط الاجتماعية المعتادة.
العلم والدفاع عن المثلية
دائمًا ما يكون العلم ركيزة حديث الداعمين والمدافعين عن حقوق المثليين، لمحاولة إثبات أن المثلية الجنسية أمر طبيعي علميًا، ولا تعتبر توجهًا اختياريًا. ومن خلال ركيزة العلم، يقع الكثير منهم، بوعي أو بدون، فريسة لإعادة إنتاج القمع والاضطهاد الواقعين على المثليين. لذا فهذه محاولة لتفكيك ونقد الخطاب الذي يرتكز على العلم من حيث عدة نقاط أساسية هي:
أولًا: كونه يحمل في طياته رهابا للمثلية.
تبدو الحجة القائلة بان المثلية الجنسية أمر طبيعي علميًا، وأن المثليين ليس لديهم خيار فيما هم عليه؛ وكأنها اعتذار عن كونهم مثليين، وكأنما المثلية مرض غير قابل للعلاج، وأن الأشخاص المثليين كانوا سيصبحون غيريين لو تمكنوا من ذلك.
"فنعمل إيه فيهم؟ نقتلهم؟ على الأقل نسيبهم في حالهم؟" هكذا يرد البعض من المدافعين عن المثلية بوجه الرافضين لها! فكيف ستكون إجابتهم لو ثبت أن المثلية اختيار حر؟
إن الخطاب المرتكز على العلم دائم الاهتمام بما يقوله العلماء والأطباء، وبما أثبتته الدراسات، وبما أنتجته المعامل والمختبرات. حيث تهمل بشكل تام سائر جوانب هوية المثلي كإنسان، فعندما يُذكر لا يطرأ في مخيلة الكثيرين سوى الصورة النمطية لذكور أو إناث يمارسون الجنس في غرف النوم. وفي ذلك تجاهل وتغاضٍ تام عن أن المثلية ليست مجرد ممارسة جنسية فقط، كما ينظر إليها الأغلبية بشكل عام، وكما يعزز من ذلك أصحاب ركيزة كونها أمر طبيعي علميًا. فالمثلية هي أيضًا ميل عاطفي. فمثلما توجد فيها الرغبة الجنسية، توجد فيها أيضا المشاعر. فلا يجوز اختزال المثلية بالحياة الجنسية فحسب. فهذا خلل مهين وعنصري إذ يتحول المثليون إلى كائنات جنسية، ولا يتعامل معهم كبشر لهم حيوات واهتمامات، على عكس التعامل مع الغيريين جنسيًا، حيث لا يختزل النظر لهم في العملية الجنسية فقط بين الرجل والمرأة.
بجملة هذا الخطاب الذي يرتكز على العلم، دون الوعى بالسياق السياسي والاجتماعي، وجذور اضطهاد المثليين، فإن كثيرًا من المؤيدين للمثلية يصف المجتمع بأنه "هوموفوبي" لرفضة ومعاداته للمثلية. والهوموفوبيا بتعريفها هي حالةُ خوفٍ من التواجد حول أشخاصٍ مثليين، أو حمل مشاعر كرهٍ أو ازدراءٍ نحوهم من قبل غيريي الجنس. والفوبيا هنا هي وصف علمي/طبي لحالة مرضية تحتاج للعلاج. لكن عندما يتعلق الأمر بوصف المجتمع فإن "الهوموفوبيا" لا تعود مصطلحًا طبيًا، بل تخرج من اﻹطار العلمي إلى اﻹطار السياسي، كمصطلح يساهم في تعزيز الثنائيات التي يجب كسرها. فهو يقسّم المجتمع إلى مثليين وغيريين، وإلى "حلفاء للمثليين" ومن "يكرهون المثليين". وبتجاهله لذلك، يقوم الخطاب المرتكز على العلم وحده بتبسيط النضال من أجل التحرر الجنسي والجندري، الذي يجب في اﻷساس أن يقوم على محاربة النمطية الغيرية، التي نتربى عليها ونتشربها جميعًا، وما زالت رواسبها تلقي بظلالها حتى على أكثرنا تقدمية.
إن الهوموفوبيا هي حالة مرضية يمكن وصف اﻷفراد بها، وليس المجتمع؛ لأنها عندما تصدر عن المجتمع لا تنبع من خوف مرضي، بل هي تعبير عن موقف اجتماعي وسياسي وثقافي واضح المعالم يمثل مصالح وهيمنة فئات اجتماعية أو سياسية معينة. فعلى سبيل المثال، لا يأتي عداء بعض التيارات الإسلامية للمثلية الجنسية من باب أن لديها خوف مرضى من المثلية، بل هو تعبير عن موقف وانحياز سياسي واضح متأصل في تاريخ ومرجعية هذه التيارات. وفي حالة اليسار الدولتي المعادي للمثلية الجنسية، من خلال موافقته على ممارسات الدولة القمعية ضد المثليين، يعبر ذلك عن موقف متوارث من جيل إلى جيل وسط هذا اليسار الستاليني، فقد أقرت الدولة السوفيتية في عهد ستالين في 1933 قانونًا يقضي بتجريم المثلية، وبمعاقبة المثليين بالسجن خمس سنوات، كجزء من سياسة تعزيز النظام الأبوي والأسرة النووية وقتها، بالرغم من أنه قد تم إلغاء تجريم المثلية بعد انتصار الثورة الروسية في أكتوبر 1917. وهذا يعنى أيضًا أن موقف هذا اليسار هو موقف سياسي واضح.
فيما يتعلق بأجهزة الدولة القمعية، في أقسام الشرطة، ومكاتب أمن الدولة، ومعسكرات الأمن المركزي، حيث يمارس الاغتصاب والانتهاك الجسدي ضد المعتقلين من المثليين والمغايرين من قبل ضباط وأفراد هذه المؤسسات. لا تعبر هذه الممارسات عن خوف مرضي، بل هي ممارسات سلطوية لكسر وإذلال المحتجزين والسجناء، وهى انعكاس لممارسات المجتمع الأبوي الذكوري، في أعلى هرم الفحولة.
وثمة أيضا الكشف الشرجي، الذي يستخدم لتحديد ما إذا كان رجل ما مثليًا أم لا. وهو ما يعد انتهاكًا جنسيًا من قبل الدولة، ويطال فقط من يسميه المجتمع "الطرف السالب،" أو غير ذلك من التسميات المهينة بالعامية مثل "البسكلتة" أو "العجلة." وهي تسميات تحقر من هذا الطرف، لأنه في المفهوم التقليدي، يقوم بدور الأنثى فى العلاقة الجنسية. وهذا يعد نتيجة مباشرة لهيمنة النظام الأبوي الذي يصنف الأكثر أنوثة على أنه فرد أكثر خضوع، وبالتالي فهو أقل شأنًا من الآخر.
إن العداء للمثلية كظاهرة اجتماعية، لا يتعلق فقط بأفراد يمكن وصفهم بأنهم مرضى بالهوموفوبيا فيتوجب علاجهم، بل نحن أمام مجتمع وسلطة و هيمنة نظام أبوي رأسمالي، يعمل على إعادة صياغة دائمة للمجتمع كمكانٍ خالٍ من التعدّد الجنسي، و تعزيز الهوية الغيريّة وكأنها هي الوحيدة المشروعة والطبيعية، وفرض نموذج للعائلة قائم على العنف والخضوع والسيطرة والاستغلال. ولا بد من كسر تلك الهيمنة لتجاوز كل النتائج السياسية والاجتماعية والثقافية المترتبة عليها.
تبرهن الحجج السابقة إذًا على أن خطاب العلم لا يجب ان يكون ركيزة للحوار حول المثلية، وإنما هو فقط مجرد شاهد للركيزة الأساسية والتي يجب على المنحازين لقضايا المضطهدين أن يتمحور خطابهم حولها والانطلاق منها، ألا وهي "الحرية الجنسية".
إن تجمع مئات من مجتمع الميم في حفل مشروع ليلى مرفرفين بأعلام قوس قزح، يعني أن ذلك كان قرارًا شجاعًا بالظهور علنًا وفرض مساحة آمنه لهم، مُتحَدين ومتحملين عواقب هذا الظهور من النظام والمجتمع المعاديين للحريات. فعلى إثر هذا الظهور، تم القبض على 57 شخصًا يتم محاكمتهم الآن بتهم ممارسة الدعارة و الفجور بحسب مصادر المبادرة المصرية للحقوق الشخصية. أتى ذلك بعد حملة تحريض منظمة في وسائل الإعلام، لتبث وتعكس كم التمييز والكراهية الذين يتسم بهما النظام. ولم تكن هذه الحملة الأمنية هي الأولى من نوعها ضد مجتمع الميم، فمنذ صعود الثورة المضادة، وتولي عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم في البلاد، ألقت الشرطة القبض على ما لا يقل عن 250 شخصًا من المثليين وثنائيي التوجه الجنسي والمتحولين جنسيًّا، بحسب تقرير نشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في أغسطس/آب الماضي.
ومع تزايد قمع المثليين من قبل السلطة، تتزايد حالة السعار والكراهية والتحقير من قبل المجتمع، الذي يلعب الدين ورجاله دورًا هامًا في صياغة أفكاره ومرجعيته، فتسيطر عليه فكرة العقاب الجماعي في حالة التسامح مع اﻵخر المختلف.
إن هذا القمع والاضطهاد المنهجي يحتاج من كل المؤمنين بقضايا الحريات وحقوق الإنسان، التضامن والتصدي والدفاع عن حقوق مختلفي الميول الجنسية والجندرية؛ لأنها حقوق أساسية لا تتجزأ عن أي حق آخر من حقوق الإنسان. وهذا الحق الأساسي يجب أن يكون مطلبًا للجميع، وليس للمثليين وحدهم. وبالتالي لا بد أن يكون على أجندة جميع المدافعين عن الحريات. فلا وجود للتراتبية في الأولويات النضالية كما يظن أصحاب "فقه الأولويات".
ولن تتم هذه المهمة سوى بتبني مشروع تحرري كامل لمختلف الميول الجنسية والجندرية، وذلك من خلال النضال من أجل الإلغاء الشامل لكل القوانين والسياسات التي تتعدى على الحريات الجنسية، بداية بقانون مكافحة الفسق والفجور، أو كما يُعرف باسم قانون الدعارة، وتجريم الإجهاض، وصولًا لتجريم "اللواط" و"الزنا". وذلك عبر سياسة جندرية وثورية لا تخجل من أسئلة الجسد والجنس، والدور الاجتماعي وعدم الانضباط بالمعايير النمطية، لكن تشابك منظومة القمع تجعل التحرر الجنسي غير منفصل عن مسيرة التحرر الاقتصادي والاجتماعي.
"فقط من خلال التحدث علنا نستطيع خلق تغيير دائم. وهذا التغيير يبدأ بالخروج".