"حسنًا... بالطبع نوبل رائعة وكنت أود أكثر لو حصلت عليها شابًا بيد أن رحلة لخارج البلاد لمدة أسبوعين كاملين يمكن أن تهدد نمط حياتي".*
هكذا اعتذر محفوظ عن الذهاب للسويد لاستلام نوبل، وهكذا نكزني هامسًا: هذا أنا اليوم وغدًا وكل يوم.
كثيرا ما راودتني الخيالات حول تواجد محفوظ بعنفوانه الروائي اليوم، هل كان سيفضّل النشر الورقي أم يتجه للسينما، الانتشار الأسهل سيدي، هل كان سيفضل الانتشار أصلًا أم أن مكتبه أولى بالجلوس؟
أي نجيبٍ كان سيكتب اليوم؟ الاشتراكي أم الأصولي أم الثوري؟ المعرفي أم هذا الذي يحتمي في شيخ الحارة بفطرته التي جاوزت العلم والعلماء.
"كمال في الثلاثية يمثل جيلي، ولكنها في الوقت نفسه شخصية عامة، أشعر أيضًا أنني قريب من عبد الجواد، الأب، المنفتح على الحياة، المحب لأصدقائه، الذي لم يؤذ أحدًا عامدًا متعمدًا قط، كلتا الشخصيتين تمثلان نصفي شخصيتي أنا؛ عبد الجواد الاجتماعي للغاية، المحب للفن والموسيقى، وكمال الخجول، الجاد، المثالي، المنطوي".
نجيب.. من أنت؟!
أعتقد ومعي كل قارئ انغمس ولو قليلًا في نهر محفوظ أن جُل ما كان يفرده ويجعله نادرًا أنه كان متلونًا لا تقدر على حصره بقالب ولو حاولت، أذكر وعند بداية قراءتي للحرافيش بحكاياها العشر، ترسخ في ذهني هيئة نجيب ساكن الحارة الذي لا يتركها، يستقى كل أخباره من كهولها، لا يعتد بأي أنواع الحداثة، يحيا ويحيا على الأصول لا ملجأ له سواها، وسيق لي بعدها بمدة – ليست بالقصيرة – أن اقرأ "ميرامار" لأرى نفسي مجزمًا بأن نجيب هذا لم يدخل حارةً قط!
ما يجعل محفوظ هو هذا الفذ العابر للأزمنة، الضامن لصك النجاح في كل عصر، ليس فقط الموهبة المتميزة التي يتمتع بها، مثل آخرين وإن كانوا قلائل، وإنما كونه كاتبًا مثاليًا، كاتب يستهلك العصر لا يستنتج منه شيئًا، لا يضع لنفسه أي مهمة استنباطية، يكفيه الطرح، نشر التساؤلات، يحاوطك بها من كل الجهات، ومن ثَم حاول أنت الإجابة بمفردك، أنت أيها الموجود منذ أربعين سنة لديك جواب، ابنك في عشرينياته الآن لديه جواب مختلف، وبالطبع حفيدك بعد أربعين أخرى لديه جواب آخر، لكم جميعا ما شئتم، يكفي محفوظ أن السؤال لم يتغير.
سعيد مهران في "اللص والكلاب"، الشيخ، الساقطة، نفيسة في "بداية ونهاية"، زهرة في " ميرامار" نجيب... أأنت محق؟ ألا تقصد هذا السيل الرمزي حقًا؟
لنا ما شئنا، يكفي محفوظ أن السؤال لم يتغير!
على ذكر الرمز، فالجدل الواسع الذي يحققه أي كاتب يقترن اقترانًا موثوقا بمجتمعه، إما أن يروي مشاكلهم وكأنه بينهم لا فوقهم فيباركوه، وإما أن يضرب أصولهم أو حتى يقترب منها فيلعنوه، في الحالتين هو نجيب محفوظ، وإن عانى كثيرًا في مسألة الرمز الديني تحديدًا إلا أن الأمر عنده أبسط بل - ومعذرة- أتفه مما يتيقن لاعنوه، محفوظ وأكبر مشاكله الرقابية في "أولاد حارتنا" لم يأخذ القضية بحجم لاعنيه أو جزء منه حتى، هذا الترميز المبالغ فيه في الرواية الذي وصل إلى محاولة (تقييف) كل الشخصيات كبيرة أو صغيرة وتصويرها بصورة أنبياء، حقًا أيعتقد شخص أن محفوظ بحاجة لكل هذا القدر من اللف والدوران للإساءة لنبي؟ تبيان مكانة العلم في المجتمع بالطبع لا تستدعي هذا التحميل الرمزي المصطنع، معادلة بسيطة فكر فيها متجردًا وستجد النتيجة؛ نبذ العلم يساوي نبذ الإنسان، تمت.
محفوظ كان ولم يزل لا يفكر دينيًا – وإن شطح أحيانًا- باستدعاء الصراعات، يتكلم بصعوبة ويخرج التصريحات في هذا الأمر مقطرة، يقر بأنه لم يذهب لمكة ولن يذهب فقط لأنه يكره الزحام، لا يصلي كثيرًا لأنه يرى المعاملة الحسنة خير من القيام والسجود مكررًا وكأنه يتعبد لله بتمارين رياضية، هو من أولئك الذين يعتبرون الدين سلوكًا إنسانيًا جوهريًا، أمر لا يُرضي الكثير لكن حسنًا هذا شأنه، ومن يهتم؟
نجيب... أحمد الله على قلة لقاءاتك!
الرائع في الأمر دومًا أن الكتابة بلا كتالوج ولا يوجد على وجه الأرض من يملك أن يأمرك بالمسار الصحيح لتصبح كاتبًا، الخيارات أمامك وكلها ناجحة، أولئك الذين يجبرون أرواحهم على الكتابة وأولئك الذين يكتبهم الأدب لا يكتبونه، ما زلت أسمع جيدًا صوت الأبنودي: "هو أنا بفكر في الكلام؟ أنا بصحى القاه تحت المخدة".
صلاحية الأمكنة والعصور
محفوظ من المدرسة التي تكتب وتكتب وتكتب، يوم ممنهج يبدأ بالوظيفة من الثامنة للثانية، ثم الكتابة يوميًا من الرابعة للسابعة، والقراءة يوميا من السابعة للعاشرة، صدقني لا أقصد أي اتجاه لوضعك على منهج مضمون للنجاح، فقط هذا منهج نجيب، وأن تصل به لشيء لن تصل إلا أن تكون نجيبًا، أن تحول الأدب من رفاهية تناسب المهنئون بعيشهم إلى حاجة يلح في طلبها الشقي والسعيد.
يبقى هذا النمط الحياتي لمحفوظ هو الاعتراف الأجدر بجعله فذًا لا يعتد بأي عصر وتعتد به كل العصور، التزام صارم لم يكسره حتى للذهاب لاستلام نوبل، محفوظ الذي أصر أن يبقى دومًا موظفًا حكوميًا، حتى وقت طويل ينفق هو على الأدب، يتحمل بأسرته تبعات مثل هذه القرارات، وينشر قرابة الثمانين قصة بلا مقابل.
كان اختياره كما اختياره لباقي جوانب الحياة اختيارًا بغاية التحليق بلا ركود، اختيارًا مثاليًا بأن يظل قلمه أو على الأدق ضميره الأدبي مجانيًا، وبالتالي يصير منتجه لا يقدر بثمن، في الحقيقة لا يوجد في المجتمع الحديث مقياس عام للجهد الفكري بمقابل ربح مئوي، حتى وإن قرر الكاتب أن يتبنى المادة منهجًا له، فسيجبره العصر عاجلًا أم آجلًا أن يضع منتجه امتحانًا ونماذج إجاباته تتجدد لا حصر لها.
وقفت أمامكم بالسوق كي أحيا وأحييكم
لا أبكي وأبكيكم..
وما غنيت بالموتى..
لأصنع من جماجمهم عمامة وعظ..
فلو عاش الذي مات..
أين يعيش من ولدًا؟
صلاح عبد الصبور
نجيب الذي راهن على الحياة فسحق معنى الموت.
يقولون إن الأدباء ثلاثة؛ منهم من رأى البحر ومنهم من ركب البحر ومنهم من غرق في البحر، الرائع أن نجيب أخذ بأيدينا حتى البحر، أرانا إياه، فتنا به، قال: أتبحرون؟ ، ثم قرر أن يقفز – وحده- تاركا الحيرة تجول بيننا؛ ننزل؟... نرجع؟... نلزم الشاطئ؟
لنا جميعا ما شئنا، يكفي محفوظ أن السؤال لم يتغير!
* القبسات الواردة على لسان محفوظ من حواره مع مجلة ذا باريس ريفيو والحوار نشر في عدد المجلة صيف 1992.