بنسبة 92% صوّت الأكراد بنعم في استفتاء استقلال إقليم كردستان عن العراق، والذي جرى أمس الأول، الإثنين وظهرت نتيجته النهائية اليوم، وأحاطته ردود فعل إقليمية ودولية مُعارضة.
وربما يرى البعض أن نتيجة الاستفتاء قد تُحول الإقليم إلى دولة كُردية مُستقلة، ليتحقق حلم تجاوز المائة عام منذ وقت اتفاقية سايكس بيكو، وخاض الأكراد في سبيل هذا الحلم مغامرات عديدة، كتأسيس أقرانهم في إيران جمهورية في عام 1946، تلك التي انقضت أيامها سريعًا بخلاف الصراعات التي كانت قائمة في زمن الرئيس العراقي السابق صدّام حسين.
ولكن رغم أن الاستفتاء أعرب عن رغبة ساحقة في الانفصال، إلا أنه لن يؤدي إلى احتفال الكُرد بإعلان دولة مُستقلة، فالمُعطيات السياسية على أرض الواقع تؤكد أن اﻷمر أكثر تعقيدًا، وأن طريق الاستقلال تفترشه المفاوضات.
محاورة الرافضين
في مقابلة مع وكالة "رويترز" في أوائل يوليو/تموز الماضي، قال حاكم كُردستان مسعود بارزاني إن الاستفتاء ستعقبه مفاوضات مع بغداد (الحكومة العراقية المركزية) والدول المجاورة والقوى الدولية، بهدف التوصل إلى اتفاق ودي، وهو ما جدد تأكيده اليوم.
"بارزاني يعرف أن تنفيذ نتائج الاستفتاء بالقوة أمر من قبيل المستحيل، ويُدخل الأمة الكردية في حالة حرب مع قوى أكبر منها بكثير، تمامًا كما يُدرك أن الذهاب إلى 25 سبتمبر/ أيلول هو إجراء رمزي"، هكذا يقول محمد محسن أبو النور، الخبير في العلاقات الدولة، لـ"المنصّة".
ويقول الباحث والمحلل السياسي صلاح لبيب إن الإقليم مُحاط بجيران يعادون تأسيس دولة كردية، وهم في الوقت نفسه منافذه الوحيدة لتصدير النفط - مصدر الثروة الرئيسي - ومرور البضائع والمواد الغذائية إليه؛ وسيواجه مصاعب كبيرة جدًا إذا ما دخل معها في صراع، لا سيما وأن استفتاءه "غير ملُزِم للقوى الدولية أو بغداد (الحكومة المركزية)".
جُغرافيًا، يتصل إقليم كُردستان بالعالم الخارجي بوسيلتين أولهما مطاري السليمانية وأربيل، ولا بد من مرور الطائرات التي تحط بهما بالمجالات الجوية لكل من العراق وإيران وتركيا، وثانيهما معابر منها مع تركيا "الخابور، وإبراهيم الخليل"، ومع إيران "باشماخ، وبرويز خان، وحاج عمران"، ما سيجعل منه حال استقلاله دولة حبيسة، مفروض عليها التعاون مع الجيران.
لكن مجاوري كردستان بادروا - منذ إعلان النية لإجراء الاستفتاء- باتخاذ إجراءات مضادة، وهو ما استمر حتى ما بعد إجراء الاستفتاء، إذ قررت إيران إغلاق مجالها الجوي مع الإقليم، فيما لوّح الرئيس التركي رجب طيب إردوغان باتخاذ إجراءات عقابية للإقليم سواء اقتصادية أو عسكرية، بينما أمهل رئيس الحكومة العراقية حيدر العبادي الإقليم 72 ساعة لتسليم الموانئ والمطارات.
وعلى الرغم من تلك الإجراءات مضى الكُرد قُدمًا في الاستفتاء، وذلك في نظر الخبير في العلاقات الدولية محمد مُحسن أبو النور، ﻷن لهم حُلم وطني بتأسيس دولة كردستان الكبرى بامتداد 6 دول هي إيران وتركيا وسوريا وأرمينيا وجورجيا والعراق، مُشيرًا إلى أن هذه الأخيرة تحديدًا شعر كُردُها بأن فرصتهم صارت مواتية بعد رحيل صدّام حسين لتحقيق الحلم الوطني.
ويُفسر "لبيب" سبب اعتبار الوقت الحالي فرصة لهم بقوله، إن قوات البيشمركة الكردية وباعتراف دولي كان لها دور أساسي في دحر تنظيم "الدولة الإسلامية"، وبالتالي يرى "بارزاني" أنه صاحب فضل وقدّم ما يجب أن يحصل على مقابل له.
مخاوف الجيران
ترفض القوى الإقليمية الاستفتاء ﻷنها تراه "مرحلة مبدئية وإجرائية مؤقتة، حتى يضموا الأكراد على مستوى كل الدول الأخرى، خاصة وأنهم في مناطق متاخمة ولا يفصلهم إلا الحدود السياسية فقط"، على حد قول أبو النور.
وربما يكون هذا هو السبب الذي جعل الرئيس التركي "إردوغان" يحذرهم من أنهم لو لم يتراجعوا عن هذا "الخطأ" في إشارة للاستفتاء؛ فإنهم "سيلازمهم تاريخيًا عار جرّ المنطقة إلى حرب إثنية وطائفية".
وفي رأي الباحث صلاح لبيب لدى إيران وسوريا تخوف رئيسي من استقلال الأكراد، خاصة وأن السوريين منهم أجروا باﻷمس القريب انتخابات في الإدارات المحلية، وتمنع القوات الروسية والأمريكية هناك اقتراب الأتراك منهم؛ ما يجعل تُركيا تشعر بالتهديد من اتجاهين إقليم كردستان وسوريا، ناهيك عما تعانيه في الداخل من صراعات مع حزب العُمال الكردستاني.
من أجل كل هذا، يرى الباحث في الشأن التركي أن أمام الإقليم مفاوضات جماعية طويلة، سيخوضها مع الدول الثلاث وذلك من أجل "ترتيب عائدات النفط مع الحكومة العراقية، التي ستكون جزءًا كبيرًا من مشكلة استقلاله، ووضع المناطق المتنازع عليها والتي أجري الاستفتاء فيها".
تُعد مدينة كركوك واحدة من مُعضلات العلاقة بين كُردستان وبغداد، ويتوفر فيها الأمرين، فهي منطقة نزاع وسيطرت عليها البيشمركة الكردية عام 2014 وحالت دون اجتياح عناصر "الدولة الإسلامية" لها، كما أنها بقعة غنية بالنفط.
سيناريو للتفاوض
"كركوك، المعابر، المطارات، النفط، جيران أقوياء"، كلمات اجتمعت لتحل الأُحجية، وتقدم إجابة لسؤال لماذا ستتفاوض كردستان؟ ليبقى سؤال ثانِ عن سيناريوهات هذه المفاوضات والنتائج المحتملة لها.
دعا "بارزاني" الحكومة المركزية ودول الجوار للتفاوض، لكن بعضهم قد يرفض الجلوس على طاولة المفاوضات، وخصّ بالذكر منها بصورة شبه مؤكدة تركيا، التي يرى المحلل السياسي صلاح لبيب أنها "ستسعى لإفشال هذه الدولة الوليدة، وستقف حجر عثرة أمام هذا الأمر"، بينما وصف الحكومة العراقية بأنها "الأضعف" مقارنة بإيران وتركيا، وربما توافق على التفاوض ببعض الضغوط الأمريكية.
وفي وقت سابق على الاستفتاء، طالبت الولايات المتحدة الأمريكية كُردستان بتأجيله والدخول في حوار مباشر مع بغداد، وقال البيت اﻷبيض إن إجراء هذا الاستفتاء سيكون خطوة "استفزازية" و"مزعزعة للاستقرار"، بل وسيقوّض الجهود الرامية للقضاء على تنظيم "الدولة الإسلامية" وإرساء الاستقرار في المناطق المحررة من قبضته.
وبالمثل كان موقف الأمم المتحدة، إذ أعرب مجلس الأمن الدولي عن معارضته وقلقه حيال "التأثيرات المزعزعة للاستقرار" التي قد تنجم عن استفتاء الاستقلال، ودعا إلى إيجاد حلول توافقية يدعمها المجتمع الدولي.
وتوقّع "أبو النور"، في ظل الرفض الدولي، أن تتمثل الحلول التوافقية على المدى القريب في بنود يطرحها "بارزاني" لتوسيع صلاحيات الإقليم والانتقال به من نظام فيدرالي إلى كونفيدرالي مُستقل وبتمثيل دبلوماسي وسياسي في كل الدول، والتمثيل الأكبر في الحكومة العراقية المركزية، وتحسين المستوى المعيشي لمواطنيه، وزيادة حصة الإقليم من عائدات النفط.
لكن الباحث صلاح لبيب أبدى تفاؤلًا بنيل الإقليم لاستقلاله خلال مرحلة انتقالية في المدى المتوسط، ﻷن ممانعة القوة الدولية الأبرز كانت على التوقيت فقط وليس المبدأ نفسه، وإن كان الأمر قد يؤجل حتى تسوية القضية السورية والقضاء على الجماعات المتشددة.