مع اندلاع ثورة ديسمبر قبل خمس سنوات في السودان، تصدر لقب كنداكة مشهد الاحتجاجات في البلاد، وهو ما مهد الطريق أمام حضورها القوي في الحراك السياسي الذي أعقب إزاحة نظام الرئيس السابق عمر البشير.
رافق وصف كنداكة، الذي يطلق على الملكات الحاكمات الأقوياء في حضارة كوش الإفريقية القديمة، السودانيات مع تصاعد الحرب التي كانت فيها المرأة السودانية ضحيةً مرّاتٍ، ولاعبةً سياسيةً ومدافعةً عن حقوق النساء والأطفال والنازحين مرّات أخرى.
ومنذ بدء الحرب لم تستسلم نساء السودان لانتهاك حقوقهن ودوائر القتل والاغتصاب التي طالتهن، بل خضن رحلة موازية لإنقاذ السودانيات من العنف وتقديم المساعدة للناجيات والهاربات من جحيم الحرب، ولعبت النساء أدوارًا سياسية لإنهاء الصراع المسلح والدفع بحلول سياسية.
توضح انتصار الصادق مستشارة منظمة البحث عن قواسم مشتركة في السودان لـ المنصة أن العمل يسير وفق مسارات متعددة، حسب أماكن وجود النساء والفتيات، سواء كان ذلك في الولايات السودانية، أو نساء المهجر اللاتي يتركز وجودهن في مصر وأوغندا وإثيوبيا وكينيا وجنوب السودان.
تشير الصادق، التي تتنقل بين العاصمة الإثيوبية أديس أبابا والكينية كمبالا، إلى قدرات السودانيات على كشف الانتهاكات وتقديم الدعم الإنساني، وتصدر المشهد السياسي في كثير من المناسبات التاريخية، لافتة إلى أدوارهن وخبراتهن في الأحزاب السياسية والعمل المدني، "يعملن الآن بشكل مكثف لوقف الحرب ودفع الجيش وقوات الدعم السريع إلى السلام الشامل".
خطة حماية من العنف الجنسي
بدأت محاولات العمل النسوي المشترك في أكتوبر/تشرين الأول، إذ تحرك نحو 70 كيانًا نسويًا سودانيًا للمطالبة بإشراكهن في جهود وقف الحرب وتحقيق السلام. وتدير هذه الكيانات نشاطها من عواصم اللجوء، خصوصًا في دول الجوار مثل القاهرة وأديس أبابا.
انتهى المؤتمر الذي انعقد في العاصمة الأوغندية كمبالا إلى وضع خطة على المدى القصير تستهدف حماية النساء من العنف الجنسي أثناء النزاع وفتح ممرات آمنة لهن. وعلى المدى المتوسط تطالب الخطة بمساهمة النساء في التوثيق وجمع المعلومات عن انتهاكات حقوق الإنسان، خاصة تلك المتعلقة بالعنف الجنسي. أما على المدى الطويل فدعت إلى تخصيص 25% من موارد العون الإنساني لمشاريع إنتاجية للنساء في مناطق النزاع ومعسكرات الإيواء.
كانت حملة معًا ضد الاغتصاب والعنف الجنسي في السودان أصدرت تقريرين إحصائيين، لتوثيق جرائم العنف الجنسي التي وقعت بعد الحرب. وتناول التقرير الأول جرائم العنف الجنسي في 6 ولايات واقعة تحت دائرة الصراع، ووثقت الحملة 189 حالة عنف جنسي في تلك الولايات.
يبقى الدور السياسي الأكبر على نساء المهجر لتوثيق الانتهاكات والتوعية بحقوق المرأة وبناء السلام والتماسك المجتمعي
في الداخل السوداني تمارس النساء أدورًا في مساعدة الضحايا والناجيات من العنف، توضح الصادق عملهن في رصد الانتهاكات وتقديم الدعم اللازم للنساء في أماكن الإيواء، وتوفير الكساء والطعام والأدوية والاحتياجات المعيشية الضرورية.
ولم تغب أهمية الدعم النفسي للسودانيات عن أدوار نساء الداخل، فحسب الصادق "يتم تقديم الدعم النفسي المطلوب للنساء والفتيات المعنفات اللاتي تعرضن إلى عنف مبني على النوع، مثل التحرش أو الاغتصاب".
كما أشارت إلى وجود وحدات للرصد، تحصر الضحايا وتوثق ما تعرضن له "تعمل وحدات الرصد على تجهيز ملفات كاملة بشأن ما تم ارتكابه، لتقديمها إلى جهات عدلية دولية".
الدور السياسي لنساء المهجر
يقع الدور السياسي الأكبر على نساء المهجر خارج السودان، في عملية توثيق حالات الاغتصاب والتدريب على الوعي بحقوق المرأة وبناء السلام والتماسك المجتمعي والقدرة على القيادة، إلى جانب المشاركة في فعاليات دولية تركز الضوء على ما تواجهه المرأة في السودان من مشكلات، حسب انتصار.
تؤكد انتصار الصادق أن مؤتمر كمبالا كان بمثابة مقدمة لتحديد احتياجات النساء والاتفاق على أجندة نسوية سياسية، وتشكيل مجموعات اتصال سياسي مهمتها التواصل مع قيادات طرفي الصراع، من الجيش والدعم السريع، وتسليم رسائل تعكس طبيعة الأزمة الإنسانية على الأرض، وتحثهم على وقف القتال.
وفي يناير/كانون الثاني الماضي، أعلنت مجموعات نسوية في السودان العمل على إطلاق منصة للضغط على طرفي القتال وتعريف العالم بويلات الحرب الدائرة، لتحظى الانتهاكات بمزيد من الالتفات العالمي. ووضعت المجموعات النسوية رؤية موحدة تتضمن إنهاء الصراع في السودان وفتح ممرات آمنة للإغاثة وحماية المدنيين.
تلك المجموعات تستهدف تحقيق أكبر توافق على مطالب محددة، وتوضح إحسان عبد العزيز رئيسة مبادرة نساء ضد الظلم لـ المنصة أن الضغط السياسي يعتمد على استراتيجية تحقيق أكبر قدر من التجمع النسوي حول مطالب واضحة، بما يساهم في توصيل تلك الرؤى لطرفي الصراع وإلى المجتمع الدولي.
تشير إحسان، التي تعمل حاليًا من جوبا عاصمة جنوب السودان، إلى مؤتمر كامبالا حينما توحدت 69 منظمة على مجموعة من المطالب، جرى تقديمها إلى 28 منظمة دولية. ومن المقرر نشر تقرير صحفي شامل بالردود الدولية التي جاءت، بما فيها حجم التضامن الدولي مع مطالب المرأة السودانية.
"من الضروري مشاركة النساء بنسبة 50% في التحركات الساعية لوقف الحرب ومحادثات السلام، وتوسيع مشاركتهن لتضم النازحات واللاجئات والمزارعات والناجيات من العنف"، قالت إحسان مشددة على ضرورة "ضمان مشاركة النساء في صياغة الدستور المقبل ووضع قانون الأحزاب، بما يضمن استجابة الأحزاب لحقوق النساء في برامجها وهياكلها".
تقدمت إحسان عبد العزيز مع منظمات نسوية أخرى بطلب إلى المفوض السامي لحقوق الإنسان بالأمم المتحدة للمطالبة بتكوين لجنة تحقيق دولية مستقلة لتقصي حالات الاغتصاب والاختفاء القسري. واستجابت المنظمة الدولية التي شكلت لجنة بالفعل في انتظار بدء عملها على الأرض وحددت شهر يوليو/تموز المقبل موعدًا لتلقي شهادات المنظمات النسوية السودانية.
بينما شكلت نساء ضد الظلم ست وحدات لرصد الانتهاكات، تتضمن رصد جميع أنواع العنف ضد النساء، فضلًا عن الانتهاكات التي تقع على الأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة والنازحين واللاجئين في مراكز الإيواء، بخلاف رصد الانتهاكات ضد الثقافة والتاريخ وتدمير المنشآت العامة.
رصدت وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل وقوع 136 جريمة اغتصاب وعنف جنسي منذ بدء القتال
وأسفرت الحرب التي اندلعت في منتصف أبريل/نيسان من العام الماضي بين الجيش السوداني بقيادة البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة نائبه السابق محمد حمدان دقلو "حميدتي"، عن مقتل أكثر من 12 ألف شخص، وفق الأمم المتحدة.
بينما رصدت وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل، في تقريرها الصادر في أيلول/سبتمبر الماضي، وقوع 136 جريمة اغتصاب وعنف جنسي منذ بدء القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع. واتهمت الوحدة عناصر من الدعم السريع والجيش السوداني بالتورط في تلك الحالات، وذكرت أن "معظم التعديات وحالات العنف الجنسي المتصل بالنزاع وقعت من قوات الدعم السريع".
"الكثير من المنظمات النسوية عقدت خلال الأشهر الماضية جلسات حوار مع طرفي النزاع، وقدمت تقارير عن أشكال الانتهاكات التي تقع في مناطق النزاع، وتحديدًا في العاصمة الخرطوم وإقليم دارفور" حسبما قالت انتصار عبد الله الناشطة الحقوقية السودانية لـ المنصة، مطالبة بضرورة وقف الحرب وفتح مسارات آمنة للإغاثة ووصول المساعدات الإنسانية وحماية النساء من الجرائم المرتكبة ضدهن.
وأوضحت عبد الله أن التمثيل النسائي، الذي لا يزال ضعيفًا في المكونات السياسية التي تخوض جهودًا لوقف الحرب، يعد أبرز المشكلات الحالية أمام خطوات المنظمات النسوية الحقوقية.
وتمارس مكونات سياسية سودانية عديدة جهودًا فاعلة لوقف الحرب الدائرة الآن، في مقدمتها تنسيقية تقدم التي عقدت اجتماعًا مع حميدتي مطلع العام الجاري وتمخض عنه إعلان سياسي تضمن تسليم السلطة للمدنيين عقب وقف القتال. كما طالبت بعقد اجتماع مماثل مع قائد الجيش عبدالفتاح البرهان، لم يتجاوب الأخير معها بعد. كما عقدت "تقدم" اجتماعات مع أطراف إقليمية ودولية، نتيجة تحركات رئيس الهيئة القيادية للتنسيقية رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك.
بين العمل الإنساني وتقديم الدعم للناجيات من جرائم العنف وفضح ممارسات أطراف الصراع، والبحث عن أدوار سياسية في عملية إنهاء الحرب ورسم خارطة المستقبل، تكثّف الناشطات والمنظمات النسوية السودانية عملها لوقف الانتهاكات والوصول لحلول سياسية سلمية تنهي معاناة الضحايا.