في التاريخ لنا من الثورات عبرات كثيرة وحكايات، عن ثوار منسيين لم يعطهم التاريخ حقًا، مثل ثورة فلاحي لبنان في القرن التاسع عشر، والتي اندلعت ضد العبودية والتمييز الطبقي ضد الفلاحيين، ثورة منسية ضد الإقطاعيين تآمر الكل عليها، ولكن رغم ذلك، غيرت وعي الفلاحين للنهاية وفتحت لهم طاقة نور حتى وإن فشلت، فإن ما كان بعدها لم يكن أبدًا مثلما حدث قبلها.
يحكي لنا فواز طرابلسي قصة عن هذه الثورة في كتابه حديد وحرير، تحت عنوان "العامية" وعدد من المصادر التاريخية والأدبية والتي أتخذت من أحداث الثورة المغدورة والتي سُميت بثورة "دودة القز"، لأنها اندلعت بسبب عجز الفلاحين عن دفع ضرائب للإقطاعيين في موسم خسر فيه محصول الحرير بسبب موت يرقات دودة القز.
أحوال ما قبل الثورة
حزيران (يونيو)، موسم الحرير في جبل لبنان حيث تقع منطقة كسروان، أراضٍ يملكها الإقطاعيون ويعمل فيها الفلاح نظير نصف إنتاجه، يمنحه إلى جانب الضرائب والهدايا والرسوم وإعالة العساكر لـ"المقاطعجي"، وهو الاسم الذي أطلق في لبنان على الإقطاعيين في هذا الزمان.
إلى جانب ذلك، فقد تمتع أصحاب الأرض أو من لقبوا أنفسهم بالشيوخ، بحق "النكاح أو المفاخذة " وهي ما حاول الفلاحين أن يستبدلوه بتقديم المزيد من الهدايا والمال للمشايخ ليتهربوا من هذه السلطة المطلقة التي فرضها الاقطاع حتى على أجسادهم، خاصة بعد أن مُنعت الفلاحات من ارتداء الطنطور، وهو غطاء رأس مخروطي الشكل، ليظل حكرًا على نساء المشايخ والأميرات، مع عواقب وخيمة تتحملها كل من تخالف ذلك.
الطبيعة تعلن بداية الغضب
في عام 1858 دمرت موجة من الأمطار والبرد محصول الحرير وتسببت في موت يرقات دود القز، لكن هذا لم يمنع المشايخ من طلب ضرائبهم وفشل المفاوضات التي خاضها الفلاحون لتقليل امتيازات المشايخ في هذا الموسم، لتبدأ المشاحنات.
بدأت أولى المشاحنات مع إقطاعيين من آل الخازن، ومات في هذه الاشتباكات رجل وامرأتان من الفلاحين فقرروا حمل السلاح ضد المشايخ.
وفي بدايات عام 1859 طرد الفلاحون المشايخ ونهبوا مزارعهم وهرب المشايخ من كسروان إلى بيروت، لتدخل القوات العثمانية إلى كسروان إلا انها توقف هجومها في النهاية بعد تدخل الحكومة الفرنسية، ليهتف فلاحون زاروا القنصل الفرنسي في لبنان "فرنسا أم الدنيي عموم.. اعتزوا يا لبنانيي".
بطل الفقراء
طانيوس شاهين، سائق البغال والحداد والبيطري والذي لُقبَّ أحيانًا بأنه روبين هود كسروان، قُتل والده على يد أحد أعيان آل الخازن لأنه ألقى السلام عليه ذات مرة، وهذا ما كان ممنوعًا لأن الفلاحين لا يمكنهم التشبه بالمشايخ أو مبادلتهم الأحاديث العابرة.
أستطاع طانيوس حشد الفلاحين ضد المشايخ وأصبح زعیم ثورتهم، رغم من كل ما قیل حول سلوكه المتعصب والحاد، ولكن كان قتاله في سبيل أن يدير الفلاحون شوؤن حياتهم ويشاركون في الحياة المدنية والسياسية، مقنعًا أكثر بأن يتولى طانيوس القيادة.
تحررت كسروان على يد طانيوس شاهين من سلطة الشيوخ الذين احتموا بالخلافة العثمانية لتعيد لهم هيبتهم، بينما تقرب طانيوس من الأتراك والإنجليز محميًا بالالتفاف الشعبي، من أجل أن يؤمّنا الحماية دولية لجمهوريته الوليدة، وحصل على رضى البطريرك والأساقفة الموارنة عليه.
بعد أن تولى طانيوس الحكم كان أول قراراته "الإقرار بقوة الحكومة الجمهورية" وشكل مجلسًا من 90 وكيلًا منتخبًا من الفلاحين مباشرة، وهو قرار مستلهم من روح الثورة الفرنسية، اقتنع به طانيوس الأمي الذي لم يكن يقرأ أو يكتب من مستشاره الياس حبالين الذي قرأ روسو وفولتير وآمن بأفكار الثورة الفرنسية وعادى الاكليروس واشتهر برديكاليته الفكرية.
كومونة كسروان
ألغيت العبودية واستوى الفلاحون مع المشايخ الذين خسروا كذلك الهبات التي كانت تُمنح لهم، وتقاسم الفلاحون الأرض وزروعها بشكل جماعي وصادروا كل ممتلكات المشايخ من مؤن وأحصنة ومواشي واوقية حرير وأدوات زراعية، بل وطارد بعض الفلاحين المشايخ في الجبال، مثل طنوس بدوي وزوجته شيعا علمان.
عارض طانيوس شاهين هذه التصرفات ولكن شيعا جادلته عندما طلب منها صراحةً التوقف عن "نهب المشايخ، وقالت "نحن سميناها تسوية عامة".
ورفضت شيعا فرض أي ضرائب وتقديم أي طعام من عرق الفلاحين لمن سماهم طانيوس "عساكر الجمهورية".
لقد كانت "كسروان" اللبنانية حلم كومونة باريسية لكن هذه المرة عربية
الثورة المضادة
يرى الصحفي أنطوان سلامة أن هذه "الحالة الثورة" لم تساعد جمهورية طانيوس شاهين، إذ انتشر الخوف وعدم الأمان وعمّت البطالة واهتزت الثقة بين الناس، سادت البلبلة والتشكيك بالآخر وانفك رباط القوى الثورية، ما مهد نحو الثورة المضادة ضد طانيوس بزاعمة آل الخازن وبعض المشايخ، الذين تلقوا دعمًا من السلطنة العثمانية لإسقاط جمهورية كسروان.
فاوض البطريرك الأب يوحنا حبيب طانيوس شاهين ليتولى مأمورية كسروان بشكل سلمي ويتعهد بحماية المشايخ وممتلاكتهم، فوافق، ليحدث الشرخ الأكبر في جبهة الثورة.
كان الأب يوحنا يرى أن تولي شاهين مأمورية كسروان، سيبعده "عن الجهال"، وسيخضع ويتأثر بالساسة وذوي المصالح، ويفكك حركته الثورية تدريجيًا وبشكل سلمي.
نجحت هذه الخطة، واصطبغ طانيوس بلون رجل الدولة بدلًا من الثورة، ولكن في المقابل فقد الشيوخ كثيرًا من امتيازاتهم، فخسر الفلاحون ثورتهم، ولكن في المقابل خسر الإقطاعيون امتيازاتهم، وفي النهاية فإن النظرة إلى طانيوس ما زالت محل جدل، في أدبيات بعض الكتّاب اليساريين والشيوعيين نراه بطلًا محررًا للفلاحين، وفي كتابات أخرى يُقدّم باعتباره قاطع طريق انتهازي.