قال وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الأسبوع الماضي إن وفودًا من إيران والسعودية ستتبادل الزيارات الدبلوماسية قريبًا، الأمر الذي يشير على ما يبدو إلى تحسّن في العلاقات بين دولتين طالما كانتا على طرفي نقيض، ورغم أن ذلك جعل من الخبر غريبًا على مسامع البعض، ولكنه في الوقت نفسه يحمل دلالات هامة ويشير إلى تغيرات كبيرة في موازين القوى، عقب تفاقم الأزمة الخليجية الأخيرة التي بدا أن إيران هي الرابح الأكبر من اندلاعها.
لا يخفى الصراع التاريخي الذي يلقي بظلاله على العلاقات الإيرانية الخليجية (والسعودية منها بالتحديد) منذ قيام الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 إلى الآن، الصراع الذي يبدو دينيًا إذ تتوتر العلاقات دائمًا بين المسلمين السنة وأقرانهم من الشيعة، ولكنه أيضًا يحمل في طياته أبعادًا سياسية لعلها الأهم والأكبر تأثيرًا.
ولكن في نهار الخامس من يونيو/حزيران الماضي، ومع إعلان دول السعودية والإمارات والبحرين، إلى جانب مصر، قطع علاقاتهم الدبلوماسية مع قطر، لعدة أسباب كان في القلب منها تقارب إيراني - قطري زاد حدّه الطبيعي، بدأت مرحلة جديدة في هذا الصراع.
بالطبع كانت هناك أسباب أخرى لهذه الصدمة الدبلوماسية، مثل اتهام قطر "بدعم الإرهاب" والتدخل في الشؤون الداخلية للدول العربية، ولكن بالتأكيد كانت العلاقات القطرية المزدهرة مع إيران تحتاج إلى وقفة أيضًا، خاصة مع النهج السعودي العنيف في التعاطي مع جارتها اللدود.
هذا التحول الكبير الذي شهدناه في الفترة الماضية والذي غير طبيعة العلاقات الداخلية بين دول الخليج، يحمل أيضًا تغيرات وتضاربًا في المواقف المحلية والدولية، فمن جانبها كانت دول الخليج على حد تعبير الباحث المتخصص في الشأن الخليجي كريستيان أولريخسن "تبدو أنها بدأت تشعر أن الاصطفاف في المنطقة يميل لصالحهما في الوقت الراهن على حساب إيران والإسلاميين في قطر خصوصًا مع وصول دونالد ترامب الى رأس البيت الابيض، الذي يحمل لإيران عداء يمكن أن يصبح عسكريًا".
على الجانب الآخر فإن قطر الصغيرة استمرت في نهجها بأن تحجز لنفسها بدأب منحىً سياسي مختلف نوعًا ما، فهي على صلة بأمريكا لكنها لا تتخذ مواقف معادية مع إيران بعكس نظيراتها في الداخل الخليجي، كما أن لديها تصورات حول التعاطي مع هذا الملف بطريقة مختلفة لما يدور في رأس الأمريكي الجديد ترامب في الخارج أي عداء إيران أيضًا، وهذا ليس بغريب عن قطر التي طالما احتفظت بعلاقات جيدة مع الأطراف المتنافرة مثلما حدث في الأزمة اللبنانية عام 2008.
وبالرغم من أن قطر كانت عضوًا في التحالف الدولي الذي يحارب تنظيم الدولة الاسلامية، وأن الطائرات الأمريكية الحربية تنطلق من "قاعدة العديد" في قطر لضرب قواعد ومقار التنظيم في العراق وسوريا، إلا أنها إتُهمت بوقوفها في معسكر الإرهاب من الجانبين.
إجمالًا، يمكن أن ننظر للأمر برمته بعيدًا عن تلك التشاحنات، ونتناوله من جهة أخرى، أي بالحديث عن أكبر المستفيدين من ذلك الصراع حتى الآن، حيث يمكن أن نعتبر الخلاف المذكور يصب في مصلحة إيران بدرجة كبيرة.
فأمريكا ترامب لا يهمها أطراف الصراع جميعًا، كونها "لا ترى اختلافًا بين الإسلام الراديكالي والإسلام عمومًا" على حد قول ترامب خلال حوار قديم، ليتحول الأمر إلى خوف مرضي من الإسلام عمومًا، بالتالي فلا تجمعها سوى علاقات مصالح متبادلة مع الخليج بما فيهم قطر التي خسرها نسبيًا، أو في الداخل العربي الذي فازت فيه إيران البعيدة دينيًا وجغرافيًا بعدّة تحالفات "قوية" تضعها مرة أخرى في قلب المنطقة بوضوح.
هذه الأزمة خلقت لإيران "انتصارات" جعلت منها ربما أكبر الفائزين من هذا الصراع.
تقارب إيراني قطري
انتقد عدد من المسؤولين الإيرانيين الحملة الخليجية ضد قطر والأمير تميم منذ بدايتها، ودعى آخرون إلى التهدئة بين الطرفين، وكان المساعد المتخصص في الشؤون السياسية بالمكتب الرئاسي الإيراني حميد أبو طالبي هو أوّل من تحدث عن الموقف الإيراني قائلًا إن "قرار قطع العلاقات مع دولة قطر ليس سبيلًا للخروج من الأزمة، وأن عهد التحالفات والشقيق الأكبر (قاصدًا السعودية) قد انتهى".
أما وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف فقد غرّد قائلاً "الجيران دائمون ولا يمكن تغيير الجغرافيا. الإكراه ليس حلاً أبداً، الحوار أمر حتمي، خاصة، في شهر رمضان الكريم".
كما تناقل البعض مزاعم تولي قيادات من الحرس الثوري الإيراني حراسة قصر الأمير تميم خوفًا من العداء السعودي الأمريكي، خصوصًا إنه بعد إغلاق المجال الجوي أمام قطر من قبل الدول المحيطة بها ومصر، أعلنت السلطات الإيرانية ارتفاع عدد رحلات طيران قطر التي تعبر الأجواء الإيرانية إلى ما بين 100 و150 رحلة يومية لتصل إلى حوالي 1100 رحلة يومية، بحسب ما نقلت وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية عن لسان المدير العام لشركة المطارات والملاحة الجوية في إيران رحمت الله مه آبادي، وذلك تزامنًا مع الحديث عن أوّل شاحنة غذائية تصل قطر، والتي كانت من إيران.
بالعودة قليلًا إلى الوراء، نشرت صحيفة "فاينانشال تايمز" منذ شهرٍ أو يزيد نقلاً عن مسؤولين سياسيين وعسكريين مطلعين، تقريرًا كشف عن "دفع السلطات القطرية حوالي المليار دولار لضباط استخبارات إيرانيين وكتائب حزب الله في العراق، وأحرار الشام التابعة للقاعدة في سوريا من أجل إتمام صفقة شملت تحرير صيادين قطريين خُطفوا في العراق"، واعتبرت الصحيفة أن هذه الصفقة كانت السبب وراء تدهور العلاقات بين قطر والسعودية، واعتبر ذلك أنه وقوف صريح من إيران في صفوف قطر ومصالحها.
وبالرغم من أنه ليس هناك ما يؤكد التقارب "القوي" بين البلدين خصوصًا على المستوى الاستراتيجي إلّا أن ذلك الخلاف على ما يبدو يصب في مصلحة إيران وفتح علاقاتها مع أحد دول الخليج القوية بشكل يجعلها تتقدّم للدفاع عنها، وهو تقدّم واضح في العلاقات ربما لم يكن ليحدث لولا تلك الأزمة.
خلافات في الداخل الأمريكي لصالح إيران
لم تقف الصراعات الداخلية اللا نهائية والتي خلقها دونالد ترامب مع جلوسه على عرش أكبر اقتصاد في العالم بالولايات المتحدة الأمريكية عند إيران وحدها، حيث بدأت بعدم ثقة ترامب في الأجهزة الأمنية الأمريكية، وصولًا إلى السجالات والتناقضات التي أوجدها بين الكيانات والمؤسسات السياسية في الكونجرس والشارع الأمريكي حول رؤية وتوجهات الدولة.
فمنذ دخول ترامب البيت الأبيض قبل ستة أشهر، استقال أو أقيل سبعة موظفين وهم: مستشاره للأمن القومي مايكل فلين الذي كان يمكن اعتباره حلقة الوصل مع الجانب الروسي، ونائب مستشاره للأمن القومي، ومدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، والمتحدث باسم البيت الأبيض، ومدير الإعلام فيه، ووزير العدل بالوكالة، ونائب كبير موظفي البيت الأبيض، ورئيس فريق العاملين في البيت الأبيض. كما وقف منذ البداية أمام المشروع النووي الإيراني، بل أمام الكيان الإيراني الذي اعتبره يمثل تهديدًا صريحًا لأمريكا.
وفي الوقت الذي دعا فيه ترامب بعض الدول العربية (السعودية والإمارات) إلى الوقوف والتصدي للتطرف الإيراني، باعتبارها دولة تنشر الفوضى في المنطقة العربية لامتلاكها السلاح النووي، زادت الأمور تعقيدًا مع تأييده العداء الخليجي لقطر، كان وزير خارجيته ريكس تيلرسون يؤكد أن "قطر حليف مهم في مكافحة الإرهاب"، وانتقد حملة الإجراءات التي تتعرض لها الدوحة من طرف دول الحصار، "وأن الاتفاق النووي مع دولة إيران مطابق للمواصفات".
كما قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية إن "الاتهامات التي ادعتها الدول المقاطعة لقطر كانت شفاهيةً، لكنها حتى الآن لم تقدم تفاصيل الاتهامات الموجهة للدوحة، ولا أي شواهد عليها، ولم تثبت دعم الدوحة للإرهاب بالأدلة، فكل ما قيل يشبه الطلقات الطائشة، وإنه كلما مرّ الوقت، ترتفع الشكوك بشأن تحركات السعودية والإمارات، ويجب علينا أن نتساءل؛ هل هذه التحركات تعبر عن الاتهامات الموجهة لقطر بخصوص دعم الإرهاب أم هي حول مظالم قديمة بين دول مجلس التعاون الخليجي؟".
الزميل في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية ستيفن كوك أكد "أنه من الصعب على الأموال التي تنفقها دول الخليج على شركات ومجموعات الضغط في الولايات المتحدة، أن تؤثر بشكل كبير أو تغير من وجهة النظر السائدة في مكاتب الإدارة الأمريكية حيال المنطقة"، كما ظهر بعض التوجس لدى سياسيين أمريكيين من الصفقة السعودية المقدرة بحوالي 100 مليار دولار، ومن تعامل ترامب مع السعودية، والصفقات التي يمكن اعتبارها سرية إلى حدٍ ما بينهم.
كانت الأزمة الخليجية "القشة" التي قسمت ظهر ترامب بتأييده لطرف على حساب آخر، خرج المسؤولون عن صمتهم ليعلنوا تصادم آرائهم مع ترامب الذي أبدى اعتراضه الشديد على ذلك، كما أعرب عن شدة استياءه من "تجاهل" مساعديه لشؤون الأمن الاستراتيجي، توفير أي خيارات للتخلي عن الاتفاق النووي الأمريكي مع إيران.
وذكرت "سي أن بي سي" أن الولايات المتحدة لا يمكنها التراجع عن اتفاقها النووي مع إيران، لذلك تعمد إلى الوسيط الخليجي والمصري لاحتواء الدول التي يمكن أن تتعامل مع إيران، خصوصًا بعد ما نشرته صحيفة نيويورك تايمز حول مستقبل التنسيق الأمريكي، حيث قالت إنه "من الواضح تواجد قيادة الحرب الجوية التي تتولاها الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في قطر، وتستضيف قطر المقر الرئيسي للقيادة المركزية للولايات المتحدة التي تشرف على جميع العمليات العسكرية الأمريكية في أفغانستان والشرق الأوسط، فكيف يمكن تفسير هذا العداء؟" في إشارة إلى إنه يمكن أن يصبح عداء غير مباشر باعتبارها الدولة الأكثر تأييدًا لإيران.
إذن يذهب الخلاف الذي أوجده ترامب من البداية ولم يكن ليتواجد خلال فترة سابقه باراك أوباما ليخبرنا كثيرًا على رهانات الأخير على جدوى تواجد الثورية الإيرانية في عقول أمريكا التي يتصورها إلى جانب الخليج، ويعبر أيضًا عن العجز أمام سياساتها التي تتوسع يومًا تلو الآخر بل تنتصر وتتخطى تلك الأزمات، فالأزمة الخليجية التي كان ترامب أحد صنّاعها للضغط على إيران بالتوازي مع ضغوطه عليها برفضه الاتفاق النووي، أتت بنتائج عكسية على ما يبدو وأظهرت خلافات أمريكا الداخلية مع ترامب كما أوجدت لإيران ورقة كادت تموت بإعلان بعض أعضاء الكونجرس عدم مخالفة إيران لشروط الاتفاق النووي المبرم سابقًا.
تقارب بين حماس وإيران
تقف حركة المقاومة الإسلامية حماس وسياساتها منذ النشأة في مواجهة السياسات الخليجية التي تفضّل "الاستقرار" في الداخل، والمصالح التي تجمعها بالولايات المتحدة أو إسرائيل أهم أعداء الحركة في الخارج، بالتالي وجّهت الحركة منذ نشأتها النظر إلى إيران كحليف طبيعي باعتبارها تسير في طريق مخالف إلى حدٍ ما عن الكيانات المذكورة، على طريقة "عدو عدوي صديقي".
كان ذلك هو الوضع حتى اندلع الصراع في سوريا، لتندلع الخلافات نتيجة تأييد حماس للثورة هناك وهو ما رفضته إيران باعتباره يتعارض ومصالحها هناك، لكن الأمر سرعان ما عاد مرة أخرى مع الأزمة الخليجة "لتأكيد تحالفات إيران" مع الأطراف كافة ليصل إلى حد اتهام للحركة بالتعاون العسكري مع حزب الله والحرس الثوري الإيراني خصوصًا مع تعيين إسماعيل هنية رئيسًا لمكتبها السياسي، بمواقفه التي لا ترى مانعًا في التعاون مع إيران سيّما بعد الأزمة الخليجية مع قطر.
في النهاية فإن ما ذكره الضابط السابق في المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) ومستشار لشؤون الشرق الأوسط في أربع إدارات أمريكية بروس رايدر خلال تصريحاته لـ"سي إن إن" يبدو دالًا، إذ أكد أن "الأزمة الدبلوماسية التي يواجهها الخليج بعدما قطعت المملكة العربية السعودية والإمارات والبحرين ومصر علاقاتها الدبلوماسية والقنصلية مع قطر، تُبرز نقطة ضعف رئيسية بين حلفاء أمريكا في الشرق الأوسط عندما يتعلق الأمر بمواجهة إيران، وأن فكرة اتحاد الخليج إلى حد ما وراء توافق في الآراء بشأن مواجهة إيران ليست صحيحة، فالخليج ليس متحدًا والعالم الإسلامي ليس متحدًا".
وهذا ليس بعيدًا عمّا قاله الباحث المقيم في معهد دول الخليج العربية في واشنطن حسين إبيش من أن "الأزمة الدبلوماسية قد تخلق فرصاً لإيران على المدى الطويل، وإن إيران شديدة الانضباط والصلابة ولديها قدر كبير من السلطة، في حين أن هناك مجموعة متباينة جدًا من المعارضين الذين ليس لديهم في كثير من الحالات علاقات دبلوماسية مع بعضهم (دول الخليج)، وأن هذا الخلاف مع قطر يؤكد فقط الافتقار إلى الوحدة، وقد يخلق فتحات للمخيم الموالي لإيران.