تصاعدت وتيرة الأحداث بسرعة دراماتيكية في الأيام الأخيرة بين السعودية ومنافستها الإقليمية إيران. فالمملكة السنية باتت تواجه الدولة الشيعية على جبهات متعددة؛ هذه المواجهة من شأنها أن تشكل العديد من الصراعات في الشرق الأوسط الذي يشهد زيادة في النفوذ الإيراني، هذا الذي يسبب قلقًا شديدًا للخليج وإسرائيل والولايات المتحدة.
تلك الخطوات الجريئة التي اتخذتها الرياض مؤخرًا يُنظَر إليها على أنها من صنع ولي العهد محمد بن سلمان، الرجل القوي في المملكة الغنية بالنفط، بهدف تعزيز سلطاته. فالأمير الشاب أظهر استعدادًا كبيرًا لزلزلة المنطقة: شن حملة عسكرية في اليمن ضد الحوثيين الشيعة الذي ينظر إليهم على أنهم وكلاء لإيران؛ دخل في مواجهة مع قطر لأسباب من بينها علاقات الدوحة مع طهران؛ وقبل أيام الاستقالة المفاجئة في توقيتها ومكانها لرئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، وما ورد فيها من اتهامات لحزب الله وإيران على السواء.
وحتى الآن ما زالت إيران قادرة على استغلال الحروب الدائرة في سوريا والعراق لبناء جسور من التحالفات تمتد من حدودها إلى البحر المتوسط، وهي تعمل على تعزيز ذلك الممر عبر تحالفاتها ووكلاءها في العراق وسوريا ولبنان.
يبقى السؤال المعلق: هل تمضي السعودية في نهجها المتشدد تجاه إيران بالنظر إلى أن سياسات المملكة تلقى الدعم الكامل من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؟
وقبل الإجابة على السؤال، نلخص أولًا التطورات الدراماتيكية التي شهدتها المملكة والمنطقة خلال الأسبوع الجاري في النقاط التالية:
- أطلق الحوثيون صاروخًا باليستيًا استهدف مطار الملك خالد الدولي في العاصمة السعودية الرياض، وقد اعترضته المملكة التي سرعان ما اتهمت إيران بتزويد المتمردين الشيعة في اليمن بالصاروخ؛ حيث قال ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إن تزويد إيران الحوثيين بالصواريخ "يعد عدوانًا عسكريًا ومباشرًا من قبل النظام الإيراني، وقد يرقى إلى اعتباره عملًا من أعمال الحرب ضد المملكة". وقد كان المدى الذي وصل إليه الصاروخ داخل الأراضي السعودية هو الأطول منذ بداية الحرب اليمنية في مارس/ آذار 2015.
- تشير مدلولات خطاب استقالة رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري وملابساتها إلى أن السعودية تحركت لتفكيك وإسقاط الحكومة اللبنانية التي تضم وزراء من كتلة حزب الله، الحليف النافذ لإيران. فاستقالة الحريري المفاجئة أعلنت من الرياض، وكانت قناة العربية السعودية أول من بثها، ويعتقد على نطاق واسع أنها جاءت بضغط سعودي.
- هناك أيضا حملة الاعتقالات التي طالت عشرات الأمراء والوزراء ورجال الأعمال في السعودية. الحملة التي قادها الأمير الشاب صورت على أنها حرب ضد الفساد، غير أنه ينظر إليها على أنها حملة خلاص من المنافسين والناقدين المحتملين لصعود بن سلمان وتوليه المحتمل للعرش قريبًا.
ولكن هل تدخل السعودية في مواجهة مباشرة مع إيران؟
رغم أن السعودية قالت إن لها حق الرد على الصاروخ اليمني، إلا أنه من غير المرجح أن تنخرط في عمل عسكري مباشر ضد إيران. فالجيش السعودي يقود بالفعل تحالفًا عسكريًا ضد الحوثيين وحلفائهم في اليمن؛ حيث طائرات المملكة منخرطة في حملة جوية في اليمن وجنودها مرابطة على الحدود منذ نحو ثلاث سنوات.
وبالمقارنة العسكرية، نجد أن الجيش الإيراني أكبر وأكثر خبرة في المعارك من نظيره السعودي، لكن جيش المملكة يتمتع بترسانة أسلحة متطورة خزنها من الولايات المتحدة وأوروبا على مدى العقد الماضي. كما أن السعودية لها حلفاء مثل الإمارات ومصر وكليهما طورت جيشها وسلحته بأسلحة حديثة. هذا فضلًا عن مظلة الحماية الأمريكية التي تتمتع بها جل دول الخليج.
ومن شأن الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة بين السعودية وإيران أن تتسبب في اضطرابات لا يحمد عقباها ولا يمكن توقع تداعياتها في منطقة الخليج والشرق الأوسط والعالم أجمع، بالنظر إلى أن هذه المواجهة بالتأكيد ستعطل طرق التجارة في البحر الأحمر وترفع من أسعار النفط، حيث السعودية أكبر منتج للذهب الأسود في العالم.
ورغم أن إسرائيل قد توافق وتدعم مثل تلك المواجهة، إلا أن السعودية من غير المرجح أن تدخل في ذلك الصراع بدون ضوء أخضر أمريكي، وتتجنب أمريكا - حتى الآن - المواجهة المباشرة مع إيران.
كما أن تلك الخطوة ستشعل معارك بين وكلاء الجانبين في أنحاء المنطقة.
وفيما يلي نظرة على الصراع السعودي الإيراني وكيف يؤثر على بلدان أخرى في الشرق الأوسط:
اليمن وحرب بلا نهاية في الأفق
في مارس/ آذار 2015، أعلنت المملكة العربية السعودية عن تشكيل تحالف عسكري عربي بقيادتها لإعادة الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًا برئاسة الرئيس عبد ربه منصور هادي، وبدأت حملة عسكرية جوية وبرية ضد الحوثيين وحليفهم حزب المؤتمر والرئيس السابق علي عبد الله صالح. كان الحوثيون قد اجتاحوا العاصمة صنعاء في أواخر 2014، وطردوا الحكومة التي لجأت إلى مدينة عدن الساحلية في جنوب البلاد، التي طاردهم فيها الحوثيون أيضًا فهبت السعودية لإنقاذ حكومة هادي التي كانت تعمل من الرياض حتى وقت قريب.
منعت الحملة العسكرية التي تقودها السعودية والإمارات اجتياح الحوثيين المدعومين من إيران لليمن والسيطرة على الجنوب. بيد أن هذا التحالف العسكري المدعوم من الولايات المتحدة لم يتمكن من طرد الحوثيين وحلفائهم من العاصمة وإعادة حكومة هادي التي تقول تقارير إنه قيد الإقامة الجبرية في السعودية.
قتل خلال الثلاث سنوات منذ بدء الحملة العسكرية أكثر من 10 آلاف مدني، وبات اليمن على حافة مجاعة. كما أنها استنزفت كثيرًا من الموارد السعودية التي يعاني اقتصادها جراء انخفاض أسعار النفط. ولم تنخرط القوات السعودية في المعارك البرية وتعتمد على الغارات الجوية التي تشنها بلا هوادة على المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين وحلفاءهم.
وزاد إطلاق الحوثيين صاروخهم الباليستي الأخير على العاصمة الرياض من التوترات؛ حيث ردت السعودية بتشديد الحصار على اليمن، ما زاد من مخاوف تدهور الوضع الإنساني أكثر وأكثر. وأوقفت جميع الرحلات الإنسانية إلى اليمن وصدرت أوامر للسفن بالمغادرة. ويبدو أن اليمن في طريقة ليكون في عزلة تامة عن العالم الخارجي. وناشدت الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة على رأسها الصليب الأحمر إبقاء الحدود مفتوحة لعبور الإمدادات الصحية والطبية.
وقد هدد متحدث عسكري على صلة بميليشيات الحوثي في العاصمة اليمنية بمزيد من التصعيد ضد السعودية والإمارات قائلًا إن الحوثيين يعتبرون مطارات البلدين "أهدافًا مشروعة". وقال العقيد عزيز راشد للصحفيين في صنعاء في وقت متأخر، الإثنين، إن خبراءه العسكريين قادرون على تطوير صواريخ يتجاوز مداها 1500 كيلومتر.
وأضاف راشد: "نحث جميع شركات الطيران والمسافرين على تجنب المطارات في كل من السعودية والإمارات العربية المتحدة حيث نعتبرها أهدافا عسكرية مشروعة في نطاق صواريخنا الباليستية".
بيد أن هذه التهديدات قد لا تكون ذات قيمة بالنظر إلى أن الإمارات من بين أهم الشركاء التجاريين لإيران الداعم الرئيسي للحوثيين، والتي تتهمها السعودية بتسليح المتمردين الشيعة في اليمن الأمر الذي تنفيه طهران.
ومع الاتهامات السعودية لطهران بتزويد الحوثيين بالصاروخ الباليستي الأخيرة، رد وزير الخارجية الإيراني بقوله إن السعودية تلوم إيران على تداعيات "حروبها العدائية وتسلطها الإقليمية وسلوكها المزعزع واستفزازاتها المحفوفة بالمخاطر".
ويظهر من تصريحات الجانبين أنه لا السعودية ولا إيران مستعدة أو قادرة على تصعيد النزاع. بيد أن الضربة الصاروخية الحوثية تؤشر إلى احتمالية أن يمتد النزاع إلى ما وراء حدود اليمن.
لبنان ومسرح آخر للتنافس
لبنان ساحة أخرى للتنافس بين إيران والسعودية. فاستقالة الحريري يوم الأحد الماضي نُظِر إليها على أنها إجراء سعودي ضد حزب الله اللبناني المشارك في الحكومة، الذي يقف على الضد مع المملكة.
أثبتت الاستقالة المفاجئة في توقيتها ومكانها قدرة السعوديين على إفساد السياسة اللبنانية، وإفشال حكومة التوافق التي كان الحريري يقودها، والتي نظرت إليها السعودية على أنها أكثر قربًا لإيران، وهذا يظهر في تغريدات وزير شؤون الخليج السعودي ثامر السبهان.
ومن الصعوبة بمكان تلمس مكاسب سعودية وراء الاستقالة الحريرية. لكن يمكن تلمس ردود فعل سلبية عليها من أغلب أطياف المجتمع اللبناني والرد الهادئ المتزن من جانب الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله.
ويهيمن حزب الله على السياسة اللبنانية منذ سنوات ترجع إلى حرب 2006 مع إسرائيل. ولا يوجد في الأفق ما يزعزع هذه الهيمنة. فنفوذه لا يضاهيه أي نفوذ لأي جماعة سنية أو سياسية أخرى في البلد الصغير. كما أن التدخل السعودي ورد حزب الله على الاستقالة جعل الكثير من اللبنانيين، بينهم بعض أنصار تيار المستقبل، الذي يتزعمه الحريري، مستائين من المملكة، ويخشون من أن تهدم تقاسم السلطة فيما بين الفصائل السياسية اللبنانية من شيعة وسنة ومسيحيين ودروز وغيرهم.
واعتبرت إيران الاستقالة مزعزعة للاستقرار السياسي في لبنان. وانتقد المتحدث باسم وزارة الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي ما وصفه بسيناريو جديد لزيادة التوترات في بيروت. وقال: "تكرار رئيس الوزراء اللبناني المستقيل للاتهامات الصهيونية والسعودية والأمريكية التي لا أساس لها ضد إيران، مؤشر على أن هذا الاستقالة سيناريو جديد لخلق توترات في لبنان والمنطقة، لكننا نؤمن بأن شعب لبنان المقاوم سوف يمر من هذا المرحلة بسهولة".
وهناك مخاوف من أن تضغط السعودية أكثر على الوضع في لبنان ليضغط بدوره على حزب الله. وهذا من شأنه أن يزعزع استقرار لبنان المضطرب أصلًا جراء اشتباكات متقطعة بين مسلحين سنة وآخرين شيعة حتى من قبل حرب يوليو/ تموز 2006، تلك الاشتباكات والمناوشات التي زادت مع الحرب الأهلية في سوريا المجاورة.
سوريا وضربة أخرى للنفوذ السعودي
بعد أكثر من ست سنوات من حرب أهلية في سوريا، بات الرئيس السوري بشار الأسد المدعوم من إيران في وضعية أفضل ما تكون بعد انهيار المقاتلين السنة، الساعين للإطاحة بالنظام السوري، والذين تدعم السعودية الكثير من فصائلهم.
بالنظر إلى الأوضاع على الخريطة السورية الآن، يتضح مدى النفوذ الإيراني؛ حيث قواتها ومقاتلين من حزب الله ومليشيات شيعة عراقية أخرى تدعمها إيران تقاتل إلى جانب القوات النظامية السورية. ومن المهم بمكان الإشارة إلى أن التدخل العسكري الروسي أواخر 2015 أنقذ الأسد وحول دفة الحرب التي حصدت أرواح أكثر من 400 ألف شخص لصالحه، وبات يسيطر على أغلب الأراضي السورية.
وفي الفترة الأخيرة - خاصة منذ انتخاب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة - خف الضغط الدولي على الأسد ليتنحى عن السلطة، وتقوضت الجهود السعودية لإخراج إيران من سوريا.
رغم ذلك، ما زالت المملكة تحاول ممارسة النفوذ في المناطق ذات الأغلبية السنية في سوريا والتي لا تزال بعيدة عن سيطرة الأسد. فالطائرات السعودية تشارك في التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سوريا والعراق.
ومؤخرا زار وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج ثامر السبهان مدينة الرقة السورية التي تمكنت قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من واشنطن، من تحريرها من قبضة التنظيم المتطرف مؤخرًا. كان السبهان يبحث عن دور سعودي في إعادة إعمار عاصمة الأمر الواقع لخلافة الدولة الإسلامية المزعومة.
قطر
في يونيو/ حزيران الماضي، اندلع نزاع خليجي كانت إيران أبرز المستفيدين من ورائه، بعد قطع السعودية والإمارات ومصر والبحرين علاقاتها مع قطر بسبب دعم الدولة الخليجية الصغيرة للإرهاب وعلاقاتها مع طهران.
فالأيام أثبتت أن النزاع الدبلوماسي يصب في مصلحة إيران، التي فتحت أجواءها الجوية أمام الطائرات القطرية. كما باتت إيران وتركيا البديل أمام قطر بعد أن أغلقت السعودية المنفذ البري الوحيد لقطر.
وما زالت الأزمة قائمة رغم جهود الوساطة الكويتية والأمريكية. ويبدو أنها ستظل معنا لأشهر قادمة بالنظر إلى تمسك السعودية وحلفائها بمطالبهم، على رأسها إغلاق قناة الجزيرة والقاعدة التركية في الدوحة، وقطع العلاقات مع إيران وإبقاءها على المستوى الدبلوماسي فقط، الأمر الذي ترفضه قطر وتعتبره اعتداءً على سيادتها.