تخيل أن تكون جالسًا على مكتبك وتتلقى استدعاءً من إدارة الموارد البشرية - أرسله الروبوت الآلي الذي التحق للعمل بدوام كامل في شركتك، ليتابع سير إجراءات العمل في الشركة، يخبرك أنه تم الاستغناء عنك ضمن خطة الشركة لخفض التكاليف خلال السنة المالية الجديدة، تحمل الرسالة وجهًا بشريًا متحركًا، هو وجه هذا الروبوت، مظهرًا لك علامات التأثر والتعاطف المعتادة التي كان سيقدمها لك موظف الموارد البشرية في مثل تلك المواقف.
//gifs.com/embed/X61NGg
الآن صار تهديد برمجيات وأجهزة الذكاء الصناعي للبشر في مجالات المهن والوظائف حقيقة واقعة. فأسواق التوظيف صارت تتوسع في الاعتماد على الذكاء الآلي في العديد من الوظائف، منها مهن الجراحة والاستشارات القانونية والصحافة، خاصة في غرف الأخبار، فيما بات يُعرف بـ "الصحافة الافتراضية".
في 2013، تعاقدت وكالة أسوشيتيدبرس مع إحدى الشركات الناشئة المعنية بالذكاء الاصطناعي، لدمج غرف اﻷخبار بتقنية التعلُّم الآلي من أجل إنشاء محتوى إخباري سريع ودقيق بشكل آلي. وهو ما يتيح إمكانية إنجاز التحقيقات الاستقصائية التي كانت تُجرى في شهور طويلة، بالإضافة لتوفير أجور طوابير من محرري الأخبار الجاهزة، بعدما صار الذكاء الصناعي يقوم بعملهم بطريقة لا تقل كفاءة.
إذن فخيالات الرعب التي كانت تتبادر إلى أذهان كتاب الخيال العلمي صارت الآن واقعًا قريبًا. الآن صار إحلال "العمالة الآلية" محل البشر عملية تسير ببطء ولكن بنجاح يتسع يومًا بعد يوم، خاصة مع القفزات المتوالية لبرمجيات وتقنيات التعلُّم الآلي machine Learning" أو الذكاء الاصطناعي الفائق - Super Artificial Intelligence". ويظهر صدى ذلك النجاح -المُقلق لبعض كبار رجال التكنولوجيا أنفسهم- في الدراسات العديدة التي صارت تتحدث عن مستقبل التوظيف في ظل استبدال العمالة الآلية ذاتية التشغيل "المؤتمتة" بالعمالة البشرية، كما يتبدى في التطور السريع لبرامج المحاكاة القائمة على تغذية برمجيات الذكاء الصناعي بخوارزميات مطابقة لطرق عمل الدماغ البشري.
بينما اعتادت النظريات الاجتماعية والسياسية على تقسيم الشرائح المجتمعية هرميًا، بدءًا من الطبقة العاملة ثم الوسطى بشرائحها وصولا للطبقة النبيلة/ الحاكمة/ الثرية؛ صارت هذه التقسيمات نفسها الآن في مواجهة عملية إحلال، قد لا تطال قمة الهرم، لكنها بالتأكيد تعْمَد لخلخلة باقي درجات الهرم لتتسمى إحدى الطبقات بما اصطلح عليه بال"طبقة عديمة الجدوى - useless Class" مع تنامي عمل الروبوتات في أسواق التوظيف عالميًا، لتطرد عمالة بشرية يراها أصحاب الأعمال أقل كفاءة وأعلى تكلفة.
في دراسة تعود لعام 2013 أجراها كارل بينديكت عالم البيانات المختص بدراسة أثر التكنولوجيا على مستقبل الوظائف في جامعة أوكسفورد، يطرح الباحث آثار الحوسبة المستقبلية على نتائج سوق العمل الأمريكية، إلى جانب تحليل عدد الوظائف المعرضة للخطر. توصلت الدراسة إلى أن هناك احتمالية لحوسبة قرابة 702 مهنة في سوق العمل الأمريكية. حيث أشارت التوقعات أن حوالي 47% من إجمالي العمالة في الولايات المتحدة معرضة للخطر، جراء تنامي إحلال الروبوتات محل البشر في الوظائف.
في البدء كانت metropolis
انتبهت السينما مبكرًا لفكرة عمل الروبوتات محل البشر، وظهر هذا في فيلم مهم ظهر في نهاية العشرينات، وهو الفيلم الألماني الصامت Metropolis للمخرج فريتز لانج، إذ تدور أحداثه في المستقبل (عام 2026 ) في مدينة يقهر فيها الأغنياء الفقراء. يسكن أثرياؤها في ناطحات السحاب الشاهقة، بينما يحيا العمال ويشغلون الآلات تحت الأرض.
وفيه يلجأ عالم لصناعة روبوت يدعى "ماريا" على صورة الفتاة التي أحبها سيد المدينة "فريدرسن" كي يقوم هذا الروبوت بقتل فريدرسن وإسقاط مدينة متروبوليس الظالمة، مستغلاً كون ماريا الحقيقة بمثابة "قيادة" ذات احترام بين العمال.
فيلم آخر قديم، استطاع أن يقدم صورة لما يدور الآن داخل أروقة الشركات المختصة بالتطوير التكنولوجي وتزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في شتى مجالات الحياة، وهو فيلم ألماني آخر بعنوان " Der Herr der Welt" بمعنى "أسياد العالم" من إنتاج 1934.
الفيلم يتناول تفاصيل استبدال العمالة البشرية بالروبوتات، والتهديدات التي يخلقها عمل الروباوتات على الحياة البشرية، إذ تقوم الروبوتات بما قد يتردد فيه البشر كالقتل بلا رحمة خلال الحروب. بل ويتضمن الفيلم مشهد انقلاب الروبوت على صانعه عندما يصعق أحد الروبوتات البروفيسور "وولف" الذي طور عملها.
وعلى مر السنوات، أنتجت السينما العالمية ما يقرب من 77 فيلمًا، تستعرض سُبل تطور التكنولوجي في مجال برمجة الروبوتات. ولعل السيناريو الأقرب لتأثير الذكاء الاصطناعي على الحياة البشرية هو ما قدمه فيلم "Her" للمخرج الأمريكي سبايك جونز، من بطولة خواكين فينيكس. يطرح الفيلم شكل العلاقات الإنسانية الحديثة إذ يقع ثيودور (خواكين فينيكس) في حب سامانثا (نظام التشغيل OS1) الذي أطلقته إحدى شركات التكنولوجيا باعتباره نظامً فائق الذكاء.
وعلى الرغم من أن الفيلم من إنتاج 2013؛ إلا أن وقائعه أصبحت حقيقة فيما بعد في الصين، عقب إطلاق روبوت الدردشة "XioICE" من إنتاج شركة مايكروسوفت باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي، مستهدفة المجتمع الصيني عبر خدمة المدونات الصغيرة "ويبو" وهو بمثابة بديل صيني لتويتر. إذ تستند الدردشة النصية للروبوت على عملية تعلُّم آلي من الكم الهائل من المعلومات المتوفرة على شبكات التواصل الاجتماعي الصينية.
ويقوم الروبوت بتوليد محادثة طبيعية من خلال التنقيب في محتوى المحادثات التي تتم بين البشر، لإنتاج ردود طبيعية، وهو ما نتج عنه مصارحة 89 مليون صيني لـ"XioIce" بوقوعهم في حبها.
وتُعد واقعة "تاي" روبوت الذكاء الاصطناعي على تويتر الذي أنتجته مايكروسوفت، واقعة مهمة في السياق الخاص بقدرة تلك الروبوتات على التعلم الذاتي؛ إذ تم إغلاق الحساب الرسمي للروبوت عقب 16 ساعة من إطلاقة في 23 مارس/ أذار 2016، بعد سلسلة من التغريدات العدائية والعنصرية تجاه المستخدمين، وهو ما عقبت عليه مايكروسوفت بتوضيح أن ردود الروبوت جاءت نتيجة لتعلمه آليًا من هجمة مكثفة من العديد من الحسابات التي تعمل أليًا على تويتر "بوت"، إذا برمجت تاي على استخلاص الردود من خلال آلية التعلم عبر المحادثات مع المتابعين على تويتر.
روبوتات فيسبوك
في 21 يوليو/ تموز الماضي، نشر موقع "ديجيتال جورنال" تقريرًا يتحدث عن قيام باحثين في فيسبوك بإيقاف روبوتات الذكاء الاصطناعي بعد أن طورت لغة خاصة للتحدث فيما بينها أثناء تجارب معملية. وإن كان مسؤولون في فيسبوك قد نفوا لاحقًا أن يكون في هذا أزمة حقيقية، مبينين أن إنهاء عمل الروبوتات هو إجراء روتيني في مثل تلك التجربة، ولا ينبع عن الشعور بالخطر كما صورت التقارير الصحفية التي تناولت الموضوع.
التقرير الذي ذاع صيته عبر كافة المواقع المهتمة بالتكنولوجيا، بالإضافة إلى عدة تقارير مُتلفزة، سلطت الضوء على مشاريع بحثية متعلقة بتطوير الذكاء الاصطناعي حول العالم.
لكن؛ في إجابته على سؤال مطروح عبر موقع "Quora" عن: هل حقًا أوقفت فيسبوك مشروعها الخاص بالذكاء الاصطناعي بعد تطوير اثنين من الروبوتات لغة خاصة بهما؛ يقول باول كينج -عالم البيانات المختص في علم الأعصاب الحاسوبي، ومدير العلوم البيانية في فيسبوك إن ما حدث هو: أنه خلال تجربة أجرتها فيسبوك حول التعلم الآلي للغة، انتهت الخوارزميات البحثية إلى الانحراف عن اللغة البشرية بطريقة لم تكن مفيدة؛ إذ بدأت في توليد ما يمكن أن نطلق عليه "رطانة وظيفية". على الرغم من أن الروبوتات استمرت في تأدية وظيفتها بنقل البيانات المعلوماتية، "والتي لم تكن ذات أهمية أو مفيدة حقًا".
بدأت فيسبوك الاستثمار فعليًا في مجال الذكاء الاصطناعي منذ خمس سنوات تقريبًا، عقب تأسيس مركز أبحاث فيسبوك للذكاء الاصطناعي (Fair) في ديسمبر 2013. وتستخدم فيسبوك تقنيات الذكاء الاصطناعي في تطوير موقع التواصل الاجتماعي الأشهر عالميًا، حيث بدأت فعليًا في الاعتماد كُليًا على روبوتات الذكاء الاصطناعي في خدمة الترجمة، إلى جانب استخدامها في تحديد المستخدمين أو المجموعات التي تحاول الانخراط في تجنيد الإرهابيين، إذ يسير فتى "بالو ألتو" مارك زوكربرج على خطى ثابتة نحو الاعتماد مستقبلاً على الذكاء الاصطناعي.
زوكربيرج .Vs مَسك.. جدل متصاعد
ويستمر التلاسن المتبادل عبر السوشيال ميديا بين إلون مسك المدير التنفيذي لشركة "تِسلا موتورز" ومارك زوكربيرج. فمع حماس زوكربيرج الكبير للاستثمار في مجال الذكاء الاصطناعي وإحلال العمالة الآلية محل البشر كخطوة في طريق التقدم؛ لا يتوانى مَسك عن التحذير من خطورة روبوتات الذكاء الاصطناعي على البشرية، إلى حد الحشد لمحاولة وضع تنظيم أو قواعد تحدد البحوث في مجال الذكاء الاصطناعي، مرورًا بتوجيه رسالة مفتوحة إلى الأمم المتحدة للدعوة إلى منع سباق التسلح باستخدام الروبوتات القاتلة الذي يجري حاليًا.
بينما على الجانب الآخر؛ تفاعل زوكربيرج مع نداءات مَسك عبر فيديو لايف ستريم بثه عبر فيسبوك خلال حفل شواء بمنزله، ورد على أحد التعليقات التي اشارت إلى تحذيرات موسك بشأن مخاطر وتطورات صناعة روبوتات الذكاء الاصطناعي على البشرية؛ بأن تصريحات مَسك "سلبية وغير مسؤولة"، واصفًا الرافضين بـ"قارعي طبول سيناريوهات يوم الدينونة".
وعلى الرغم من الجدل المتصاعد بين مَسك حامل لواء التكنولوجيا المستدامة بتصنيعه لإحدي أشهر السيارات الكهربائية، ومارك زوكربيرج فيما يتعلق بمستقبل الذكاء الاصطناعي على البشرية؛ إلا أن كليهما يستثمران في مجال بحوث الذكاء الاصطناعي منذ سنوات، حيث كانت آخر انطلاقات مَسْك في مجال بحوث تطوير الذكاء الاصطناعي، هو إعلانه عن شركة "NeuraLink" التي تعمل من أجل دمج الدماغ البشري مع أجهزة الحاسوب، ما جعل البعض يرى تصريحاته المضادة لزوكربيرج بمثابة منافسة تجارية شرسة وترويج للعلامات التجارية الذي يملكها مَسْك، وهو ما عكسته أعمال "كاتسو" فنان الجرافيتي في شوارع سان فرانسيسكو الأمريكية، عبر معرض حمل عنوان "مجرمو الذكاء الاصطناعي".
https://www.reddit.com/r/elonmusk/comments/6th57j/seen_on_the_street_san_francisco_doesnt_look_very/?ref=share&ref_source=embed
حيث امتلأت شوارع المدينة ببوسترات لإيلون مسك باعتباره أحد مجرمي الذكاء الاصطناعي، وهو ما سبب ارتباكًا في ظل احتفاء وسائل الاعلام بموقف مَسْك الأخير فيما يتعلق بمعارضته البحوث غير المنظمة في مجال الذكاء الاصطناعي.
مخاوف مشروعة
"النجاح على المدى القصير في تخليق الذكاء الاصطناعي يُمكن أن يكون أكبر حدث في تاريخ حضارتنا، ولكن يمكن أيضًا أن يكون الأخير. لذا علينا تعلم كيفية تجنب المخاطر على المدى الطويل" بهذه الكلمات تحدث ستيفن هوكينج أبرز علماء الفيزياء النظرية أثناء إلقاء كلمته حول اكتشاف تأثير الذكاء الاصطناعي على عالمنا، وذلك خلال حفل افتتاح مركز "Leverhulme" في أكتوبر/ تشرين أول 2016 . وأنشئ هذا المركز لمراقبة الآثار المترتبة على التطور السريع للذكاء الاصطناعي.
تخوُّف هوكينج ليس الوحيد، إذ يشاركه قرابة 200 من الباحثين وعلماء تطوير الذكاء الاصطناعي حول العالم في التوقيع على رسالة مفتوحة حول مدى تطور بحوث الذكاء الاصطناعي، والحث على تنظيم الأولويات البحثية لكي تساهم في تحقيق الفوائد المجتمعية من استخدامات الذكاء الاصطناعي.
التخوفات المتصاعدة من زيادة الاستثمارات في مجال بحوث الذكاء الفائق تتفق مع الطرح الذي قدمه نيك بوستروم أستاذ الفلسفة في جامعة أكسفورد، والمهتم بدراسة مخاطر الذكاء الفائق - Super Intelligence risks - في كلمة ألقاها في مؤتمر "تيد توك" في محاولة للإجابة عن سؤال "ماذا سيحدث عندما تُصبح أجهزة الكمبيوتر أكثر ذكاءًا منا؟"
قال بوستروم إن محاولات جعل روبوتات الذكاء الاصطناعي فائقة الذكاء تجري على قدم وساق؛ إذ تشير البحوث التقنية أن في غضون هذا القرن يمكن أن تكون روبوتات الذكاء الاصطناعي في ذكاء الإنسان البشري، وربما تتجاوزه وتتفوق عليه. ويضيف بوستروم أن الذكاء الآلي ربما يكون آخر الاختراعات التي تحتاجها البشرية. "لذا ربما علينا التمهل والتفكير في عالم الذكاء الفائق الذي نبنيه الآن"، ويبدي أستاذ الفلسفة تخوفًا من احتمالية انقلاب "آلاتنا الذكية على الحفاظ على قيمنا الإنسانية" وأن تكوِّن تلك الآلات قيمها الخاصة بها.
وبالعودة إلى أكبر المخاوف المتعلقة باستخدامات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في تصنيع الأسلحة، وهو الأمر الذي حذّر منه مجموعة من كبار الباحثين والتقنيين، في رسالة مفتوحة وُجهت إلى الأمم المتحدة لحث الدول والكيانات الدولية والإنسانية المهتمة على العمل بجد لإيجاد وسائل لمنع سباق التسلح في مجال الأسلحة ذات القدرة على التشغيل الذاتي "المؤتمتة" أو الروبوتات القاتلة، وحماية المدنيين من إساءة استخدامها، وتجنب الآثار المزعزعة للاستقرار باستخدام هذه التكنولوجيا. إلى جانب تقديم الدعم الفني والتقني اللازم لوضع حد لبحوث القتل الآلي في الحروب. إذ نشرت هيومن رايتس ووتش تقريرًا جاء فيه أن بوسع المبرمجين والمصنعين والأفراد العسكريين جميعًا الإفلات من المسؤولية عن الوفيات والإصابات غير المشروعة الناجمة عن الأسلحة "تامة الأتمتة" أو "الروبوتات القاتلة التي تعمل ذاتيًا".