في تذكرة بمشهد "زوِّد الڤولت" من فيلم المجانين الثلاثة لسمير غانم والضيف أحمد، يستمر تأرجح سعر الدولار في مواجهة الجنيه المصري في السوق الموازية، المعروفة بالسوق السوداء.
تكمن خطورة هذا التأرجح في أنَّ سعر الصرف الموازي لا يعبِّر عن عرض وطلب حقيقيين، كما أنَّ سعر الصرف "الرسمي" لا يعبِّر أيضًا عن القيمة الحقيقية للجنيه، ومن ثَمَّ صرنا أمام صراع بين سعرين وهميين يزيد من حالة اللا يقين بشأن مستقبل الاقتصاد المصري.
في أغسطس/آب 2023، توقعت شركة فيتش سولوشينز أن ينخفض سعر الجنيه المصري في مواجهة الدولار بنحو 20% ليستقر عند 32.57 جنيه بنهاية السنة.
لم يكن تقدير فيتش بِدَعًا من القول، إذ ذهبت مؤسسات مالية أخرى ذات وزن ومصداقية في الاتجاه ذاته، فوضعته فوكاس إيكونومكس، في سبتمبر/أيلول الماضي، عند 36 جنيهًا بنهاية السنة، فيما تنبأ أحد محللي أوكسورد إيكونومكس في أكتوبر/تشرين الأول المنصرم بأن يستقر سعر الدولار عند 40 جنيهًا بنهاية 2023.
غنيٌّ عن البيان بالطبع أن سعر الدولار في السوق الموازية أبى إلا مخالفة كلّ تلك التوقعات، إذ أخذت قيمة الجنيه المصري تتدهور على نحو متسارع، حتى بلغ سعر الدولار تقريبًا ضِعف التقديرات السابقة، وضِعف السعر الرسمي في البنوك، ليلامس 75 جنيهًا في 31 يناير/كانون الثاني 2024.
اعتبر البعض أنَّ هذا التدهور ينذر بمزيد من التراجع في قيمة الجنيه، وذهبت بعض التوقعات على السوشيال ميديا إلى أن سعر الدولار سيبلغ 100 جنيه بنهاية السنة.
وفي المقابل عدَّلت أكسفورد إيكونوميكس من توقعاتها منذ أيام قليلة بالحديث عن انخفاض قيمة الجنيه حال اتخاذ قرار حكومي بتعويمه ليتراوح بين 55 و60 جنيهًا بنهاية 2024.
بيد أنَّ الدولار مرة أخرى أبى إلا أن يُفاجأ الجميع بانهياره في السوق السوداء خلال الأسبوع الأول من فبراير/شباط ليهبط إلى 55 جنيهًا وفق موقع اليوم السابع، شبه الحكومي، وسط توقعات (أو ربما آمال) بأن يواصل الانخفاض.
الطلب الوهمي على الدولار
يمكن فهم هذه التذبذبات العنيفة لسعر الدولار في ضوء العديد من العوامل، على رأسها انتعاش السوق الموازية مع عجز الجهاز المصرفي عن تلبية الطلب على الدولار، فلم يعد سرًا أن حجم الطلب على الدولار، سواء لتمويل الواردات، أو للوفاء بالتزامات مصر الخارجية بالغة الضخامة، يفوق قدرة الاقتصاد ككل على توليد العملة الصعبة.
وفي المقابل، فالبنك المركزي لم "يحرّك" سعر الصرف "الرسمي" لدى الجهاز المصرفي طيلة سنة تقريبًا، ما وسَّع كثيرًا من التعاملات في السوق الموازية، وهي، بحكم التعريف، سوق غير قانونية وغير رسمية، وبالتالي عرضة لأشد أشكال الاضطراب جراء الحساسية المفرطة لأيِّ تغيرات قصيرة الأجل، بما في ذلك الشائعات أو التوقعات أو موجات الذعر التي قد تصيب البعض في لحظة ما، مع غياب اليقين حول المستقبل الاقتصادي في المدى المنظور.
ولكن علينا أن نعي أنَّ الطلب على الدولار ليس حقيقيًا بالضرورة ليعكس بالتالي السعر حقيقيًا، لأنَّ جزءًا أساسيًا من السوق الموازية قائم على المضاربة، أي شراء وبيع كميات من الدولار في تعاملات قصيرة الأجل بغرض توليد ربح. والمضاربة ليست استثمارًا، بمعنى أنها لا تقوم على قرار مدروس أو توقعات عقلانية مدعومة بحقائق بقدر ما هي مراهنة قد تصيب وقد تخيب.
لا ضمانة لعدم هبوط الجنيه مجددًا في السوق السوداء بعد تخفيض سعره ما لم يتوفر الدولار لدى الجهاز المصرفي
وبجانب المضاربة، فإنَّ قسمًا آخر من الطلب غير الحقيقي يتولد عن رغبة المزيد من المصريين في دولرة مدخراتهم، أي تحويل الجنيه إلى دولار، لحفظ قيمة أصولهم النقدية في مواجهة معدلات تضخم عاتية لا تُبقي ولا تذر.
والدولرة وحش صغير وُلِد من رحم أزمة الدولار التي رفعت معدلات التضخم المحلية إلى مستويات غير مسبوقة، حتى طبقًا للأرقام والبيانات الرسمية، ما جعل المدخرين يهرولون إلى التخلص من الجنيهات ووضعها في أصول تحفظ القيمة عبر الزمن، سواء كانت الذهب أو العقارات أو الدولارات، في تجسيد للمثل العربي القديم: داوني بالتي هي الداء.
كل هذه العوامل تجعل سعر الدولار في السوق الموازية غير حقيقي، أي لا يعبر عن حقائق اقتصادية ومالية ونقدية موضوعية، بقدر ما هو سعر اجتماعي مقبول من المتداولين أو الراغبين في التداول.
ما السعر الحقيقي؟
طبقًا لاقتصادي مصري تحدث إلى "العربية"، وتصوري أنَّ معه حقًا، فإنَّ "الاقتصاد المصري لم يشهد ما يستدعي هذه القفزة في سعر صرف العملة من 50 إلى 70 جنيهًا"، مضيفًا أنَّ السعر في السوق الموازية عشوائي وليس حقيقيًا.
ما هو إذن السعر الحقيقي؟ هل السعر "شبه الرسمي" لدى الجهاز المصرفي حقيقي؟ الجواب سيكون لا.
وإذا استسلمنا لسعر السوق الموازية، وهو غير حقيقي كما أسلفنا القول، فلا ضمانة لعدم انخفاضه أكثر بفعل المضاربات، خاصة إذا لم يكن قرار تخفيض السعر الرسمي مصحوبًا بزيادة فعلية في وفرة الدولار لدى الجهاز المصرفي، ما يجعل الدعوات السابقة التي أطلقها بعض كبار رجال الأعمال بتخفيض السعر الرسمي للجنيه، حتى يصل لسعر السوق السوداء، مقترحًا بلا أساس، علاوة على كونه بالغ الخطورة.
لا يعني ذلك أن سعر الدولار مسألة ميتافيزيقية أو أنها متروكة لقوى الإبداع والخيال، إذ إن اختلالات مصر الخارجية حقيقية ولها وجود موضوعي يؤثر في العديد من جوانب حياتنا اليومية، وربما يكون معدل التضخم أشد تلك التجليات وطأة.
يخلق هذا ظرفًا موضوعيًا لانخفاض قيمة الجنيه في مواجهة الدولار، ولكن ما ينتج عن هذا الميل للانخفاض من سعر أو نطاق سعري يعتمد على العديد من العوامل الوسيطة، بدءًا من سياسة الدولة النقدية والتجارية والمالية، مرورًا بالثقة في المؤسسات العامة، وصولًا إلى المضاربين والمدولرين وتجار العملة.
إنَّ حضور كل هذه العوامل الوسيطة المذكورة يقلل من فرص أن "يتحقق" ذلك السعر الحقيقي المنشود، الذي يظل سعرًا نظريًا، ومن ثَمَّ ليس حقيقيًا، بل مرهونًا بإدارة أزمة العملة لا بحقائقها الموضوعية نفسها.
باختصار، فإن ما سيحسم سعر الصرف الرسمي هو القدرة على تدبير التدفقات الدولارية الكافية لتغطية احتياجات الاقتصاد، ومن ثَمَّ الحد من حركة المضاربة في السوق الموازية من جهة، ومن تفاقم التضخم، الذي يدفع للدولرة من جهة أخرى.