في شهر يوليو من عام 1952 كنت في الإجازة الصيفية مثل ملايين غيري من التلامذة بتوع عم حمزة؛ فأنا من مواليد مارس/آذار 1937 ليكون عمري ووعيي السياسي أيامها 15 سنة، وكنت أدرس مرحلة الثانوي في "كلية الأمريكان بأسيوط"، وأقضي الإجازة الصيفية مع أهلي الذين نزحوا من السودان إلى مصر في مدينة الأقصر حيث عُيّن والدي القس البروتستانتي الإنجيلي راعيًا للكنسية الإنجيلية بالأقصر.
أذكر أني سقطت في امتحان النقل من سنة ثالثة إلى رابعة ثانوي وكان عليَّ أن أذاكر الملحق في البيت استعدادًا للامتحان، ثم سمعنا الخبر في الراديو، وبالطبع لم يكن لدي من الوعي السياسي ما يمكنني من فهم ما الذي حدث. وعيي أيامها كنت أستمده من مجلة "الاشتراكية" التي أسسها أحمد حسين وكانت تشن هجومًا ساحقًا على الملك تحديدًا وعلى كل الوزارات لكن ديماجوجيتها كانت تعجب وعيي البسيط وتجد استجابة قوية لها عندي.
بالتالي اشتركت مثل غيري من تلاميذ كلية الأمريكان في المظاهرات الوطنية نمزق صورة الملك وندوسها بالأقدام!
هكذا حينما أزاح الانقلاب الملك فاروق بعد ثلاثة أيام خرجت مع الخارجين فِ مظاهرة ضخمة نؤيد الضباط الاحرار في إزاحة الملك "الفاسد" والذي تنشر الصحف فساده في حقل القمار والنساء (!) بالطبع بدون وثائق طبقا للتقليد المصري "احكم على الشخص وبعدين هات الوثائق"!
حينما بدأ العام الدراسي كان الضباط الأحرار يقومون بجولة في مدن مصر الكبرى ووصلوا أسيوط وجاءوا إلى الكلية واستمعت لنجيب وهو يخطب ويطالب الناس ألا يعطوا القطط طعامًا لأن "حتة العيش للقطة" تؤثر مش عارف ازاي في الاقتصاد المصري.
كان نجيب يخطب من فوق درج مبنى الإدارة وهو المبنى الرئيسي في الكلية وعلى جانبي الدرج جلس من معه من الضباط، وهناك رأيت لأول مرة جمال عبد الناصر يجلس تقريبًا لوحده بينما الباقون واقفين، ورأيت ثمة ابتسامة اعتقدت ساعتها أنها ساخرة عشان حكاية القطة.
وتروح الأيام وتجيء وأتخرج من جامعة القاعرة عام 1960 قسم صحافة وأدخل السجن في ديسمبر/كانون الأول ستين وأخرج في عفو عام عنّا من ناصر في أبريل 1964 وأشاهده للمرة الثانية والاخيرة لايف في الإسكندرية حين خرجت مع الجماهير لنحيي الزعيم السوفييتي نيكيتا خروتشوف وناصر في عربة مكشوفة وهتفت مع الهاتفين - مع اني طالع من السجن من فترة قصيرة وعليَّ مراقبة من غروب الشمس لشروقها في البيت - أهتف عاش ناصر وخرتشوف!
طيب الواحد يعمل إيه في جهله السياسي؟!
عضوية التنظيمات الماركسية بحد ذاتها لم تكن سببًا كافيًا لفهم ما حدث منذ ليلة الثاني والعشرين من يوليو مرورا بإعدام العاملين خميس والبقري شنقا، ثم عزل نجيب ووضعه في حجزه الاختياري في منزله حتى وفاته، انتهاءً بالموقف من "الإصلاح الزراعي" وما إذا كان تفتيتًا للأرض والملكية الزراعية وكسرًا لشوكة الإقطاعيين القلائل، أم انحيازًا للفلاحين.
إن الماركسية بمعناها النظري لم تكن متاحة أو معروفة بشكل جيد عند معظم أعضاء المنظمات الماركسية المصرية نتيجة لعدة أسباب لوجيستية، وهي إن الترجمة الوحيدة المتاحة كانت الترجمة اللبنانية أو تلك الصادرة من"دار التقدم" السوفياتية وكلتاهما صعبتا الفهم نتيجة لالتباس المعاني، ثانيًا فإن معظم الكوادر الرئيسية في التنظيمات الماركسية كانت بسيطة التعليم والعلم، قادمة من الريف او عمال مصانع النسيج وغيرها.
وبقي أن نذكر الماركسيون المصريين من جناح حدتو (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) هم أول من ساهم في ترسيخ اصطلاح "ثورة" بدلا من "انقلاب"، للعلاقة السرية وشبه التنظيمية التي كانت بين ناصر من جهة وبين التنظيم من جهة أخرى عبر خالد محي الدين.
ما نستخلصه هنا أن عضوية التنظيمات الماركسية لم تكن مرتبطة بفهم ما عميق أو غير عميق للماركسية في حد ذاتها.