في ساحة كنيسة العائلة المُقدّسة بقرية دير الجرنوس، جلست الأم الشابة نوال، تتابع بعيني وجهها الذابل، صغيرها الذي كان يلهو مع عشرات آخرين من مرتادي "مدارس الأحد".
يمرح الطفل الذي لا يُدرك ما تغرق فيه أمه من همومٍ يبدو بعضها في سواد تتشحه حدادًا على زوجها عامل صيانة الأجراس؛ الذي رحل في صباح جُمعة كيومها هذا حين كان مُتجهًا إلى دير الأنبا صموئيل المعترف، أواخر مايو/ أيار الماضي، جُمعة حوّلها قتله إلى مصدر غني للمواد الإعلامية، من قبل حتى أن تشرب صحراء المنيا دمه و28 آخرين. وإلى حلول أربعينهم.
الآن وقد مرّ على الحادث قرابة خمسين يومًا؛ انصرف الغُرباء من مُعزّين وإعلاميين ومسؤولين كُل إلى مشاغله، تاركين نوال مع فايزة والمريمتين وبقية مكلومات وثكالى "الأنبا صموئيل"، فريسة ليس فقط للحزن، بل والتفكير في تدبير معيشة بيوت غاب رجالها.
صغار عامل الأجراس
وسط بيوت القرية المسيحية الهادئة تبدلت حياة سيدات قبل 7 جُمعات من اليوم، ومنهن نوال فرج الله عياد، التي تزوجت قبل 6 أعوام ابن عمها ناصف ممدوح عياد، لتثمر الزيجة عن 3 أبناء هم كيرلس (5 سنوات) وأبانوب الذي يبلغ عمره عام ونصف العام، وإيريني ما زالت في أشهرها الأولى.
كان قوت الأسرة من مصدر وحيد، هو ما يكسبه الأب نظير عمله على أجراس الكنائس، التي خرج للمرّة الأخيرة لإصلاح أحدها، على وعد بالعودة مرّة أخرى بعد 4 أيام، لكنه لم يكمل أولها بعيدًا عن بيته، وعاد إليه في صندوق خشبي، ليترك نوال منذ تلك اللحظة فريسة للهموم "هعمل إيه؟ ده واحد كان معايا الصُبح وقال لي 4 أيام وراجع. هو آه راح السما، لكن الفُراق.. وابنه وبنته دول اللي لسه مقالوش يا بابا".
الكارثة التي حلّت بالأسرة لم تتوقف عند حرمان الصغار من "بابا"، فالخسارة لها بُعد مادي بدأت الأرملة تعيه بمرور الأيام، ولا تعلم كيف ستتعايش معه وصغارها، بمواردها المحدودة حتى الآن "اللي كان بيشتغل بيه بنصرفه، وأنا مابشتغلش. ودلوقتي بس اللي زارنا وعطى بركة بنصرف منها".
ربما ينظر البعض للأرملة الأخرى فايزة حنا توما، التي كانت تجلس بالقرب من نوال، باعتبارها أفضل حالاً، فولديها كبار بما يكفي لمشاركتها الحِمل، لكن الأمور ليست كما تبدو، فكلاهما لا يعمل، والحمل على عاتق الأم بعد رحيل ربّ الأسرة عيسى منقريوس، مع مَن رحلوا في طريق الدير.
ما إن سمعت فايزة سؤال "عاملة إيه؟"، حتى حَكَت عن الأيام الصعبة بعد رحيل الزوج "أنا مش عاملة حاجة. ادينا عايشين في الدُنيا، بناكل من الحَسنة اللي ربنا بيبعتها من بعده. عندي ابن في الكلية وابن هنا بيقرا (يدرس)".
"وقت الموته كانت الناس هلّة، ومن بعد الأربعين ماشوفناش حدّ"، تقول الأرملة التي لا يهتم لأحوالها الآن "إلا الرّب وبعض الأقارب" على حد تعبيرها. ومعهم تجد العزاء "أنا ربنا مطمّني إنه راح شهيد، لكن فُراقه هو اللي تاعبني. كان مالي عليّا البيت ولو ألف بعده مايسووش ضُفره. كان فلاّح، بس دخلته وطلعته كده كإنه جايب ملايين، إنما اللي بيجينا دلوقتي مالهوش عازة، الفلوس هتخلص ومش هنشوفه تاني".
برحيل عيسى، صارت الخمسينية مريم مسؤولة عن هدف، يحتاج صبرًا وقوة وأموالًا "عايزة ابني للعيال بيت، إنما هجيبلهم منين؟"، تتساءل السيدة ثم تدخل في حالة صمت سريعة كأنما تتدبر أمرها، قبل أن تقول بثبات وهدوء "لازم ندوس على زندنا، لما نبني حته (منزل) للعيال".
حُزن المريمتين
تتشابه مع فايزة سيدة أخرى، هي مريم عزيز فهيم، الأربعينية التي فقدت زوجها وهيب إدوارد فانوس، وتعول أبناءها الأربعة، الصبيّان هدره ذو الأعوام الست، وإدوارد الذي يصغره بعام واحد، وشقيقتهما الكُبرى مارينا ذات اﻷعوام الثلاثة عشرة، والوسطى وفاء، التي تُثقل إعاقة تعانيها من حمل الوالدة "من ساعة ما طلع من البيت وأنا تعبانه، كل ما ابصّ لولاده تعبانه".
لا تشرع مريم في الحديث عن البيت وربّه، حتى يقطعه بكائها لرحيل زوج كان "الستر والغطاء"، على ضيق ذات يده "كان فلاح بيشتغل اليوم بيومه. أجره كان 35 جنيه في اليوم، وكنا شاكرين. كان ساترنا وسط الناس".
وتذكر السيدة كيف رفض أن تقاسمه العمل في الحقول نفسها، من أجل لقمة إضافية للأولاد "قد ما كان فقير، ماكنش مخلينا عايزين حاجة. قلتله أشتغل؛ قال لي ﻷ ماقدرش اخليكي تمَِيّلي في الغيطان وسط الناس. قلتله الحمل تقيل؛ قال لي مالكيش دعوة".
لا تبكيه مريم عائلاً للأسرة أو زوجًا فقط، بل أخًا وصديقًا تُسرّ له بالهم "ماكنش جوزي بس، ده كان أخويا. وعلى قد ما ليا 4 إخوات، كنت كل ما اتضايق من حدّ أقوله هو".
والآن لا يضايق مريم إلاّ غيابه وقلّة حيلتها أمام تركته الكبيرة من الحمول، التي بدأت تُدركها الآن دون اهتداء لطريقة تتعامل بها معها "هشتغل فين؟ أفوت العيال واروح فين؟ دلوقت اللي ربنا باعته من أيام الموتة بنصرف منه. لكن عايزة اكمل تربية العيال وأصبّ (أسقف) لهم بيت. مش عارفة هعمل إيه؟".
خمسينية أخرى اسمها مريم كامل، تعيش الحزن نفسه، لكن ليس على زوج كالأخريات، فالراحل على طريق الدير كان ابنًا اسمه كرم عاطف، قطع الاعتداء مشوار قطعه للانخراط في الرهبنة، كما حكت الأم "كانت لدّت عليه (أعجبته) شُغلة الرُهبان هناك. يا بختي بيه. بس سواعي الشيطان لما بيحاربني بحن واعيط. ربنا يسامحني، مش عارفة انضُر الدنيا بعده".
كان الشاب العشريني الراحل سندًا لأبيه المريض، بأجر رمزي من أعمال يؤديها في الدير ، وبرحيله أضيف نصيبه من الحِمل ﻷم تكسب قوت اليوم من الخبز الذي تصنعه وتبيعه "أنا وهو اللي كُنا بنكدّ على البيت. واللي أنا عارفاه إن ابني تعب في أرض العالم؛ فربنا خده عنده"، تقول مريم عن صموئيل، الذي تقول أوراق الحكومة إن اسمه كرم.
والآن وقد خسرت الأم سندًا، فلا تأمل إلا في مورد رزق لأخيه أيمن، يعينه على تربية أبنائه ومساعدتها ووالده "عايزه أخوه يمسك شغلانة، أصله قاعد دلوقتي بعد ما كان شغال في مزرعة فراخ. ده اللي طالباه من ربنا دلوقتي، جنب الصبر والقوة".