لم يأت رفع أسعار الوقود صباح الخميس الأخير من شهر يونيو/حزيران المنقضي مفاجئًا، وإن كانت نسبة الزيادة التي وصلت لأكثر من 40% في سعر بنزين 92 أوكتين هي الصادمة، لكونه نوع الوقود الأوسع انتشارًا والأكثر استهلاكًا، ما يعني – عند الدولة- أنه الأكثر توفيرًا عند رفع الدعم عنه جزئيًا، وأنه سيخفف الضغط على مخصصات دعم الوقود في الموازنة العامة، التي تعاني من عجز متفاقم، وتأمل الحكومة من خلال حزمة إجراءاتها التقشفية وعلى رأسها رفع الدعم أن تخفض هذا العجز إلى ما دون 10% على الأقل خلال العام المالي الحالي.
يبدو عزم الحكومة على تحقيق هذه النسبة المتفائلة من خفض عجز الموازنة حلمًا بعيد المنال، بعد التوسع الكبير في الاقتراض الخارجي والداخلي بنسب فوائد مرتفعة، قفزت بتكلفة خدمة الدين العام في الموازنة الحالية إلى 305 مليار جنيه، وستستمر على ارتفاعها الكبير خلال السنوات القادمة لاستمرار اتباع سياسات الاقتراض المباشر وبيع أدوات الدين الحكومية. بالإضافة إلى ارتفاع فاتورة الإنفاق على المشروعات القومية الضخمة، مثل مشروع المليون ونصف المليون فدان، والشبكة القومية للطرق، والعاصمة الإدارية الجديدة. بالإضافة لاستمرار تحمل خزينة الدولة لفوائد شهادات استثمار "قناة السويس الجديدة"، التي لا يُنتظر منها أن تدر دخلاً في المستقبل المنظور. كل هذه المشروعات وسياسات التمويل ذات التكلفة العالية ستستمر في تشكيل ضغوط إضافية على خزينة الدولة.
وبالرغم من أننا جميعًا كمواطنين لسنا سعداءً بما حدث، كونه سيعرضنا لمزيد من المعاناة خاصة فى ظل ثبات مستوى دخل معظمنا، يتوجب علينا كي نكون علميين فى طرحنا؛ أن ننظر إلى هذا القرار من جوانبه المختلفة بشكل موضوعي، ونضع المسألة فى سياقها المنطقي.
تشوه تاريخي
حقيقة الأمر مبدئيًا أن كافة أنواع الدعم بخلاف الدعم النقدي المباشر، من الطبيعي أن تؤدي إلى تشوهات فى أسعار السلع المُدعمة نفسها، وفي أسعار السلع والخدمات المرتبطة بها. ما يعني أن دعم السلع الاستراتيجية والوسيطة - وفى مقدمتها الوقود- يؤدي إلى تشوهات فى السوق الرأسمالي الحر بشكل عام، وقد يكون لها امتداد ينال من حركة رأس المال كلها مع ضعف تنافسية السوق. بل وربما تكون محصلته النهائية خلق أوضاع احتكارية للمستفيدين استفادة مباشرة من أشكال الدعم المختلفة دون أي منطق اقتصادي، مما ينتُج عنه أسواق مُزيفة تزييف شبه كامل.
بمعنى آخر: دعم الطاقة مثلاً، يجعل كافة المنتجات بلا استثناء تُباع بأقل من تكلفتها الحقيقية لكون الطاقة مُدخَل أساسي في كافة المنتجات.
اقرأ أيضًا: كيف تؤثر زيادات الوقود على حياتك اليومية
ولكن هنا تظهر مشكلة اختلاف نسب الطاقة كجزء من مُدخَلَات المُنتج، وبالتالي نجد تفاوتات غير منطقية فى أسعار السلع، لمجرد أن السلعة الأولى يتطلب إنتاجها استهلاكًا أكثر للطاقة من السلعة الثانية. وينطبق الأمر نفسه على دعم المحاصيل الزراعية – وقد تراجع بالفعل في مصر- من خلال شراء الحكومة لها بأسعار تزيد عن قيمتها الحقيقية لأسباب سياسية، وما لذلك من انعكاس على أسعار المنتجات الغذائية.
ضخامة فاتورة دعم الطاقة التي وصلت فى مصر إلى حوالي 140 مليار جنيه خلال العام المالي المنتهي (بحسابات ما قبل التعويم)، ويتوقع أن تصل إلى 200 مليار جنيه في العام المالي الجاري، حتى بعد تقليص الإنفاق (جراء إنخفاض قيمة الجنيه)؛ تُشكل فعلاً عبءًا ثقيلا للغاية على الموازنة العامة. وهي غير مبررة من حيث المبدأ، وسيكون تأثيرها سلبيًا على بنود أخرى لا تقل أهمية لدى البسطاء، مثل ميزانيتي الصحة والتعليم، والإنفاق على الحماية الاجتماعية ودعم السلع الغذائية.
هذا طبعًا بشكل نظري بحت، وبعيدًا عن أن الحكومة المصرية في واقع الحال لا هي تستمر في تحمل فاتورة دعم الطاقة، ولا هي توجِّه ما توفره من الدعم لصالح الإنفاق الاجتماعي الضروري، ما يعني أن هذه الحجة (حجة خفض الدعم لإصلاح هيكل الإنفاق الاجتماعي) هي حجة كاذبة ومنتفية. كما أن المسؤولين أنفسهم يقولون علانية أن هدفهم الوحيد من تقليص الدعم هو خفض عجز الموازنة. ويعلم القاصي والداني أن هذا كله يأتي تنفيذًا لشروط صندوق النقد الدولي، كي تحصل مصر على القرض البالغة قيمته 12 مليار دولار.
هذا القرض الذي استلزم الحصول عليه هذه القرارات الاقتصادية التي تشهدها البلاد، وستستمر في معاناة أثارها لسنوات قادمة، يوجد خلاف أصلا بين المتخصصين حول ضرورة الحصول عليه وإدارته. حيث يرى فريق أن القرض ضرورة مُلحة لمساندة إجراءات الإصلاح الهيكلي للاقتصاد الذى تزعم الحكومة أنها تقوم به. بينما يقول آخرون إن القرض نفسه ليس هو المشكلة، ولكن الشروط المرتبطة به تضغط بشدة على الطبقة الوسطى وما أدناها، بينما لن تتضرر الطبقة العليا إلا قليلاً.
روشتة مستحيلة؟
إلا أنه في الوقت نفسه وكما لا يوجد أمامنا مفر من الاعتراف بتوجه الدولة الحالي وأنه أصبح أمرًا واقعًا، يجب علينا الاعتراف أيضًا بأن مصر منذ منتصف خمسينات القرن الماضي تتحكم فى اقتصادها منظومة كثيفة من أشكال الدعم السلعي المختلفة على معظم السلع الاستراتيجية وغيرها. ومشكلة ذلك ليس الدعم فى حد ذاته، ولكن ما حدث من تعارض فى عصر الرئيس السادات ما بين الاستمرار في سياسة الدعم من ناحية، وما سُميّ بالانفتاح الاقتصادي من ناحية أخرى؛ ما أدى إلى انزلاق منطقي إلى مرحلة الفوضى الحالية، بعدما سلكنا مسلكين متناقضين في نفس الوقت.
ورغم أن الدولة بدأت فعليًا في تفكيك هذه المنظومة مع مطلع الألفية، إلا أن القائمين على اتخاذ وتنفيذ القرارات الاقتصادية يعجزون عن فهم أن أي إجراءات لرفع الدعم أو تقليصه جذريًا لابد وأن تكون تواكبها إجراءات أخرى لامتصاص الأثار على الطبقات الاقتصادية الدنيا (الشعبية)، وهي إجراءات تزيد بكثير عن مجرد إقرار علاوات دورية ورفع المعاشات وزيادة مخصصات الدعم النقدي المباشر، التي لن تتمكن فى النهاية من مجاراة تحرك الأسعار مع إلغاء أو خفض الدعم السلعي.
ما كان يجب أن يحدث أولا كي لا تتحول حياة بسطاء الشعب لجحيم جراء تقليص الدعم، هو أن يكون هناك تحريك منطقي للدخول بشكل عام، يوازى نسب غلاء المعيشة. وهو ما لا يحدث الآن، ومن الصعب حدوثه دون اتخاذ الإجراءات التشريعية المطلوبة لضمان حقوق العمال والموظفين، وتحسين جودة الخدمات الأساسية المُقدمة لهم، وضمان حد أدنى مناسب للأجور وما إلى كل ذلك.
لكن حتى لو اتُّخذَت هذه الإجراءات، فستظل عاجزة عن الإتيان بالنتيجة المرجوة، لو كان الهدف منها هو تقليل عجز الموازنة، وليس تعديل شكل السوق أو القضاء على تشوهات قد تكون قائمة به كما سبق وأن أشرت.
فالصدمات السعرية الشديدة والمفاجئة، تؤدي في معظم الأحوال إلى أن تشهد الأسواق حالة من "الركود التضخمي" أو "Stagflation" وهو الكابوس الاقتصادي الذي يقع عندما تنخفض القوة الشرائية للدخول وتنهار معها مبيعات السلع والإقبال على الخدمات المختلفة. والمُثير للسخرية فى ذلك؛ أن الدولة غالبًا ما تخسر حينها من متحصلاتها الضريبية ما يزيد بوضوح عن ما وفرته بتقليص مخصصات الدعم بالموازنة العامة.
ترشيد الاستهلاك مقابل "ترشيد" الدعم
ليس من العاقلين من يقول أن الحل فى ترشيد الاستهلاك، لأن استهلاك الوقود والمحروقات في مصر لم يعد ترفًا كما كان فى السابق، حيث لم يُسمع أحد منذ سنوات طويلة وهو يقول "أنا نازل أتمشى بالعربية" على سبيل المثال، بل أصبح الاستهلاك يقتصر على الضروريات فقط منذ أول زيادة شهدتها أسعار المواد البترولية فى عصر الرئيس عبد الفتاح السيسي، قبل ثلاثة أعوام على وجه التقريب.
اقرأ أيضًا: الإفتاء: الأسعار بيد الله.. ولا حيلة في الغلاء
والحديث عن ترشيد استهلاك الوقود بما يزيد عن الحاصل فعلاً؛ هو حديث لا يخلو من السذاجة المُفرطة ويعني عمليًا "ضرب الكرسى فى الكلوب"، وإيقاف ما لا يقل عن نصف الأنشطة التجارية والخدمية بالبلاد و"بالمرة نقول للعمال والموظفين إنهم يقعدوا فى بيوتهم" كي نُرشد الاستهلاك. هناك يا سادة حد أدنى من التفكير يجب أن يسبق الكلام.
بدائل ممكنة
لا يوجد أدنى شك في أن الدعم مشكلة في حد ذاته، وأنه إجراء اقتصادي غير طبيعي فى المطلق، ولكن الدولة عجزت بوضوح عن التعامل مع قضية التخلص منه بطريقة تضمن توزيع الأعباء بشكل عادل على الجميع.
كما كان من المفترض أيضًا استنفاذ كافة السبل المتاحة قبل اللجوء إلى خطوة ستؤدى حتمًا إلى موجة غلاء شديدة فى تكلفة المعيشة، وربما يصاحبها أيضًا ارتفاع مطرد فى نسب التضخم. وكانت هناك في الواقع بدائل عديدة للقرار الذى اتُخذ.
على رأس هذه البدائل: إعادة هيكلة شركات الكهرباء والطاقة التي تكاد تنعدم فاعليتها المالية من حيث غياب القدرة على الاستغلال الأمثل للموارد النقدية المُتاحة. هذه الشركات رغم أنها صارت تعمل وفق منظومة هادفة للربح على المدى المتوسط (مع اكتمال رفع الدعم)، تظل مثقلة بمليارات الجنيهات من الديون دون أي داعي. وتوجه متحصلاتها من فواتير المستهلكين نحو خدمة هذه الديون بملايين تسددها كل شهر.
ولا يوجد فى الحقيقة أى سبب اقتصادي لتجاهل الحكومة خيار هيكلة عمل هذه الشركات، إلا أن تكون هناك رغبة لدى الدولة في الإبقاء على منظومة إنتاج وتوزيع المحروقات الحالية، التي يجني منها أصحاب المصالح فى حلقات التوزيع والإنتاج مبالغًا خيالية كل يوم، وليس فقط كل شهر أو أسبوع.
لا أقول بالضرورة أن هذا الإجراء وحده كان سيُغني عن تقليص دعم الوقود؛ لكنه كان سيخفف منه بنسبة 50% على أقل تقدير. علمًا بأن حتى صندوق النقد الدولي لم يكن سيرفض إعادة التفاوض - ولو مؤقتًا - على مسألة دعم المحروقات، إذا ما كانت هناك طرق أخرى لخفض عجز الموازنة، لأن ما يهمه في النهاية هو خفض هذا العجز بأسرع ما يُمكن، بصرف النظر عن مصدر التوفير.
فالشركة القابضة لكهرباء مصر تَدين اليوم لوزارتي المالية والبترول وبنك الإستثمار القومي بمبلغ 85 مليار جنيه، يأتي بعضها من بيع الكهرباء بأقل من سعر التكلفة، وصعوبات فى التحصيل من المشتركين الأفراد وشركات القطاع الخاص، ولكن الجزء الأكبر منها ناتج عن أخطاء إدارية وعدم سداد الجهات الحكومية لفواتيرها، بحيث بلغ مجموع مديونيات الحكومة لشركة الكهرباء 20 مليار جنيه، أي أن هذا البند وحده يوازي نصف ما ستوفره الحكومة جراء تقليص الدعم.
اقرأ أيضًا: زيادة أسعار الوقود.. خطوة جديدة في سلسلة القرارات الشجاعة
وبالتالى يجب إعادة هيكلة الشركة بأن يتم فصلها أولاً عن الجهاز الحكومي، ليس بمفهوم خصخصتها؛ ولكن بمنحها استقلالية إدارية حقيقية تمكنها من تحصيل مستحقاتها لدى المؤسسات العامة، وثانيًا بأن تتعامل شركات الكهرباء والطاقة مع بائع التجزئة بشكل مباشر، دون اللجوء إلى حلقات متشعبة من الوسطاء، الذين يجنون من ذلك أرباحًا هائلة. هذا بالإضافة إلى فك مركزيتها حتى نتفادى الإشكاليات الإدارية.
وأخيرًا، كان من الممكن تدبير جزء كبير من مبلغ 40 مليار جنيه الذي يفترض أن تقليص الدعم الأخير سيوفره على الخزانة العامة -وفق تصريحات المسؤولين- من خلال زيادة الحد الأقصى للضريبة على الدخل عن رقمه الهزيل الحالي الذى لا يتعدى 22.5%، ليصل إلى ما لا يقل عن 35%، وتطبيق الضريبة على الأرباح الرأسمالية بنسبة 10%، وهو ما كان سيدر على الدولة دخلاً هائلاً دون أن ينفُر عنا المستثمرين العظماء، ولا كانوا سيهربون بأموالهم من البلاد، ولا كان هذا سيقلل من فرص العمل. ببساطة لأن كافة الدول الأخرى التي يمكنهم الذهاب إليها إما تطبق هذه الضرائب بالفعل وبنسب أعلى كثيرًا من المقترحة لدينا، أو أن أسواقها مُشبًّعة بدرجة لا تسمح بدخول منافسين جدد.
فلنفترض مثلاً أن أرباح سوق الأوراق المالية تبلغ فى المتوسط اليومي 100 مليون جنيه -وهو تقدير متواضع للغاية- وحصلنا منهم على ضريبة 10%، سيصل إجمالي الإيراد الإضافي إلى 3.6 مليار جنيه سنويًا. ولو فُرضًت على هذه الأموال ضريبة إضافية 12.5%، لترتفع نسبة الضريبة على الدخل التي يدفعها الأثرياء من 22.5% إلى 35%؛ سيبلغ مردود ذلك ما يزيد بقليل عن 6 مليار جنيه.
كما أن ثروات أغنى 10 رجال فى مصر تضخمت فى العام الماضي فقط بمقدار 2.7 مليار دولار، أي حوالى 48.6 مليار جنيه بحسب سعر الصرف الحالي، ولو فُرضًت على هذه الأموال ضريبة إضافية 12.5%، لترتفع نسبة الضريبة على الدخل التي يدفعونها من 22.5% إلى 35%؛ سيبلغ مردود ذلك ما يزيد بقليل عن 6 مليار جنيه.
هذان البديلان فقط -ولا يزال يوجد الكثير غيرهما- كانا سيوفران إذن 29.6 مليار جنيه فى السنة، ولكن مرة أخرى فضلت الدولة تعميق الأزمة الوجودية لغالبية شعبها، كي تكسب رضاء حفنة من رجال الأعمال والشركات الأجنبية الساعين وراء الربح السريع ليس إلا. مع اعترافي بالطبع بوجود البعض القليل من الشرفاء بينهم.
ما أطرحه هنا من بدائل هي بالمناسبة حلول رأسمالية بحتة، ولا تمت بأى صلة من قريب أو بعيد لهويتي الاقتصادية والسياسية اليسارية. وتمثل أضعف الإيمان كي يكون هناك إصلاح حقيقي لمن يريد الإصلاح، قبل أن تؤدي السياسات الحالية لتوقف السيارات، ومعها الحياة الحديثة كما نعرفها.