منذ بداية القرن العشرين لم تغب عن مصر فكرة التغيير والثورة على الفكر الديني التقليدي، اشتهرت محاولات كثيرة، منها محاولات طه حسين لدراسة الشعر العربي بمعزل عن التأثيرات الدينية في كتابه "في الشعر الجاهلي"، وأحمد أمين، الذي قام بإعادة كتابة التاريخ الإسلامي في "فجر الإسلام"، و"ضحى الإسلام"، و"ظُهر الإسلام"، وخالد محمد خالد صاحب كتاب "من هنا نبدأ"، الذي دعا فيه للمزج بين الاشتراكية والإسلام. وغيرها من المحاولات التي لاقت انتقادات وتعرض أصحابها لهجوم من الدولة أو من أصحاب الأفكار الأخرى.
ولكن يبدو أن هناك محاولة سقطت من دائرة الاهتمام، وهي محاولة محمد النويهي، المتوفي عام 1980، التي ظهرت في نهاية الستينيات من القرن العشرين، وعرضها في كتابه "نحو ثورة في الفكر الديني" الذي صدر عام 1970 وأعادت هيئة الكتاب إصداره عام 2010، والكتاب لم يكن فقط محاولة للتجديد الديني، ولكنه كان أيضًا محاولة للتأمل في الواقع الفكري في مصر بعد هزيمة عام 1967.
حصل النويهي على ليسانس الآداب في اللغة العربية من جامعة القاهرة عام 1939، وحصل على الدكتوراه من معهد الدراسات الشرقية والأفريقية من جامعة لندن عام 1942، ودرّس في القاهرة والخرطوم ولندن. وكان النويهي يعتبر نفسه تلميذًا لطه حسين، ووضح تأثره به في اتجاهه لدراسة الشعر الجاهلي، وهو موضوع كتابه الأول "الشعر الجاهلي: منهج في دراسته وتقويمه"، والذي أهداه الي أستاذه طه حسين، كذلك أصدر في عام 1953 كتابًا بعنوان "نفسية أبي نواس" الذي يقوم فيه بتحليل شعر أبي نواس من الناحية النفسية.
بعد هزيمة 1967، اهتم النويهي بتحليل السياق الفكري الذي أدى للهزيمة، وإلى تفوق إسرائيل علينا، وذلك في سلسلة مقالات نشرها في مجلة الآداب البيروتية عام 1970، والتي جمعها في كتابه "نحو ثورة في الفكر الديني"، وتحدث فيها عن ضرورة قيام ثورة دينية وفكرية في المجتمع، حتى تجاري الثورة السياسية التي حدثت عام 1952.
مصر الدولة ومصر الثورة
قبل كل شيء يبدأ النويهي بإعلان تأييده للرئيس جمال عبد الناصر، الذي أعلنت الجماهير الغفيرة إصرارها على الاحتفاظ به زعيمًا، ويقينها أنه أصلح من يقودها إلى خاتمة النصر. في المقابل يعتبر النويهي أن وزر الهزيمة يقع على عاتق العرب جميعًا، فالمسؤولية لا تقع على الحكام فقط بل المحكومين أيضًا، ذلك لعدم إدراكهم حقيقة المواجهة مع إسرائيل، وأنها صراع حضاري في الأساس، وأن مجتمعنا لم يقم بالثورة الفكرية المطلوبة الموازية للثورة السياسية.
يبرئ النويهي ثورة يوليو من الهزيمة، ويستعير تعبير محمد حسنين هيكل، الذي اعتمد عليه بشكل كبير في كتابه، وقوله إن "مصر الدولة" أضرت بـ "مصر الثورة"، فمصر الثورة حققت العديد من الإنجازات، ولكن الدولة لم تواكبها، وهو ما أدى لعدم وصول المجتمع للتطور المطلوب.
لذلك تكون الثورة الفكرية واجبة، وينبغي أن يُعاد النظر في التاريخ والتراث العربي والإسلامي، والذي تنظر إليه غالبية المجتمع بنظرة تبالغ في "التقديس الأبله"، مما يؤدي إلى صعوبة مهمة المفكرين المطالبين بكشف خطايا الماضي.
ولكن بدء الكاتب بتأييد جمال عبد الناصر يوحي بأن أي ثورة دينية تحتاج إلى عباءة تأييد النظام الحاكم وتبرئة القيادة وإلقاء اللوم على البيروقراطية والنخبة، في لعبة توازنات متكررة يقوم بها أنصار الثورات الدينية للحصول على دعم السلطة لينتهي الأمر إلى الاكتفاء بمحاولة تحقيق الإصلاح من الداخل.
"أنتم أعلم بشؤون دنياكم"
معظم الناس يعتقدون أن الدين جاء بحلول وأجوبة محددة على كل الأسئلة، وأن الدين يقدم لنا نظامًا كاملًا علينا أن نتبعه. يرى النويهي أن هذا أول العوائق الفكرية التي تواجهنا، والحل لهذه المشكلة هو إيصال حقيقتين للناس، الأولى أن المسائل التي يعطي فيها الدين أجوبة محددة لا تقبل الخلاف مسائل قليلة جدًا، والمشكلة هي توسيع هذه المسائل واعتبار الكثير من الأمور خاضعة للدين، بما فيها العلوم الأخرى من طب وفلك وجغرافيا وفلسفة واجتماع وأدب، وأن علينا أن نقاوم محاولات كبت الرأي باسم الدين، وأن نسمح بالنشر مهما بدا الرأي المنشور يخالف الدين.
أما الحقيقة الثانية فهي عدم احتواء الدين علي نظام كامل يحل كل مشاكلنا، ويري الكاتب أن وجود الاجتهاد والقياس يعني التغيير المستمر في الأحكام وفقًا لتغير الزمن. يستعين النويهي بحديث الرسول القائل "أنتم أعلم بشؤون دنياكم"، ويعتبره مؤكدًا على أننا أعلم بشؤون دنيانا من الرسول، فما بالك بالصحابة والعلماء الذين مر أكثر من ألف عام على آرائهم.
وثاني العوائق التي يري النويهي أنها تُستخدَم لمحاربة الأفكار الجديدة هي رفض الجديد باسم الأخلاق، ويري الكاتب أن القيم الأخلاقية التي لا خلاف عليها هي تعبيرات عامة جدًا مثل الحق والخير، أما تفاصيل تحقيق هذه القيم فإنها تختلف من زمن لآخر ومن مجتمع لآخر، ويضرب مثالًا بتعدد الزوجات الذي تعتبره بعض المجتمعات حقًا شرعيًا بينما تعتبره مجتمعات أخرى علاقة غير شرعية، وتسمح به بعض المجتمعات وتسعي أخرى لتقييده، وكذلك كثير من الأفكار التي كانت مستهجنة في عصور ما، تَقَبّلها المجتمع بعد فترة من الزمن مثل أفكار محمد عبده وقاسم أمين وبرنارد شو، ومغزى ذلك أن علينا ألا نمنع الآراء الجديدة بدعوى مخالفتها للأخلاق لأنها نسبية ومتغيرة.
أما ثالث العوائق التي يتعرض لها أي مفكر مجدد فهي الاتهام بعدم الوطنية وربما الخيانة، ويري النويهي أن مفهوم الوطنية السائد هو الإشادة الدائمة وتمجيد التاريخ، بينما الوطنية الصحيحة هي أن نري المميزات والعيوب، وبشكل خاص إظهار النقائص وتشريح السيئات. يذكر النويهي أنه عندما سافر إلى إنجلترا وجد النقاد يقولون على شعراء بعينهم أنهم وطنيون، ولما قرأ شعرهم لم يجد فيه مديح للوطن بقدر ما وجد انتقادات، بالتالي كان شعرهم بالنسبة للنقاد معبرًا عن الوطنية الحقة. وبالعودة إلى مصر ، يضرب مثالًا بالكتاب "الوطنيين" الذين كانوا يرون أن كل شيء علي ما يرام في حرب 1948 في ظل وجود الفساد والرجعية والملك الفاسد، بينما كان من ينتقد النظام يوصف بالخائن.
يعود النويهي ويرى أن الرئيس عبد الناصر يضرب مثالًا للكتاب والمثقفين في المصارحة بالحقائق والانتقاد، وأن ذلك بداية عهد جديد من "التطهر" العربي، وأننا نحتاج إلى شجعان مثل عبد الناصر يصارحون الوطن بنقائصه، ويستعين مرة أخرى بحوار لعبد الناصر مع هيكل، قال فيه الرئيس بعد النكسة: "الآن يبدو واضحًا أمامنا أن كثيرين لم يتكلموا حين كان واجبهم يقضي عليهم بأن يتكلموا".
مع ذلك يفرّق النويهي بين حرية الفكر وحرية الفعل، فمن حقك التعبير عن رأيك، ولكن ليس من حقك فرضه بالقوة، فعليك احترام المجتمع الذي تعيش فيه، ولكن في المقابل إذا استفز رأيك الحر بعض الأشخاص وجعلهم يحاولون الاعتداء عليك، فدور المجتمع هنا ليس قمع رأيك لتجنب الفتنة، وإنما دوره أن يقوم بحمايتك من أي اعتداء لأنك استخدمت حريتك الفكرية، ولم تقم بأي فعل مخالف.
كهنوت الأزهر
يبدو أن انتقاد الأزهر، كمؤسسة دينية غير متجددة كان تقليدًا قديمًا، ينتقد النويهي الأزهر، وخاصة لقيام بعض مشايخه بتكفير واضطهاد المفكرين المجددين مثل الإمام المراغي والشيخ مصطفى عبد الرازق، هذا الاضطهاد الذي وصل أحيانًا إلى حد السب المبالغ فيه، ويضرب النويهي مثالًا لرد واعظ في مجلة "نور الإسلام" التابعة للأزهر على خالد محمد خالد وقوله: "ولقد سبقك كثيرون أرادوا أن ينالوا من الأزهر و من الاسلام فباؤوا بالفشل ومصوا بظر أمهاتهم".
يشير النويهي إلى أن سطوة رجال الدين زادت في مصر الثورية بالمقارنة بالنصف الأول من القرن العشرين، مضيفًا أن ما كان يقوله طه حسين والعقاد والمازني في العشرينيات والثلاثينيات، صار من الصعب تكراره بين كتاب الستينيات، وأرجع سبب ذلك إلى أن الحكومة الثورية تخشى من مزايدة الأنظمة الرجعية في المسائل المتعلقة بالدين، وهذا جعل العناصر الرجعية تستولي على مجلتين تصدرهما وزارة الإرشاد القومي (لم يذكر اسمهما)، ووصل الأمر أنهم اتهموا أصحاب التجديد الشعري بالإلحاد وخدمة مخطط التبشير الصليبي والإباحية والفوضوية والشيوعية.
كل ذلك يبيّن أن العقبة الأولى في سبيل تحقيق ثورة ثقافية عربية شاملة هي العقبة الدينية، فأول ما يواجه به الفكر الجديد هو الحجة الدينية، وبذلك تكون الثورة الحقيقية في تغيير فكر الإنسان بدلًا من السؤال عن مدى توافق الفكر الجديد مع الدين.
ولكن لا يصل الأمر مع النويهي إلى الدعوى إلى اقتلاع الدين، إذ أشار إلى أن هذا كان خطأ وقعت فيه الثورتين الأوروبيتين العظميين، الثورة الفرنسية والروسية، بدون أن يقدروا مدى سيطرة الدين على قلوب المؤمنين به، وبدون أن يفكروا في أن المشكلة قد لا تكون في الدين نفسه، بل في إساءة فهمه واستخدامه. لذلك يرى أن الحملة على الدين "محاولة كيخوتية مبددة للجهود"، وأن الأولى هو تغيير فهم الناس لماهية الدين وسلطانه.
وعندما يتحدث عن الإسلام بشكل خاص يشير إلى وجود علتين ظهرتا في عصور انحداره، وهما بروز طبقة تحتكر تفسير الدين، ثم اعتقاد تلك الطبقة أن ما ورد في المصادر الدينية من تشريعات هي تعاليم ملزمة ولا يجوز تغييرها.
ثورة دينية مضادة
أدت هزيمة 67 إلى مراجعة لكل الأفكار بحثًا عن إجابة لسؤال الهزيمة، فرأى البعض أننا لم نطبق الاشتراكية بشكل صحيح، وآخرون تشككوا من الأصل في صلاحية النظام الاشتراكي في مصر، وأرجع كثير من المثقفين السبب لغياب الحريات وطالبوا النظام بالمزيد من الحرية في البلاد.
في المقابل كان هناك اتجاه قوي يستعين بالدين للتخفيف عن الشعب وهو ما ظهر واضحًا قبل حرب أكتوبر 73 وتضمن قول شيخ الأزهر عبد الحليم محمود إنه قد رأي الرسول في المنام يبشره بالنصر، وهو ما استغلته التيارات الدينية التي رأى الكثير منها أن سبب الهزيمة هو ابتعادنا عن الدين، وأبدى البعض شماتته في الهزيمة، كما قال الشيخ الشعراوي الذي سجد شكرًا للهزيمة لأنه لم يكن يتمنى أن ننتصر ونحن في أحضان الشيوعية.
ولكن يمكننا أن نرصد المفارقة التاريخية التي حدثت بعد شهور قليلة من نشر مقالات النويهي، إذ تحولت الدولة التي كان يدعوها الكاتب إلى ثورة تجديد ديني إلى "دولة العلم والإيمان"، التي يحكمها رئيس مسلم لدولة مسلمة، وأدى ذلك لانتشار كبير لجماعات وأفكار دينية متشددة، لتتحول الستينيات نفسها، التي كان يتعرض المجددون فيها للتضييق، إلى حلم تنويري يحن إليه الكثيرون.
ورغم محاولة النويهي في التجديد، إلا أنها تكشف من داخلها هشاشة التغيير الفوقي، المعتمد على جناح النظام التقدمي والنخبة المثقفة المنفصلة عن الناس، وعن المطالبة بالحرية الحقيقية، التي يأتي في مقدمتها الحريات السياسية، والتي كثيرًا ما تغفلها محاولات "الثورات الدينية"، ويسفر ذلك عن خطاب منعزل تطيح به الأنظمة الحاكمة والتيارات المتطرفة.