نشرت النسخة الإنجليزية من المقال في صحيفة ميدل إيست آي
"لقد خذل السيسي نفسه، وخذل مصر" قالها لي بهي الدين حسن عشية الذكرى الرابعة لـ30 يونيو/حزيران، عندما انقلب الرئيس على سلفه محمد مرسي، لينهي سيطرة الإخوان المسلمين على السلطة.
منذ انتفاضة 2011، سيطرت على ساحة السياسة المصرية ثنائية الإسلاميين والعسكر، وشكلت كابوسًا مقيمًا لكثير من المصريين.
لكن في أسوأ الكوابيس، لم يتخيل أحد ذلك المزيج من القمع المنظم والفشل الأمني والتراجع الاقتصادي، الذي تلا ما جرى في 30 يونيو 2013.
كثير من المصريين يعترفون علنًا أنهم يشعرون بالانكسار. المحللون يطرحون أن هناك حالة من الإنهاك، ومع رد الفعل المكتوم في الشارع بعد إقرار التنازل عن جزيرتي البحر الأحمر خلال الشهر الماضي، تبدو الثورة وكأنها حلم بعيد.
لكن هناك آخرون كثر، مثقفون وعامة، يعتقدون أن المظاهرات الصغيرة المتقطعة ورواد الشبكات الاجتماعية الغاضبين يراكمون غضبهم، ويدعون المعارضة المصرية للخروج إلى الشوارع.
حاتم العسكري، مفكر مصري، كتب على حسابه في فيسبوك " إنزلوا وماتخافوش.. و الله نظام هش وضعيف"، وذلك بعد ارتفاع سعر اسطوانة الغاز المستخدمة في الطهي بنسبه 100%، ضمن قرار حكومي مفاجئ برفع أسعار المواد البترولية صباح الخميس الماضي.
اقرأ أيضًا: كيف تؤثر زيادات الوقود على حياتك اليوميةمساء اليوم نفسه، قام مجموعة من قادة السيارات بالاحتجاج، بالوقوف بسياراتهم على كوبري "6 أكتوبر" في قلب القاهرة، حاملين لافتات ينددون فيها بزيادة سعر المشتقات البترولية بنسبة 43%، وهو القرار الذي سيشعل موجة جديدة من التضخم تجتاح الأسواق لأشهر مقبلة.
اقرأ أيضًا: بدائل اجتماعية لرفع الدعم عن الطاقة
"خلصانة بخيانة"، هكذا علق أحد مستخدمي تويتر على تخللي السلطات عن جزيرتي البحر للأحمر: "الغليان دا جاهز للانفجار في أي لحظة" كتبها أحمد العش، واحد من مشاهير تويتر المصريين.
بعد 4 سنوات من 30 يونيو، مصر أصبحت بوتقة من البارود. وكلما مر الوقت، زادت الحرارة وزاد الخطر في شوارع القاهرة.
كيف انمحت مكاسب 2011
ربما كانت الأحوال في مصر سيئة في عهد مبارك، ولكن في العهد الحالي، دخلت مصر في مرحلة غير مسبوقة من الدكتاتورية.
في البداية، الثورة المضادة التي بدأت في 9 مارس/أذار 2011 بأول هجوم من قوات الجيش على المتظاهرين في التحرير، حاولت أن تسترجع كافة المكاسب التي انتزعها منها ثوار الانتفاضة الشعبية، والتي حاولت أن تزهر ثورة حقيقية تغير من شكل وطبيعة الحكم في البلاد.
إذا نظرنا للصورة بعد سنوات من تلك النقطة، ومع وصول الرئيس القادم من قلب المؤسسة العسكرية للحكم، فما جرى هو أن الدولة الأمنية والنخبة الاقتصادية استطاعوا أن يستعيدوا زمام السلطة والسيطرة، بينما يمحون كل منافسة ممكنة محوًا منظمًا. ووصل الأمر إلى اعتقال مرشح محتمل للمنافسة في انتخابات الرئاسة المنتظرة.
الرئيس ورفاقه أدركوا ما لم يدركه الثوار: 18 يومًا من الصمود لم يغيروا شيئًا سوى وجه الرئيس. لم تكن هذه ثورة، ولكن انتفاضة. فمن أجل تغيير حقيقي، لابد من تنظيم وخبرة سياسية وطرح أيدولوجي وفهم للتاريخ، ولم يكن أي من ذلك كله حاضرًا.
وهكذا، ومن خلال مريج من العنف الفج والبروباجاندا، استطاعت الثورة المضادة أن تخنق الانتفاضة. لكن غرور الآلة العسكرية التي يقودها رأس الدولة، ستقود في النهاية إلى انعكاس الأوضاع.
كيف تراجعت مصر منذ حركة يونيو
هناك شقوق منذ انقلاب السلطة في 3 يوليو/ تموز 2013، قد تقود إلى حركة زلزالية: أولها تلك الحالة من القومية المفرطة ذات الطبيعة السامة، وإرهاب يتمدد من سيناء نحو الوادي، وأزمة اقتصادية لم يتم احتوائها منذ الموجة الارتدادية لتعويم الجنيه والانخفاض الحاد لقيمته.
يقول الباحث أشرف الشريف، الزميل غير المقيم لمشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط – وهو مركز بحثي مقره واشنطن- "الدولة ومؤيدوها يستثيرون الشوفينية، وأحيانا، يعمدون لإشعال القومية الكارهة للأجانب. ويعطون أنفسهم الحق في تصنيف العديد من المصريين في خانة الخيانة".
هذه الظاهرة تهدد بفرض أسوأ الظلال: سيقف المصريون في وجه بعضهم البعض.
في دولة ينقسم شعبها بين الوقوف غير المشروط مع الرئيس وأجهزته الأمنية، والتأييد الأعمى للإسلاميين، يقف النقاد غير المسيسون في موقف صعب، لا تتوفر فيه لديهم الاحتياجات الأساسية لمواجهة تضخم وصل إلى أكثر من 30%. هناك تصدعات حقيقية تهدد هذه الأمة، وربما تهدد المنطقة كلها.
أضف إلى ذلك المزيج؛ تبخُّر الدعم غير المشروط الذي منحه غلاة المسيحيين للسيسي خوفًا من امتداد أيدي الإرهاب إليهم، فإذا بها تطال المسيحيين في كنائسهم منذ بدء العمليات الكبيرة في الوادي في ديسمبر\كانون أول 2016. فإذا وُضِع هذا إلى جوار الحملة الشرسة على المجتمع المدني والقضاء، والنشطاء السياسيين الذين ألقي القبض عليهم لمجرد إيمانهم بأن جزيرتي تيران وصنافير مصريتان، ثم نظرت إلى ما يعانيه عامة الناس من تراجع شديد في مستوى وإتاحة الخدمات الأساسية؛ سترى الصورة المظلمة التي صارت مصر عليها.
ثلاث أسباب محتملة، وثلاث انفجارات متوقعة
في سبيل القضاء على أية بادرة ثورية، أنتج النظام – على غير رغبة منه- المزيد من تلك الروح. كل ما ينقص انطلاق الرصاصة الآن، هو الزناد المناسب.
كان قتل مصري واحد "خالد سعيد" هو الزناد المناسب لانتفاضة 2011. قرض صندوق النقد الدولي قد يطلق انفجارات جديدة، حيث ستكون هناك المزيد من ارتفاعات الأسعار، بلا شبكة أمان اجتماعي تقريبًا تحمي الملايين وتساعدهم على امتصاص الألم.
وربما يكون الزناد واحدة من الحوادث التي لا تنتهي من قتل رجال الشرطة الفاسدين لأبرياء مصريين بدم بارد، كما حدث مرارًا من قبل.
تمامًا كما لم يقدر نظام مبارك المصريين حق قدرهم في 2011، يستمر الرئيس وفريقه المعاون في النظر للمصريين وقد أسكرتهم خمر القوة؛ ليروا أن انفجار غضب المصريين أمر غير محتمل. لكن الحقيقة أنهم غارقين في الوهم.
في هذه المرحلة المضطربة، ثلاث سيناريوهات تلوح في الأفق، كل منها ينذر بسقوط سياسية لا تحمي منه شبكة أمان.
السيناريو الأول: انقلاب
لا يمكننا القول بأن معسكر السيسي غافل بالكامل، البعض يدركون هذا، ويًعُون أن ما يجري الآن يضر بالامن القومي. السياسات المتبعة لا تضر عموم المصريين فقط، لكنها تضر كذلك بالمصالح الاقتصادية للنخبة التي تختلط بالمصالح الاقتصادية للمؤسسة العسكرية التي تتحكم في قدر غير قليل من الاقتصاد القومي.
وكما عمل رئيس المخابرات الحربية الأسبق بصمت وروية ضد مرسي والجماعة؛ ربما يكون هناك من يعمل بصمت وفي الظلام، وربما لأسباب لا يشوبها الأنانية والمصلحة الشخصية، كي ينقذ البلد من هذه العثرة. وربما يكون هناك آخرين يعدون مزيجًا رئاسيًا أكثر سُميِّة.
بالتناقض مع الثورة، هذا التحرك المضاد للثورة قد يضع سلطوي آخر يمكن قبوله في موضع دكتاتور دموي. لكن الجالس على المقعد الآن ليس محمد مرسي. يقظته الأمنية وحرصه الكبير وتحالفاته قد ينتج عنها ألا يترك الحكم إلا بالدماء. وعلينا أن نتذكر جميعًا جريمة ميداني رابعة والنهضة، التي أثبتت أن مؤسسات هذه الدولة وعلى رأسها وزير الدفاع الأسبق لا مانع لديها من ارتكاب جرائم حرب.
على من ينكر أن سيناريو الانقلاب من داخل الجيش ويعده مستحيلاً أن ينظر عن قرب لتاريخ الجيش المصري، وخاصة رئيس مصر الأول محمد نجيب الذي واجه مصيره عندما اتخذ خطوات نحو إقصاء الجيش عن السياسة، وحاول الدفع باتجاه عودة القوات إلى موضعها على خطوط المواجهة. نجيب بالطبع تم الانقلاب عليه من جمال عبد الناصر.
السيناريو الثاني: المظاهرات
العديدون ممن لا يؤمنون بإمكانية تكرار سيناريو 2011، يرون أن المعارضة الآن أكثر تمزقًا، وأن المواطنين أكثر إرهاقًا من أن يُقدموا على الوقوف في مواجهة الحكم القمعي. وبينما تواصل المعارضة تفككها ويُطلق على أبنائها لقب "جيل السجون"، وبينما هي في الحقيقة صامتة إلا من مظاهرات قليلة متفرقة منذ إعلان نية تسليم الجزيرتين، حتى أن أكبر مظاهرة تمت منذ وصل السيسي للحكم كانت في أبريل/ نيسان 2016، عقب الإعلان عن توقيع الاتفاقية.
هل يمكن أن تتعافى المعارضة؟ تذكر: بينما استحوذ النظام على أسلحة تبلغ قيمتها مليارات الدولارات، فإن عدد المصريين المنضمين للفقر قد ارتفع كذلك، إذ يتركز 90% من حجم الثروة في يد 10% فقط من السكان.
فقط من أربعة أشهر مضت، كان المصريون في الشوارع يصرخون "عاوزين عيش". الإرهاق تم التغلب عليه بضغط الجوع المتزايد، وبدا أن الرئيس الأمني لا يمكنه توفير الأمن أو الاستقرار.
إلى جانب مثقفين مثل العسكري الذي كان ينادي الناس بالخروج للتظاهر في الشوارع، نجد أن حتى غير المسيسين مثل إنجي سمير عارضة الأزياء ومقدمة البرامج الإذاعية، تحدثت إلى آلاف المتابعين لحسابها الشخصي قائلة " إحنا مجرد عبيد عندهم ملناش لازمة.. بقينا فى #أمر_واقع و#إجبار.. انزلوا و#اعترضوا بدل ما انتوا واكليين خراا و بتاخدوا بالجزم و ساكتين".
عندما يأتي الانفجار، سيكون أكثر دموية من نسخته التي شهدناها في 2011 لسببين: أولهما أن العديدين في معسكر المعارضة رددوا "تركنا الميدان مبكرًا جدًا"، بالإضافة إلى تردد فكرة بعينها بصيغ مختلفة "كنا سذجًا عندما أمنا جانب المؤسسة العسكرية وظننا انها سوف تفهم وتحترم أو تخشى منهجنا السلمي". القضاء على الديمقراطية في 2012 -أيا كان تصورك عن مرسي- نزع عن الديمقراطية إمكانية أن تكون حلاً في أعين المصريين.
على الجانب الآخر؛ تدرك وزار الداخلية وأجهزة الأمن القومي أن كرامتهم تلقت ضربات شعبية مروعة في2011. وضربة أخرى قد تكون مزلزلة ومضرة بإمبراطورياتهم الهائلة.
القمع غير المتهاون لانتفاضة ثانية سيكون مُؤيدا من الرئيس نفسه، الذي يرى في المعارضة خيانة. فهل على المتظاهرين أن يهبوا؟ يقول بهي الدين حسن مؤسس مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان إنه لا يعتقد أن الجيش يمكن أن يتحرك ضد الرئيس السيسي، كما أنه لا يظن أن الأفق يحمل "حمام دم".
السيناريو الثالث: المصري ضد المصري
غياب القدرة على الحوار السياسي المتحضر بين المعسكرات المتعارضة، هو مسألة محورية في السيناريو الثالث. افتح التلفزيون المصري، أو الراديو أو الق نظرة على شبكات التواصل الاجتماعي، وستجد أمة مفتتة.
عشيرة الرئيس ترفض إدراك الحقيقة البسيطة الذاهبة لكون المعارضة متباينة بقدر تبايُن الشعب المصري المتنوع. أما المعارضون فهم عاطفيون ويمارسون عنفًا لفظيًا ضد معسكر السيسي.
كل مجموعة تفرز الازدراء والكراهية بشكل وصل ببعض العائلات إلى التمزُّق. الملايين لا يزالون مقتنعين أن الجيش سيحميهم من حكم الإسلاميين، بينما ملايين أخرى ترفض السير على وقع رصاص الاتحادية.
عندما لا يعرف الناس ولا يحترمون الحوار المدني المتحضر، فما هو البديل؟ على الرغم من كونه سيناريو مخيف وبعيد، إلا أن غياب الحوار يقربنا من يوم يحارب فيه المصري مصريًا مثله.
هل من الوارد ألا يحدث كل هذا؟ أن يكون المصريون قد شهدوا من القمع ما يكفي لإخضاعهم وإسكاتهم، وأنهم قبلوا بكل هذا الفشل لعقود قادمة؟ قد يرد البعض: حدث هذا بالفعل تحت حكم مبارك لثلاثين عامًا.
لكن السيسي ليس مبارك، وهناك تراكم من الفشل يتخطى بكثير ما كان في عهد مبارك، ويهيئ لانفجار قد يزلزل بلد الفقراء والجوعى والمتعبين.