قال لي صديقي قبل أيام إنه يبكي كثيرًا منذ بداية المذبحة ضد الفلسطينيين في غزة. أخبرته أن هذا أمر طبيعي وإيجابي، فلم يتفق معي. كان قلقًا على حاله، ولِيَضع هذا القلق في حجمه، ذكر أنه كاد يبكي بسبب جملة عابرة قلتُها قبل دقائق ونحن نتحدث عن فلسطين، وأنَّ البكاء يتعبه جسديًا.
لا أعرف ما هو الطبيعي أو الإيجابي في فعل البكاء والتأثر الانفعالي السريع، أن تتدفق دموعك في ثوانٍ قليلة تجاه مشهد أو عبارة أو صوت أو مجرد صورة ثابتة. أن تحكي ما شاهدته في الأخبار لشخص آخر، فتتدفق دموعه فيما تحكي أنت بلهجة تقريرية خالية من أيِّ نغمات عاطفية أو انفعالية.
دُهش هذا الصديق الذي بكى حين أخبرته أنني ممتنع عن مشاهدة أيِّ فيديوهات أو صور آتية من غزة، أتجنبها، أمر عليها سريعًا دون تأمل إن صادفتني. منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) أكتفي بالأخبار المكتوبة، أخون مهنتي المرتبطة أساسًا بالصوت والصورة، لكن مجرد السطور المكتوبة بصياغات إخبارية ولغة باردة تبكيني.
الدخول في بالون الاختفاء
خرجت صديقة فلسطينية/ مصرية من غزة بعد أن عاشت أكثر من خمسة وأربعين يومًا من المذبحة، اتصلت بي تليفونيًا، وقالت "كنت بسأل نفسي وينكم؟".
يبدو أنَّ سؤال "وينَّا؟" كان معتادًا ومتكررًا بين الفلسطينيين في غزة، يسألون عنَّا إن غبنا عن السؤال عنهم بشكل شخصي ومباشر. لكنها أسئلة تتردد داخل عقولهم، ويمنعهم كبرياؤهم من تكرارها بصوتٍ عالٍ يسمعه من يحيطون بهم.
تجنُّب السؤال الشخصي بالون حماية لذواتنا كمشاهدين من مواجهة التفاصيل المرعبة وهي تحدث لمن نعرفهم
كان صوت صديقتي ضاحكًا على الجانب الآخر من التليفون وهي تحدثني من العريش، تسخر من ملابسها وهيئتها وقت مرورها من معبر رفح نحو مصر. لكنَّ هذا الضحك وتلك السخرية أربكاني، أشعراني بالذنب، فحاولت تبرير هذا الغياب عن السؤال الشخصي.
اكتشفت خلال حديثنا وبعده أنَّ حالتي ليست استثنائية، نكتب من حين لآخر تعليقًا قصيرًا على صفحات أصدقائنا وأحبابنا من أهل غزة، نقول لهم: عقولنا وقلوبنا معكم. لكننا نخجل في الوقت نفسه من السؤال الشخصي عنهم تحديدًا وعن بيوتهم وعائلاتهم. فحتى السؤال الشخصي عمن نحبهم بدأنا نراه سؤالًا أنانيًا يتجاهل بقية ضحايا المذبحة، الذين سقطوا والذين سيسقطون، ولا نعرفهم شخصيًا.
قد يكون هذا الامتناع عن السؤال الشخصي حيلة نؤكد بها لأنفسنا أنَّ ما يخصنا أكثر من ذلك بكثير، تخصنا كلُّ الشوارع والبيوت والمستشفيات التي دمرت، وكلُّ هؤلاء الذين قتلتهم أو أصابت أجسادهم آلة القتل الإسرائيلية الأمريكية. ورغم أنهم يَخصُّوننا، فإننا خلال هذه المذبحة تحديدًا حرصنا على ألَّا ننسى، ولو لحظة واحدة، الفرق بين حالنا وحالهم؛ هم داخل جحيم المجزرة، ونحن نشاهدها من الخارج.
قالت صديقتي إن مجرد السؤال الشخصي، حتى وإن أُجيب عنه بجملة مقتضبة، يشعرهم بأنهم أحياء وحاضرون كأفراد، ذوات غير منسيَّة، أشخاص نعرف وجوههم ونغمات أصواتهم وضحكاتهم، لا مجرد جزء من شعب يتعرض لعملية إبادة ممنهجة.
طالت مكالمتنا، ضحكنا خلالها، أخبرتها في نهايتها أنني أخجل من السؤال عن أهلها وأصدقائها وبيتها، فهو سؤال أناني بدوره. لكنني بعد المكالمة، وحين أرسلت لي صورة المبنى العالي الذي كانت تسكن به أمام بحر غزة، بكيت بتلقائية، وكفعلٍ يومي معتاد ومكثف خلال الأسابيع الأخيرة، بينما أرى هذا البرج السكني وكأن وحشًا عملاقًا قضم نصفه بأسنانه، وترك نصفه الآخر. وهو ما نبهني للاحتمال العكسي، أن يكون تجنب السؤال الشخصي بالون حماية لذواتنا مشاهدين، من أن نُوَاجَه بالتفاصيل المرعبة وهي تحدث لمن نعرفهم شخصيًا ونحبهم.
البقاء في بالون ضَعف السمع
أصبت قبل أسابيع قليلة بالتهاب في أذني اليسرى، نتج عنه فقداني الجزء الأكبر من طبلة الأذن. أسمع قليلًا، أكرر مثل العجائز طلبي لمن يحدّثني أن يرفع صوته. أشعر بأنني داخل بالون كبير بحجم الجسد، بالون شفاف، مصنوع من الزجاج أو البلاستيك، يفصلني بدرجةٍ ما عن العالم، ويبتر بعضًا من قدراتي الموضوعية على التعامل مع العالم.
ما علاقة هذا بغزة؟! وما علاقة هذا بآلاف الأطفال الذين قُتلوا؟! أو بالكثيرين الذين لا نعرفهم، لكنهم موجودون بالطبع، ممن فقدوا قدرتهم السمعية بتأثير أمطار القنابل والصواريخ الساقطة فوقهم؟! لا أعلم، لكني أرى غزة من داخل هذ البالون، الذي رغم ما يسببه من ضيق، يحمي بعض الشيء، وأستخدمه، وإن لم أدرك ذلك. فأمام صديقة أخرى لا تتوقف عن حكي كل التفاصيل التي تقرأ عنها أو تشاهدها في غزة، بانفعال وكأنها تحرض جمهورًا موجودًا أمامها على الفعل، أعود بظهري للوراء لأقلل مما أسمعه.
لكنَّ أهل غزة ممن فقدوا قدراتهم السمعية تمامًا، لا يعيشون داخل بالونات شبيهة، فالدم الغزير الحاضر في كلِّ دقيقة لا يسمح برفاهية الدخول لأي بالون للحماية. والحواس الأخرى تعمل بكفاءة أمام الموت، فلا يمكن لأحد منهم أن يتجنب رؤية الأجساد المقتولة، أو أن يتجنب رائحة اللحم البشري المحروق.
أكد لي صديقي الذي لا يتوقف عن البكاء، والذي لم يقتنع بعد بأن البكاء صحي وإيجابي، أنَّ طموحه الأكبر حاليًا أن يعود إحساسه بالحياة وتفاصيلها اليومية مثلما كانت قبل السابع من أكتوبر. لكنه بالرغم من ذلك واعٍ بما هو جديد؛ أننا من ضمن ملايين كثيرة خارج غزة، حتى وإن تجنبنا الصورة، وتجنبنا الرائحة، لا نحاول تجنب إحساس مؤرق بالذنب لأننا مجرد متفرجين على مذبحة، عاجزين حيالها، نخاف أن نحتج أو نصرخ، لمعرفتنا بمدى بطش أنظمتنا وأجهزتنا الأمنية. نعلم جيدًا أنَّ مصير الفلسطينيين ليس وحده على المحك، بل مصير منطقتنا بأكمله، وأنَّ مصيرنا جميعًا يُصاغ في غزة، وأنَّ هناك لحظة قادمة، لا نعلم توقيتها، سنشارك عندها في صناعة هذا المصير.
الخروج إلى بالون الحقيقة
للصورة سطوة حتى وإن كانت مزيفة. ولمجرد أنها صورة ثابتة أو جزء من مشهد من صور عديدة، فإنَّ لها مصداقية الحقيقة كونها سُجلت عبر هذا الاختراع المذهل: الكاميرا. الإسرائيليون واعون بذلك، حريصون على أن يرى العالم كله قدرتهم الفائقة على القتل والتدمير، عبر مشاهد تمجدهم وتخلدهم باعتبارهم آلة قتل حديثة تجسد أبشع ما أبدع العقل البشري. وحماس واعية للشيء نفسه، أن نرى صورتها باعتبارها المقاومة الفلسطينية الوحيدة.
نفشل في رؤية المذبحة الحالية في ميزان المذابح السابقة فندرك أنَّ ظل ذلك الوحش المهول سيلتهمنا إن لم "نفعل"
لا أتذكَّر من هو السينمائي الأوروبي الذي قال جملة تبدو حكيمة لكنها ساذجة؛ "العقل يسجل الخيال.. والكاميرا تسجل الحقيقة".
لا وجود لخط فاصل بين الحقيقة والخيال، فكلُّ صورة تحمل خيال صانعها وموقفه. والأهم هو معرفتنا بأنَّ الصورة ليست الحقيقة المطلقة، وأنَّ الكلمات أكثر خطورة أحيانًا، حين تكون مُحفزةً قصوى للخيال؛ أن يحكوا لك مشهدًا من المذبحة فتتخيله، وأن يسبب ألمًا أكبر مما لو كنت رأيته في نشرة الأخبار.
أن يحكوا لك مثلًا عن هذا الرجل الذي احتضن بقايا طفلته الشهيدة باكيًا، أنت لم ترَ صورته، فتتخيل صورة دقيقة تحتل فيها مكانه، أن ترى نفسك حاملًا لبقايا ابنتك، حتى وإن لم يكن لديك أبناء. فترتعب من هذا الخيال المفرط في واقعيته.
كلاهما، الصورة والكلمة، لا يجعلان المشاهد/ المتلقي بالضرورة مشاركًا أو متماهيًا مع أبطال المشهد المرئي أو المحكي أو المقروء. لكننا هذه المرة، ورغم البكاء، ورغم كل أنواع البالونات التي نصنعها حولنا، ورغم أننا نبدو متفرجين غير مشاركين أو فاعلين، فإننا فاعلون بعض الشيء تجاه صدمة اكتشافنا أن جزءًا كبيرًا من العالم لا يرانا من الأساس، وأن دمنا لا يعنيه، وكأننا لسنا بشرًا.
يمتد الكابوس فوقنا، يجثم على أنفاسنا كظل آلة القتل الإسرائيلية الأمريكية، نشعر بوجودها كوحش بحجم هائل، لا نعلم كيف نبعده عنَّا، وكلٌّ بمفرده يحاول استرجاع كابوس سابق من ماضيه ليضعه في ميزان الكابوس الحالي.
نستدعي حصار بيروت 1982، وحربي تدمير العراق 1991 و2003، ومذابح غزاوية سابقة. لكننا نفشل في المقارنة، نفشل في رؤية المذبحة الحالية في ميزان المذابح السابقة، فندرك وجود هذا الظل لذلك الوحش المهول، الذي سيلتهمنا إن لم "نفعل".
نعلم جيدًا أنَّ ألمنا شديد التفاهة بالمقارنة بألم الفلسطينيين داخل وخارج غزة، وأنَّ رائحة الموت التي تصلنا تصل مخففة، وأنَّ البكاء صحي وإيجابي، لكنه مجرد محطة، نقطة، لا تقود بالضرورة للفعل أو اللا فعل. لكنَّ الوحش المهول الذي يُدمِّر غزة، ويبعث برسائل التهديد لكل شعوب المنطقة بأنه قادر على إبادتها، يُحوِّلنا دون أن يعي لجمهور مشاهدين قادرين على الفعل المستقبلي، فتلتمع عيوننا في بعض اللحظات فخرًا حين نراقب الشابات والشباب المبادرين بحملات المقاطعة، أو الناشطين في حملات الإغاثة، أو هؤلاء المراهقين الذين يدركون لأول مرة معنى أنَّ إسرائيل عدوهم، أو الآخرين الذين يقضون وقتهم في إنتاج مواد إعلامية بلغات مختلفة مضادة للكذب الإسرائيلي.
فهؤلاء نعم، يفعلون، ويقولون لنا إن زمن الفعل الأهم قادم، وإن لم نعرف توقيته.