تمتلئ مسلسلات رمضان هذا العام بضباط الشرطة الأقوياء النابهين، فهذا ضابط مباحث مخدرات وذاك ضابط حراسات خاصة وآخر مكافح للفساد، ولكن ليس هناك ضابط جيش واحد يلعب دور البطولة فيها. حتى مسلسل "واحة الغروب" الذي يثير موضوع هزيمة جيش عرابي أمام الاحتلال الإنجليزي ويستدعي مسألة خيانة الثورة، البطل فيه، سيادة المأمور، أيضًا ضابط شرطة وليس جيش. أما في مسلسل "الجماعة 2" فيظهر ضباط الجيش فيه كشخصيات ثانوية باهتة، في أدوار نمطية صماء.
يلعب ضباط الجيش أدوار البطولة المطلقة في مقررات المناهج الدراسية والأغاني الوطنية والأفلام الوثائقية للشؤون المعنوية، ولكن تتجاهلهم الدراما المصرية تمامًا ولا تجعل منهم نجومًا على شاشتها. وفي واقع الأمر، إن حادثة اختفاء ضابط الجيش من أدوار البطولة في المسلسلات والأفلام ليست بجديدة، ولكن لها تاريخ طويل شابُه الظهور لبرهة قصيرة ثم الاختفاء لفترات أطول خلال ستة عقود، حدثت فيها تحولات اقتصادية واجتماعية جذرية كان الجيش طرفًا أصيلًا فيها.
يستدعي ظهور شخصية ما كبطل درامي ثلاثة أمور: أن يكون هناك خيال مؤلف يجدها ثرية اجتماعيًا، ويتمتع هذا المؤلف بالحرية في بناء تلك الشخصية بشكل مُبدع غير نمطي، كحالة معقدة تجذب المشاهد لمتابعة أزماتها الحياتية وتقلباتها النفسية، وأخيرًا والأهم هو أن يجد أصحاب رؤوس الأموال وتحديدًا شركات الإنتاج الخاصة أن تمويل ظهورها أمر مربح يستحق النفقات الباهظة التي تصحب صناعة الدراما. طوال الستة عقود الماضية، كان تحقق تلك العوامل مجتمعة سويًا بشأن ضابط الجيش نادرًا، وتصادف حدوثه مرات محدودة حتى يومنا هذا. تلقي تلك المقالة لمحة وجيزة على وقائع ظهوره الخاطفة، وتحاول تأويل فترات الاختفاء المديدة.
في الخمسينيات بعد ثورة 1952، أنتجت شركات خاصة سلسلة أفلام كوميدية لإسماعيل ياسين في القوات المختلفة، وحققت منها أرباحًا كبيرة، ولكن كان البطل فيها مجند ومعه شاويش وبعض فتيات الشاشة والراقصات الجميلات، وليس ضباط جيش. ثم حدث أن ارتفعت شعبية النظام العسكري بشدة عقب تأميم قناة السويس في 1956، وبدت تلك لحظة تاريخية ملائمة لتحقيق مكسب من وراء شخصية ضابط الجيش. فكان أول ظهور قوي ومؤثر له في فيلم "رد قلبي"، الذي أنتجته شركة خاصة وهي "لوتس فيلم" المملوكة لآسيا عام 1957. صاغ الفيلم خيال مؤلف كان من الضباط الأحرار أنفسهم وهو يوسف السباعي، وخيال مخرج كان أيضًا ضابط جيش سابق وهو عز الدين ذو الفقار. أنفقت شركة الإنتاج بسخاء على صناعة فيلم بالألوان في زمن الأبيض وأسود وحشدت له عدد ضخم من الممثلين وديكورات القصور الفاخرة، لأنها توقعت أن تسترد ما تكلفته في شباك التذاكر. وبالفعل نجح الفيلم.
لا أحتاج أن أقص عليكم حبكة هذا الفيلم، فأنتم تحفظونها عن ظهر قلب. قام الفيلم بصك صورة نمطية ستظل معنا طويلًا عن ضابط الجيش، فهو يأتي من خلفية اجتماعية ريفية فقيرة اضطهدتها الطبقة الأرستقراطية، يتمتع بالمثالية والنبل الأخلاقي حتى عندما يقيم علاقة غير شرعية مع راقصة، حساس ومرهف المشاعر، مثال مجرد للوطنية والنضال. ومن اللافت للنظر أن الأب المؤسس لتلك الصورة النمطية، الضابط السابق السباعي، كان في واقع الأمر بعيد كل البعد عنها، فهو ابن الطبقة العليا القاهرية وكان عمه أبو زوجته باشا شغل منصب وزير قبيل الثورة، ومثله مخرج الفيلم ذو الفقار الذي انضم للكلية الحربية بفضل أصول عائلته القاهرية ميسورة الحال، التي كان الأب فيها ضابط شرطة.
بعد ثلاث سنوات سيقوم منتج خاص بمنح ضابط جيش للمرة الثانية، والأخيرة حتى الآن، دور البطولة في فيلم خيالي رومانسي عام 1960، وهو فيلم "نهر الحب" أيضًا للمخرج عز الدين ذو الفقار. لم يكن هذا الفيلم بأية حال عن الضباط الأحرار أو تغلُّبهم على أصولهم المتواضعة أو بطولاتهم، حيث تدور أحداثه قبل 1952، ويموت البطل في حرب 1948، بل كان الضابط فيه، ولعب دوره عمر الشريف، من أسرة أرستقراطية تحضر حفلات النخبة، وكانت محبوبته فاتن حمامة زوجة لباشا. والقصة على كل حال أجنبية بالأساس وليست من خيال كاتب مصري، حيث أن الفيلم مقتبس عن رواية ليو تولستوي الشهيرة "أنا كارينينا".
أممت الدولة جزءًا معتبرًا من صناعة السينما بعد التحول للاشتراكية في الستينيات، وربما كان من المتوقع أن تنفق الدولة بسخاء على إنتاج أفلام أبطالها ضباط، ولكن في واقع الأمر حدث العكس. لم تنفق شركات القطاع العام للسينما جنيهًا واحدًا على ذلك. لقد تحولت الأمور وصار هناك واقع سياسي-اجتماعي جديد، فضباط الجيش الآن هم النخبة الحاكمة، الطبقة الأرستقراطية الجديدة، احتلوا جميع المناصب العليا في الدولة، ومعظم المناصب العليا في إدارة مصانع وشركات القطاع العام المملوكة للدولة، ومناصب اللجنة العليا للحزب الأوحد الحاكم وهو الاتحاد الاشتراكي، الذي تحكم بدوره في انتخابات البرلمان وجميع النقابات العمالية والمهنية والجمعيات الزراعية، وحتى فرق كرة القدم والنوادي الرياضية كانت تحت نفوذهم.
لم يعد من الممكن إعادة تدوير الصورة الرائجة لضباط الجيش كفقراء مناضلين ضد القمع، ومحاولة خلق صور جديدة مطابقة للواقع لن ترضي السلطة التي كانت تفرض رقابتها على الجميع. فامتنع خيال المؤلفين عن الكتابة، ولم تجد الدولة نصًا تنتجه. لعب العمال والفلاحون ومهندسو القطاع العام والمرأة العاملة- أي أفراد تحالف قوى الشعب العامل في الميثاق الاشتراكي - أدوار البطولة في أفلام القطاع العام بدلًا من الضباط في ذلك الوقت.
ثم ستأتي دراما السبعينيات لتحاول هدم الصورة النقية التي صكها فيلم "رد قلبي". كتب فتحي غانم روايته الملحمية "زينب والعرش" عام 1972، ثم موّل تلفزيون الدولة إنتاجها كمسلسل عام 1979. جاءت نكسة 67 وانتحر أو قُتل بعدها وزير حربية الهزيمة عبد الحكيم عامر، ثم مات عبد الناصر فجأة محسورًا بعدها بثلاثة أعوام، وتجرّأ الكثير من الأدباء والمفكرين على نشر نقدهم لدولته الأمنية وكل مؤسساتها التي جثمت على أنفاسهم وراقبت الجميع في حياتهم اليومية، من أجهزة مخابرات والاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي.. إلخ. عمدوا إلى تقويض الصورة أحادية البعد للضابط النبيل وإنزالها للواقع المُعاش. تُفاجئنا "زينب والعرش" بشخصية ضابط متدين ومحافظ اجتماعيًا، عبد السلام دياب، أحد الضباط الأحرار الذي تم تعيينه رئيسًا لمجلس إدارة جريدة أممتها ثورة يوليو، وكان يؤمن أن مهمته الأولى هنا هي الوعظ الأخلاقي الصارم للعاملين في جريدته من صحفيين وعمال طباعة وإداريين ونهيهم عن فعل المنكر.
شن دياب حربًا ضد الفساد في الجريدة، ولكن الفساد كان بالنسبة له هو مخالفة تعاليم الإسلام من شرب الخمر أو مصادقة النساء، وقام بتصنيف عدد من الصحفيين على أنهم أعداء الثورة على أساس أخلاقي وليس أيديولوجي، في حين كان رؤساؤه من الضباط الأكثر عقلانية يحاولون ضبط سلوكه هذا قائلين له إنه لا يمكن إصدار جريدة فقط بالأخلاق الحميدة. لاحقًا قام دياب بتجنيد عدد من العاملين في الجريدة في التنظيم الطليعي السري ليقوموا بالتجسس على من حولهم وعلى بعضهم البعض. ثم تُفاجئنا الأحداث بأن دياب كان على علاقة في شبابه بعاهرة وتخلى عنها عندما حملت منه، فأنجبت منه ابنة غير شرعية، انتحرت الفتاة عندما كبرت دون أن يراها أو يعرفها أبوها.
يحاول غانم توضيح حقيقة طمستها الرواية الرسمية للدولة التي سَعَت لأن تبدو حديثة تقدمية، وهي أن الكثير من الضباط الأحرار كانوا مثل دياب، متدينين ومحافظين اجتماعيًا، لأنهم كانوا في النهاية أبناء الطبقة الوسطى المدينية أو الريفية المصرية والتي كانت تنزع للتدين والسلوك المحافظ، فلم تظهر زوجات الضباط الأحرار معهم وتم استبعاد النساء بوجه عام من لعب أي دور هام في النظام العسكري. دفع التدين العديد منهم للانضمام لجماعة الإخوان المسلمين أو التعاطف معها قبل الثورة. لم تختلف شخصية عبد الحكيم عامر في الواقع كثيرًا عن شخصية دياب في الخيال، فعامر الأرستقراطي الصعيدي تزوج ممثلة استعراضية درجة ثانية، كتبت في مذكراتها أن المشير كان لا يترك الصلاة ولم يحتسِ الخمر وكان يقرأ القرآن والكتب الإسلامية، وكان دائمًا ما يحضّ مَن حوله على مكارم الأخلاق، يضع في مكتبة لوحة كبيرة مكتوب عليها لفظ الجلالة، ويعترض على تعيين النساء في الوزارة.
ظهر في دراما الثمانينيات ضابط آخر من ضباط ثورة يوليو، وبالمثل لم يكن ظهوره على نحو طيب، وهو مصطفى رفعت في مسلسل "ليالي الحلمية"، والذي كان أيضًا من إنتاج التلفزيون المصري المملوك للدولة وأُذيع الجزء الأول منه عام 1987. قام المؤلف أسامة أنور عكاشة بحرية يٌحسد عليها بتطوير شخصية رفعت وتعقيدها عبر الأجزاء الخمسة للمسلسل. شارك رفعت في المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإنجليزي وكانت له علاقة بالضباط الأحرار، قام النظام العسكري بعد الثورة بتعيينه في منصب دبلوماسي في الخارج، ثم تزوج من فتاة من الطبقة العليا، وهي نجاة هانم ابنة رئيس القلم السياسي في العهد الملكي وأرملة طه السماحي زميله المدني في المقاومة الشعبية. وتم تتويج رحلة الصعود الطبقي لرفعت عند تطبيق القوانين الاشتراكية في الستينيات، حيث تم تعيينه رئيسًا لإحدى مؤسسات القطاع العام، وتبعها مجموعة مصانع كبرى منها مصنع سليم باشا البدري للنسيج الذي تم تأميمه. وجاء على لسان مدير هذا المصنع بالمسلسل أن رفعت ربما كان في يوم من الأيام بطل مقاومة وله الآن علاقات جيدة مع من هم فوق في السلطة، ولكنه لا يفقه شيئًا في إدارة الصناعة.
فقد رفعت وظيفته بعد نكسة 67، وتم استبعاده من دوائر السلطة بإرساله للخارج للعمل مرة أخرى كدبلوماسي. وفي باريس التقى بالراقصة حمدية التي تستغله لأجل أمواله، فتتركه زوجته أرملة الشهيد نجاة هانم بنت الذوات. وانتهى الأمر بمصطفى رفعت في آخر أجزاء المسلسل التي كتبها عكاشة عام 1995 كشخصية منبوذة اجتماعيًا ومفلسة ماليًا.
أفلام أكتوبر
نعود مرة أخرى للسبعينيات وتحديدًا للسينما، حيث شجعت حرب 73 شركات الإنتاج الخاصة على كسر تلك الموجة المحبطة لتمثيل الضباط، فقاموا بصناعة خمسة أفلام دفعة واحدة عنها، تم تمويلها كلها في الأعوام القليلة التي تلت الحرب. كان من ضمن المنتجين شركة ماري كوين العريقة، وعاد الضابط السابق يوسف السباعي كمؤلف لفيلمين منها. كان القطاع العام قد توقف عن الإنتاج السينمائي وقتها، وعاد رأس المال الخاص للشاشة مع قرارات الانفتاح الاقتصادي التي أصدرها السادات مباشرة عقب الحرب. وكانت لحظة تاريخية أخرى ملائمة ارتفعت فيها شعبية الجيش، فخاطرت شركات خاصة بتمويل أفلام تُبرز ضباطه متوقعة تحقيق مكاسب من ورائها، ولكي تضمن ذلك استغلت النجوم الشابة الصاعدة التي كان لاسمها رواج في شباك التذاكر في تلك الفترة، كنجلاء فتحي ومحمود ياسين ومحمود عبد العزيز وحسين فهمي وسمير صبري. ولكن من الملاحظ هنا أنه في فيلمين فقط منها كان ضباط الجيش هم الأبطال الرئيسيون، وفي البقية منها حصد المجندون الفقراء أدوار البطولة بدلًا عنهم، وحصل الضباط إما على أدوار ثانوية مساندة للبطل، أو ظهروا ككومبارس صامت أو متكلم في مشاهد المعارك.
في أول عام بعد الحرب، عام 74، أنتجت الشركات الخاصة ثلاثة أفلام مرة واحدة وهي "الرصاصة لا تزال في جيبي" عن رواية لإحسان عبد القدوس، و"الوفاء العظيم" تأليف فيصل ندا، و"بدور" تأليف مخرجه نادر جلال. ثم في العام التالي تم إنتاج فيلم "حتى آخر العمر" ليوسف السباعي ونينا الرحباني، وفي النهاية انحسرت تلك الموجة من أفلام الحرب بظهور آخرها عام 78، فيلم"العمر لحظة" أيضًا ليوسف السباعي. في الفيلم الأول جعل إحسان عبد القدوس البطل مجندًا شابًا من قرية في الدلتا اسمه محمد، بل وقام عبد القدوس بانتهاز الفرصة وعَمد إلى نقد النظام الاشتراكي لعبد الناصر، عبر إبراز فساد رئيس الجمعية الزراعية في قرية البطل، وقيامه باغتصاب فاطمة ابنة عم محمد التي كان يحبها، فاختلط في الفيلم شرف الوطن بشرف الحبيبة، وكانت الرصاصة التي حملها محمد المُجند في جيبه أثناء النكسة وحرب النصر لأجل الثأر للاثنين، من النظام والعدو في آنٍ واحد.
أما فيلم "الوفاء العظيم" فهو بالأساس مجرد قصة رومانسية ساذجة حول التضحية لأجل الحب، ولكن يحدث أن البطلين من الرجال فيها ضابطان جيش. صفوت وعادل يتنافسان على حب فتاة جميلة يتيمة مات أهلها في الحرب في بورسعيد، وهي ولاء التي قلبها مع صفوت. يتزوجها عادل قبل أن يسافر للحرب، ثم في النهاية يضحي بها لأجل زميل كتيبته صفوت الذي فقد ساقه في المعركة، وبذلك تختلط التضحية لأجل الوطن بالتضحية لأجل الصديق والمحبوبة. أما في فيلم "بدور" كما تعرفون البطل هو عامل المجاري صابر، الذي يتم تجنيده ويذهب للحرب، وتنتظر عودته منها حبيبته بدور، النشالة السابقة والفتاة الفقيرة البريئة لاحقًا. وفي فيلم "العمر لحظة" كانت البطلة نعمت صحفية، ولعبت دورها ماجدة وهي منتجة الفيلم في الوقت ذاته، تكتب عن مجند بسيط مصاب بمستشفى، حين تتعرض لخيانة زوجية وتقع في غرام مقدم جيش مصاب بالمستشفي نفسها. في النهاية يموت الرجلان في الحرب تاركين خلفهما قلوب نساء محبّةٍ مكلومة، ولكن في حين لعب دور المجند ممثل صاعد وقتها، أحمد زكي، وعلق دوره في أذهان المشاهدين، أُسند دور الضابط لممثل مغمور، محمد خيري، الذي نسيه المُشاهد ولم يحصل على أية أدوار بطولة من بعد دوره هذا.
عَقِب تلك الجرعة المكثفة من أفلام الحرب، جاءت الثمانينيات واختفى ضباط الجيش من السينما مجددًا. كان هذا عِقد ما بعد توقيع اتفاقية السلام وانتهاء الحروب مع اسرائيل، وسافر الكثير من المواطنين للعمل في دول الخليج وجاءوا منها بالنقود ونزعات جديدة للاستهلاك في سوق ما بعد الانفتاح. ظهرت عندها أنواع جديدة مختلفة تمامًا من أفلام السينما العادية، ثم أفلام الفيديو لأجل التسلية السريعة والجالبة للربح الوفير، ولم يكن لضباط الجيش مكان فيهما. أفلام نادية الجندي ونبيلة عبيد وعادل إمام وغيرهم، يقدمون قصصًا مثيرة لاهتمام الشعب، الذي كان قد تعب من الحروب ومشاهد القتال، ومنكب على عيش حياته المُستهلِكة بنَهَم، بعد انقشاع سياسات التقشف التي فرضتها عليه سنوات الاشتراكية والهزيمة معًا.
ومرت أكثر من عشر سنوات على هذا الحال، حتى اضطر تليفزيون الدولة بنفسه ولأول مرة لإنتاج فيلم جعل من أبطاله ضباط جيش، وهو "الطريق إلى إيلات" عام 1993. ربما ارتبط أمر هذا الفيلم بالعودة المفاجئة للجيش للمشهد السياسي في حرب الخليج عام 1991، وصعود نجم وزير دفاع جديد له، المشير طنطاوي الذي تولى منصبه في العام نفسه. وتلا ذلك إنتاج التلفزيون لفيلم "ناصر 56" عام 1996. ثم عاود التلفزيون المصري الكرّة مجددًا عام 1999 عندما أنتج فيلم "حائط البطولات"، وكان عن دور قوات الدفاع الجوي في حرب الاستنزاف وأكتوبر، وتمت كتابة السيناريو الخاص به تحت إشراف قائد قوات الدفاع الجوي ولواءات خدموا فيها. حاول هذا الفيلم استخدام نجوم شباك السبعينيات والثمانينيات الذين صاروا الآن كهولًا أملًا في تحقيق نجاح، فابتُعث من مرقده محمود ياسين ومعه فاروق الفيشاوي وجُعلا من ضمن أبطاله، ولكن يُقال إن مبارك منع عرض الفيلم لأنه لم يركز على دور القوات الجوية التي قادها وقت الحرب. شارك التلفزيون في إنتاج فيلم "أيام السادات" عام 2001، ثم توقفت جهوده في عام 2004، بعدما أنتج فيلم اسمه "يوم الكرامة"، لعب دور البطولة فيه أحمد عز، وهو فيلم لم يره أو حتى سمع به أحد. جدير بالذكر أن أيًا من تلك الأفلام لم يصادفه النجاح في شباك التذاكر، عدا "ناصر 56" الذي لاقى بعض الشعبية.
من كتاب الوزارة
طوال التسعينيات والألفينيات، تكرر بملل شديد ظهور عبد الناصر والسادات وعامر وغيرهم في المسلسلات التي اقتضت أحداثها في فترات زمنية معينة مرورهم بها، ظهروا في كل مرة بمكياج ثابت شبه موحد، يركز على أنف ناصر وسمرة وجه وصلعة رأس السادات، والنظارة السوداء لصلاح سالم.. إلخ. عاودوا الظهور مرات ومرات كشخوص صماء تردد جمل حوارية ميتة مستقطعة من المناهج الدراسية. طوال تلك الفترة، ظهر ضباط الجيش في الدراما كمحض شخصيات تاريخية أحادية البعد مُصمتة، تأتي من زمن آخر ووجوهها فاقدة للحياة.
ولكن في تلك الأثناء، حدثت تحولات جذرية في شخصية ضابط الجيش في الحياة الواقعية خارج نصوص التاريخ. ولدت أجيال جديدة من الضباط بَعُد بها العهد عن الحروب، في ظل التحول نحو الليبرالية الجديدة واقتصاد السوق، وانخرط الكثير من الضباط الجُدد في مشروعات اقتصادية مدنية جالبة للربح يمتلكها الجيش. أمام أعين المواطن المدني، لم تعد الصورة النمطية للضابط مرتبطة بمشاهد القتال في الأفلام القديمة، فهو يلتقيه على نحو يومي كمدير لقاعة أفراح فاخرة أو بنزينة أو سوبر ماركت. يشتري الضابط شقة وسيارة بالقسط كأي مواطن، ويظهر كجار من جيران المدني بأحد العمائر التي ابتنتها القوات المسلحة في مدينة نصر أو في الكومباوند الخاص بالتجمع الخامس أو 6 أكتوبر. لم يجرؤ أحد من كتاب الدراما على خلق شخصيات درامية لضباط الجيش الجُدد تطابق الواقع، فربما أثار ذلك من حفيظتهم، ولذلك تم الاكتفاء بالإدراج الروتيني للشخصيات التاريخية المعروفة والسالف ذكرها في العديد من المسلسلات، مثل مسلسل "أم كلثوم" من إنتاج التلفزيون عام 1999، أو "فارس الرومانسية" الذي حكى سيرة يوسف السباعي، وكان من إنتاج شركة صوت القاهرة المملوكة للدولة عام 2003.
في السنوات الأخيرة لم يعد تلفزيون الدولة، بميزانيته المحدودة، قادرًا على منافسة رأس المال الخاص في إنتاج الدراما الجاذبة، بعد أن صارت المسلسلات الرمضانية مجالًا للتسابق على الإنفاق الضخم لجني الأرباح الصارخة. ظل ضابط الجيش مختفيًا في الحقبة النيوليبرالية في صناعة الدراما لأسباب مفهومة. وحتى عندما أتت لحظة تاريخية أخرى تبدو ملائمة لأن يدفع به المنتج الرأسمالي كبطل درامي قد يجلب له بعض الربح، بعد أن قامت القوات المسلحة بـ"إنقاذ البلاد" من الإخوان عام 2013، للأسف لم يشجع هذا الحدث الأدباء على كتابة نص يستلهم بطولاتهم، أو منتج خاص ليقوم بتحويل مثل هذا النص إن وُجد لعمل مرئي.
أصاب هذا الأمر بالضيق بعض الكتاب في جريدة الأهرام المملوكة للدولة، حتى خصصت الجريدة في أكتوبر/تشرين الأول 2014 ملفًا كاملًا عن تلك المشكلة، يحتج كاتب الملف فيه على أن الدراما المصرية "تخاصم البطولات العسكرية" و"تغمض عينيها" عن جهود الجيش في مكافحة الإرهاب وفي مجالات الخدمة المدنية في الاقتصاد القومي، وهي جهود تصل لمرتبة "العبور الثاني" على حد تعبيره. وفي العام التالي دعا كاتب آخر في الجريدة نفسها إدارة الشؤون المعنوية للقوات المسلحة للدخول في معترك إنتاج الدراما، لسد تلك الفجوة وتغطية موضوعات مثل الحرب على الإرهاب في سيناء.
استجاب البعض للدعوة وتشجعوا على إنتاج القليل من المسلسلات التي عاود فيها ضباط الجيش للظهور بعد 30 يونيو، ولكن من اللافت للنظر أنه يظل ظهورًا محنطًا في الحقبة التاريخية المعتادة عينها، ثورة 52 وما حولها، ويجتر الشخوص القديمة ذاتها، ناصر وزملائه، ويعيد في جُمَلِه الحوارية مقررات المدارس التي يحفظها المشاهد بمَللٍ عن ظهر قلب. حتى الآن وفي موسمنا الرمضاني هذا، لم يظهر ضابط جيش عادي، معاصر من حياتنا اليومية الحاضرة وليس قادمًا من تاريخ بعيد، واحدٌ كبطل.
حدث هذا في مسلسل "صديق العمر"، من إنتاج شركة خاصة عام 2014، وتأليف المخضرم ممدوح الليثي، الذي شغل وظيفة الرقيب الرسمي ورئيس تليفزيون الدولة لسنوات. لا مفاجآت في هذا المسلسل، فهو يدور حول عبد الناصر وعامر. ها هو عامر الذي يرتكب الأخطاء دون قصد أو سوء نية، وها هو صديقه الأقرب إليه ناصر حائر دائمًا في التعامل معه، حتى ينتهي الأمر بالجميع إلى كارثة النكسة. ربما يكون الشيء الوحيد الذي أضافه المسلسل وكسر به الملل القاتل في أحاديث الممثلين هو تغطيته لفترة الوحدة مع سوريا، فبطل العمل الذي لعب دور عبد الناصر هو السوري جمال سليمان، ويبدو أن ذلك كان حافزًا لصناع العمل للاستفاضة في أخطاء عامر أثناء تعيينه حاكمًا لإقليم سوريا وإدارته الأمنية له وقت إقامته بدمشق، ثم الانقلاب العسكري الذي قام به ضباط سوريون ضده وهو هناك، وخروجه المُهين منها وعودته لمصر.
في مسلسل "حارة اليهود"، تأليف مدحت العدل وإنتاج العدل جروب عام 2015، كان البطل ضابط جيش اسمه بالمصادفة علي، على اسم بطل "رد قلبي"، ولم يخرج عن الحقبة التاريخية ذاتها، حرب 48 وثورة 52 وعدوان 56. حاول المسلسل بمهارة وحنكة متميزتين وضع لمسة إبداع على الشخصية المتكررة، فلم يجعل البطل أحد الضباط الأحرار بل مجرد ضابط عادي، من أسرة قاهرية من الطبقة الوسطى تقطن حارة اليهود، ولم يكن أبوه مؤيدًا للثورة عندما سمع خبرها في الراديو وكان يفضل الاستقرار على العهد القديم، والأهم في الحبكة المبتكرة هنا أن الضابط يقع في حب جارته اليهودية ليلى، ولكن بسبب تصاعد العداء السياسي مع إسرائيل وخروج اليهود من مصر، تهاجر حبيبته على مركب مبحرة لفرنسا بعد عدوان 56، وتنتهي قصة الحب المستحيل بفراقٍ أبديٍّ مؤلم.
سمعنا أخبارًا أن المطرب محمد فؤاد كان يعمل على بطولة مسلسل لرمضان هذا العام تتشابه قصته بشكل ملفت مع أحداث "حارة اليهود". في المسلسل التاريخي"الضاهر"، من تأليف وإنتاج تامر عبد المنعم، يقوم فؤاد بالظهور كضابط يعيش في حي الضاهر في الفترة الناصرية، ويقع في حب فتاة يهودية مصرية من أهل الحي، كانت قد اضطرت للهجرة لفرنسا قبل أن تعود وتلتقي بالضابط ذو السمعة الطيبة. لحسن أو سوء الحظ، تم تأجيل هذا المسلسل ولم يرَ النور.
لم يخرج مسلسل "الجماعة 2" عن المألوف، ولكنه أضاف عليه بعض المفاجآت. قام المؤلف وحيد حامد بتنحية كتاب الوزارة جانبًا، وقرر إظهار العلاقة الحميمة التي كانت موجودة بين الضباط الأحرار وجماعة الإخوان أثناء تخطيطهم لثورة يوليو، وإبراز حقيقة أن الكثير من الضباط كانوا أعضاء منتظمين بالإخوان أو متعاطفين أيديولوجيًا معهم. تم انتقاء ممثلين مغمورين باهتي الوجوه والأداء للعب أدوار الضباط الأحرار، وضعوا المكياج المعهود ذاته، ويتحدثون كأنهم ماكينات تقرأ مقاطع من موضوع تعبير في "تالتة إعدادي". يخططون "لانقلابهم" على الملك بسذاجة، حتى أن قائد التنظيم السري للإخوان يسأل عبد ناصر في قعدة ودّ: "وأنت ناوي تقوم بالانقلاب بتاعك امتى". يسعى عبد الناصر بحرص للحصول على مساعدة الإخوان، ولكن كلما وضعوا له شرطًا انبرى يخطب فيهم خطبة مثالية عصماء عن أولوية الوطنية والوطن، بنبرة صوت وحركة يد تملؤهما الحزم. انتهي المسلسل بأنه بدلًا من استبدال الصورة النمطية للضباط الأحرار بشخوص أكثر عمقًا، أضاف عليها أبعاد سطحية بلهاء جديدة بشأن علاقات سياسية معقدة.
إذن ما دون الشخصيات التاريخية المُتكرر ظهورها إلى حدِّ الملل، يظل ضابط الجيش العادي الذي يعيش معنا اليوم في المجتمع المعاصر مُتجاهَلًا في الدراما، عمدًا أو دون عمد. للدراما حسابات أخرى. حتى الآن، إما أن شخصية ضباط الجيش الجُدد لم تفلح في شحذ خيال المؤلفين، أو أن المؤلف لا يجرؤ على الاقتراب منها بحرية تضمن له تعقيدها اجتماعيًا ونفسيًا، أو كليهما. وبالمثل، لم يجد المنتجون في الشركات الخاصة من جعل ضابط جيش جديد بطلًا لمسلسل رمضاني أو فيلم أمرًا مربحًا، أو يخشون من تجسيده فتصيبهم يد الرقيب بالخسارة المالية، أو كليهما.