لا أحب مقولة "أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض"، لأن أغلب من يحيلون إليها يستخلصون من حكمتها قصة الثيران التي تقاعست عن مواجهة الخطر معًا، وينسون أنَّ البعض يتصورون أنفسهم في موقع الأسد الذي يأكل الثيران بجميع ألوانها. يتماهون مع أسنان ملك الغابة المتجبر، تماهيًا دون أيِّ أساس ماديٍّ يدعمه، فانتازيا نرجسية لوهم مثير للشفقة، يسعى نحو أمان متخيل وتمكين مستحيل.
نعيش في أيام يحتمي الكثيرون منها بالبلادة، أو بالجربعة، التي سبق وعرفتها في كتابي "تاريخ العصامية والجربعة" باعتبارها تجليًا للاستهانة بسلامة واتساق المنطق الأخلاقي، على نحوٍ يحرم صاحبه من الدرجة المطلوبة من احترام النفس واحترام الآخر واحترام المعاني عمومًا، فتنحطُّ تفاعلاته مع الوجود إلى حدود تجعل الخوف بتجلياته المختلفة ملازمًا لكل العلاقات، "الخوف من" أو "الخوف على" كعنوانين رئيسيين حاكمين للاجتماع الإنساني المشترك، بنحوٍ يَجتثُّ كرامة الإنسان وينال من فضائل وجوده.
صيغة "الخوف من أو الخوف على" هذه، تُخيِّل للبعض إمكانية النجاة الفردية لنفوسٍ استعبدها التملك، وحين يتكثَّف بشدَّة، يُنتِج في بعض الأحيان أوهامًا وإحالات زائفة وذهانية، تذهب في بؤسها إلى انتحال مواقع مستحيلة في الماضي أو الحاضر؛ سيف كرار بيد فاتح عربي يسبي النساء والمغانم، رائد أعمال مستقبليٍّ حصل للتو على شهادة التنمية البشرية من مجموعة دجالين، امرأة قوية مستقلة تبحث عن ذكر ينفق على قوتها واستقلالها التام.
نجدهم بين هؤلاء الذين يتغنون بمجد أجدادهم الفراعنة ويتمنون في كل صباح العودة إلى زمنهم، متناسين أنَّ الملوك والكهنة وقادة الجيش وجُباة الضرائب كانوا أقلية مجهرية وسط فلاحين تعساء، متوسط أعمارهم لم يتجاوز أبدًا الثلاثين عامًا، ولكنَّ الواحد من هؤلاء لا يتصور نفسه في ماضي قدمائه أقلَّ من فرعون أو سيد إقطاعي!
استطراق الأواني
علمونا في مناهج العلوم للصف الأول الإعدادي نظرية الأواني المستطرقة. باختصار؛ يرتفع منسوب السائل في آوانٍ متوازية متصلة ببعضها بشكل متساوٍ، مهما اختلفت في سعتها وشكلها.
تطبيق عملي لنظرية الأواني المستطرقة
فُتن عقلي بهذه النظرية/القانون، حين قاربتها بعدد من الأمثال الشعبية مثل "الميَّة متجريش فِ العالي"، أو "اللي يتف لفوق تنزل على دماغه"، أعجبتني فيها جبريتها التي تحاصر كلَّ من ينكر المساواة واستحقاقاتها، باعتبارها عملًا غير طبيعي.
وعلى مستوى تطبيقاتها الاجتماعية، أرى في مقاومتها نهايةً أليمةً و عذابًا مقيمًا، يتحققان بانتصار قانونها انتصارًا عقابيًا يتساوى بعده الجميع. مساواة الضراء قبل السراء، لأن السيئة تعم كما علَّم جيشنا الباسل كلَّ من خدم في صفوفه.
لن أبدأ بما يحدث في فلسطين هذه الأيام، فهو تجلي النهايات. بل سأستهل بما هو يومي واعتيادي.
التعليم العام مثلًا في مصر، يتدنى مستواه عامًا تلو آخر حتى أصبح من الصعب على أبناء الطبقات الوسطى القادرة على دفع مصاريف تعليم خاص إلحاق أبنائها به. التعليم الأساسي العام حق مجاني في أعتى رأسماليات العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة، وتُقاس جودة التعليم في أي بلد بمستوى التعليم العام الحكومي.
وحدها مصر التي تتعالى الأصوات فيها بإلغائه، واعتباره سببًا من أسباب التدهور العام، ومع تسيّد هذا الخطاب اليميني الجربوعي، جرى التسامح مع انحطاط مستوى التعليم العام، وفي المقابل، أصبح القادر ماديًا فقط هو من يستطيع الوفاء باحتياجات أبنائه التعليمية.
ولأنَّ العمى يُفضي إلى عدم إدراك استطراق الأواني، أصبح هذا التعليم الخاص بدوره سيئًا ومتواضعًا بأيِّ معيار عالمي، ويوصف مستواه بـ"الجودة" فقط بالنظر إلى ما هو أكثر تدهورًا منه؛ التعليم العام. ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية الحالية، لم تعد الطبقات الوسطى الأكثر يسرًا قادرة هي الأخرى على الوفاء بمتطلبات هذا التعليم السيئ، فانتهى استطراق الأواني إلى تعميم السيئة وانتصار العقاب الجماعي، لتتشابه أبقار السوء على بعضها البعض.
التذاكي وإنكار الغالبية العظمى من الشعب وحقوقها، وتصور إمكانية النجاة الفردية أو الحصرية لفئات بعينها، سيُفضي في النهاية وبالتدريج إلى تساوي الرؤوس في الهاوية.
تذاكٍ آخر، حين يُدافع البعض بصياح وصراخ عن عدم أحقية نصف المجتمع من النساء بالمساواة أمام أيَّ رجل أيًا كان. أيظنون بعد ذلك أنهم سيصادفون عدلًا ومساواةً في حياتهم، أم أنَّهم، الرجال، سيوضعون بدورهم فوق بعضهم درجات، ليتشكل منهم هرم يتربع على قمته فرعون طاغية نصف إله.
صار العالم قرية صغيرة متخلفة على حواف الهمجية ولم يعد بإمكان أحد التطهر بادعاء عدم المعرفة
مع العناد الذي يورث الكفر، والأنانية إلى حدود الخنزرة، سيصبح حصاد التنكّر المتبجح لفضيلة المساواة مرارة في حلق الجميع، فالأنانية البرجوازية الجاثمة على خيال الطبقات الوسطى في مصر، ليست عملية ولا ذكية ولا حكيمة ولا بناءة، بل هي الغباء بعينه، وعبادة للتملك حتى لو تآكل إلى حدود الحضيض، لا يتبقى منه إلا "الخوف من أو الخوف على"، وبضعة أوهام تسابق أصحابها إلى مرافئ العته والبلاهة.
البلادة فالقنوط فالانحطاط
نرى أمامنا هذه الأيام إبادةً جماعيةً في فلسطين، لو كان حالنا غير الحال لكان الوضع مختلفًا. في فلسطين نرى النهاية، الموت المشهود أمام الكاميرات للأخ والجار، من العدو الذي نعرف تمام المعرفة أنه العدو، يُسيّرنا العجز والخوف وهاوية الإفلاس.
لقد استطرقت الأواني كعادتها ولكنَّ المياه تجف داخلها، نحصد ما زرعنا، شاهدنا الإبادة في سوريا وظننا أنها بعيدة، بررها البعض باسم الحفاظ على تماسك الدول، لتصبح بعدها الإبادات سُننًا عادية من سنن المنطقة. انخفضت كلفة الوجود السوري واليمني إلى الحضيض، وأصبح المصري يقايض أمنه برغيفه.
نعم نحن سوائل. لسنا بالصلابة التي يظن السادة المتحصنون في أملاكهم بها أنفسهم، الوضع سائل لأنَّ المياه اتَّصلت، نحيا في عالم إذا عطس فيه الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي ستنهار عملاتنا في اليوم التالي، تُوحِّده مخاطر الأوبئة، ويمر إنتاج السلع فيه بسلاسل عابرة للدول، لقد صار قرية صغيرة مفضوحة ومتخلفة على حواف الهمجية، ولم يعد بإمكان أحد التطهر من بربرية طرف، بادعاء البعد وعدم المعرفة.
هذا ليس مقالًا تحليليًا ولا استبصارًا سياسيًا، بل ألم وجداني يصاحب تفكير إنسان وهو يشاهد أغلب عناصر عالمه وقد استولى عليها "الخوف من أو الخوف على".