يصعد سُلم الطائرة بحيويته المعتادة. يبتسم للجميع. يحدثهم عن مدينة كارديف التي قرأ عنها كثيرًا. يواصل بلا ملل بث الحماس في لاعبيه للعودة بلقب دوري أبطال أوروبا. هذا ما بدا على جيانلويجي بوفون حارس يوفنتوس. يخاف دائمًا ألا يلعب دوره القيادي أو أن يتسرب تشاؤمه لأحد زملائه.
بعدما جلس الجميع في مقاعدهم أخذ يفكر من جديد. هل حظي سيئ فحسب، أم أنّ قدري أن أنال الإشادة والمواساة بعد هزيمتي المعتادة؟ لا أصدق أنني قد أحمل الكأس، لكنني لا أستطيع التخلي عن دوري كقائد للفريق. أحمل أحلام لاعبيه على كتفيّ.
استدعى بوفون خلال رحلة فريقه إلى كارديف لمواجهة ريال مدريد في نهائي دوري أبطال أوروبا، السبت الماضي، ذكريات مريرة بدأت قبل 14 عامًا.
السقوط والتعثر
في عام 2003، خاض بوفون نهائي دوري الأبطال للمرة الأولى. كان المنافس هو غريمه المحلي ميلان. انتهت المباراة بالتعادل السلبي وفاز ميلان بركلات الترجيح.
كان مُلاحَظًا قلق بوفون الشديد أثناء تسديد ركلات الترجيح لدرجة عدم قدرته على مشاهدة ركلات زملائه بالفريق. هل لم يكن واثقًا فيهم، أم أن تشاؤمه أصيل وليس محض صدفة؟
بعد ذلك اكتشفت أن بوفون يدير ظهره لركلات ترجيح فريقه دومًا، سواءً كان نهائي أو غيره. فعل ذلك مثلًا في نهائي كأس العالم 2006، وأمام انجلترا في ربع نهائي يورو 2012.
ابتعد حلم التتويج بدوري الأبطال عن بوفون بعد هبوط يوفنتوس للدرجة الثانية وتجريده من لقب الدوري موسمي (2004-2005) و (2005-2006) بسبب أزمة الكالشيو بولي الشهيرة.
تلقى الحارس المتوج بالمونديال عروضًا مغرية لكنّه استمر مع الفريق. رفض ترك "السيدة العجوز" في محنتها. عاطفته تحسم الأمور سريعًا في هذه اللحظات. الفوز بكأس العالم كان دافعًا كبيرًا لبداية جديدة مع اليوفي من الدرجة الأدنى Serie B.
كان يعتبر الانتصار في نهائي برلين أمام فرنسا ردًا للاعتبار له وللاعبي فريقه بعد أزمة الكالشيو بولي، أو ربما وجد في لعبه بالدرجة الثانية، وهو عائد من ألمانيا بلقب أفضل حارس بالعالم، اعتراضًا مناسبًا على قرار هبوط اليوفي.
عاد الفريق للدرجة الأولى مجددًا لكنه ما زال بعيدًا عن المنافسة. يمر موسم تلو الآخر وبوفون يحرس عرينه منتظرًا العودة لمنصات التتويج مرةأخرى؛ حتى جاء أنطونيو كونتي وأشعل ثورة بالفريق في 2011.
قاد كونتي يوفنتوس للعودة تدريجيًا لمكانته كأحد كبار أوروبا. اعتمد على بوفون كحجر الزاوية في تشكيل الفريق لما يملكه من قدرة على تحفيز زملائه وإلهامهم. وهو الدور الذي برع فيه بوفون ووضعه في مكانة مميزة متجاوزة للانحيازات الضيقة المعتادة بين جماهير كرة القدم.
في 2012، حصد بوفون رفقة اليوفي وكونتي وديل بييرو الدوري الأول بعد سنوات التيه. كانت سعادته غامرة. لقد عاصر أمجاد السيدة العجوز وسقوطها، وها هو يقودها لتتسيّد ايطاليا من جديد.
في العام ذاته خسر بوفون رفقة الأزوري نهائي أمم أوروبا 2012 أمام إسبانيا بنتيجة مُذلة (4-0). وكأن القدر أزعجه انتصار بوفون المحلي.
أرجع جيجي خسارة لقب اليورو لصغر أعمار لاعبي الفريق الايطالي وقلة خبرتهم، أشاد بأدائهم في البطولة. اتخذ بوفون لنفسه دور القائد الحكيم الذي يتجاوز أحزانه لصالح الآخرين دون أن يشعر.
بعدها عاد اليوفي لدوري الأبطال. عاد ليُضفي على الحداثة الكروية شيئًا من "جنة كرة القدم" التي أنهاها -للمفارقة- الإيطاليون أنفسهم. عاد بمحاولات غير مكتملة لكونتي، مع سحر بوفون وتحوله من لاعب كبير إلى مرجعية حقيقية في مركزه وفي قيادته المُلهمة للاعبيه داخل الملعب وخارجه.
الحلم يقترب
لاح حلم دوري الابطال مرة أخرى بعد 12 عامًا من الانتظار. استبشر محبو اليوفي خيرًا باحتضان الملعب الأولمبي ببرلين لنهائي الأبطال أمام برشلونة، فهو الملعب الذي شهد اللحظات التاريخية لفوز بلادهم بكأس العالم في 2006. وحده بوفون لم يكن متفائلا مثلهم. كان متشائمًا أو واقعيًا ليلة نهائي برلين عام 2015.
قال في المؤتمر الصحفي: "من الصعب جدًا هزيمة برشلونة غدًا، فهم يملكون ثلاثيًا مدمرًا (ميسي، سواريز، نيمار) بالإضافة لإنييستا".
سألت نفسي وقتها.. هل يبدو بوفون مستسلمًا؟ أم أنه انجذب لدور البطل المهزوم؟
بدا عليه التوتر منذ بداية المباراة. يتحدث مع لاعبيه قليلًا عكس عادته. رأيت دموعه بعد الهدف الثاني لبرشلونة. رأيته يتخطى مخاوفه بتشجيع لاعبيه الخجول بعد إنقاذه الخرافي لمرماه من تسديدة داني ألفيش. غالب بوفون دموعه بعد المباراة، وذهب لبيرلو يواسيه ويواسي نفسه.
خَسر بوفون التتويج بدوري الابطال لثاني مرة. وخسر اليوفي النهائي السادس لكن الأمر لن يستمر طويلاً هذه المرة.
احتاج بوفون عامين فقط ليعود بعدهما للنهائي. الجميع يتحدث عن بوفون ويتمنى له رفع الكأس ذات الأذنين في نهاية مسيرته، حتى مشجعي ريال مدريد أبدوا احترامهم وتقديرهم لمسيرة بوفون الحافلة.
لم أفكر كثيرًا في حسابات المباراة الفنية والتكتيكية. لم أفكر في أليجري وزيدان. فقط كنت قلقًا على بوفون. تمنيت لو لم تأتِ المباراة لإنني كنت متوقعًا هزيمته، لكنني لم أتوقع كل هذه القسوة. لم يكن الريال وحده قاسيًا على جيجي لكن مدربه أيضًا المسمى أليجري. كان مدرب اليوفي أصغر من فريقه، وأصغر من بوفون وأحلامه.
مجددًا لعب بوفون دور القائد. ذهب ليواسي زملاءه. كنت أنتظر انهماره في البكاء ثم اختفائه سريعًا وظهوره مجددًا في مراسم تكريم صاحب المركز الثاني لكنّه بقي على أرض الملعب. وقف مصدومًا متحسرًا يطالع الجماهير التي تهتف له وترفع لافتات اليوڤي معلنةً وفاءها الأبدي للسيدة العجوز.
صرح بوفون قبل نهائي كارديف بشهر قائلًا "كل مباراة أحاول جاهدًا إظهار أحقيتي في الاستمرار والتألق رغم التقدم في السن، أريد أن يشعر الجمهور بالحزن عند اعتزالي".
ربما كانت الإحباطات دافعًا للأمل وعدم الاستسلام، هذا ما تعلمته من بوفون. ربما لو تُوّج بوفون بطلًا للشامبيونز ليج في 2003 لكنا خسرنا طول وكِبر مسيرته الحافلة الممتدة منذ النصف الثاني من التسعينيّات.
ساهم الحزن والانتظار في قوة عاطفة بوفون ونبلها تجاه فريقه وجمهوره. ما جعل منه بطلًا تراجيديًا استثنائيًا.
ربما احتاج بوفون للهزيمة كي يكتمل نضجه. وربما أراد له القدر أن تكون أسطورته في كونه بطلًا مهزومًا مرفوع الرأس.
سلامٌ عليكَ يا بوفون