"20 نوفمبر /تشرين ثاني 2012 - أعلنت الشرطة مقتل المواطنة ر. س البالغة من العمر 29 سنة إثر طعنها في ساعة مبكرة من فجر اليوم في شارع فرعى في حي الماسيون في مدينة رام الله. ولا تزال التحقيقات جارية لكشف ملابسات الحادث. ولم تعلن الشرطة اعتقال أي مشتبه بهم“
بهذا الخبر يفتتح عبّاد يحيي الروائي الفلسطيني روايته "جريمة في رام الله" الصادرة عن منشورات المتوسط مطلع العام الحالي. والتي أثارت جدلاً كبيرًا في الأشهر الماضية.
من يقرأ عنوان الرواية ثم يقرأ هذه الافتتاحية يظن أننا أمام رواية بوليسية تقليدية لن تخرج أحداثها عن محاولة كشف غموض جريمة القتل؛ ولكنّ عباد يعرّج بالرواية إلى اقتحام وتفكيك نمط الحياة لدى شباب جيل مابعد الانتفاضة الثانية، طريقة تفكيرهم، أحلامهم، إحباطاتهم وتخبطاتهم مع الواقع الاجتماعي والسياسي المحيط بهم.
يسعى عبّاد لكسر الصورة النمطية المرسومة في الوعي الجمعي الفلسطينيّ عن السلطة السياسية التي وضعت نفسها فوق المساءلة بتوجيه نقدٍ مبطنٍ لها بين سطور الرواية.
الأبطال الثلاثة
رؤوف ونور ووسام هم أبطال الرواية. جمعت بينهم جريمة القتل. الأول والثاني يعملان في بارٍ حيث وقعت الجريمة. والثالث هو صديق الفتاة المقتولة.
يتوغل عبّاد عميقًا في حياة كل منهم. لم تكن جريمة القتل هي محور أحداث الرواية وإنما إشارة وترميز لمعاناة هؤلاء الشباب.
بالنسبة لرؤوف فإن الجريمة التي وقعت في مكان عمله تشابكت مع ذكرى حب يُحاول التعافي منها. أمّا نور، وهو مثليّ الجنس، فقد مثلت له امتهانًا لكرامته الإنسانية نتيجة تعذيبه في مركز الشرطة. فبعد أن عجز الأمن عن إلقاء القبض على مرتكب الجريمة قُبض على نور بسبب ميوله الجنسية. يقولُ: "لم أكن متهماً في جريمة قتل، بل أكثر الجرائم شيوعاً، محاولة أن أكون أنا".
أما وسام فقد كانت الجريمة بمثابة محاولة التمرد في وجه التقاليد والقيود المجتمعية، ومحاولة خلق مساحة من الحرية والعيش مع صديقته بطريقة غير مألوفة في محيطه الاجتماعي المحافظ.
مسارات متباينة
تتضمن الرواية العديد من الإسقاطات الرمزية التي تبدو مقصودة من الكاتب؛ في مقدمتها نفاد الخيارات المتاحة أمام جيل عايش الكثير من الانكسارات والهزائم بعد الانتفاضة الثانية نتج عنه انحرافات في مسارات حياة أبطال الرواية.
فنجد رؤوف الشاب الجامعي تبدل حاله. فبعد أن كان يعيش حياة اعتيادية كأي شاب في عمره باتت كل أيامه مليئة بالقلق والاضطراب. تحوّل حاله بعد تعلقه بفتاة التقاها صدفة بشكل عابر وعجز عن البوح لها بمشاعره. أهمل في دراسته وعمل بعد ذلك موظف جمع بيانات في أحد مراكز استطلاع الرأي نهارًا إلي جانب العمل في أحد البارات ليلًا.
أتاح له العمل في البار اكتشاف عالم آخر. سَمِع عنه كثيرًا لكنه لم يره من قبل. سَمِع أنه ملجأ لذوي النفوس الخبيثة لكنّه قابل هناك أشخاصًا من معادن نادرة ونفوسًا صافية لم يتعامل مع مثيل لها من قبل. في الوفت نفسه، ورغم عمله ليل نهار كان طيف تلك الفتاة يحوم حوله كلما اعتزل المجتمع واختلى بنفسه في شقته المستأجرة.
أمّا نور فهو شاب جامعي مثليّ الجنس وهذه مشكلته الجوهرية. مظهره الأنثوي جعله عرضة للعنف الجسدي والجنسي. وهو ما تجلي عندما سخر من أحد الملصقات لياسر عرفات ما أثار حفيظة مجموعة من الشباب المنتمين لحركة فتح؛ فقاموا بالاعتداء عليه والسخرية منه. وهنا أراد الكاتب الإشارة للمصير الذي يلقاه كل من ينتقد الرموز السياسية.
حياه نور مرت بالعديد من التحولات. فالسكن مع رؤوف في منزل واحد وإقامة علاقة جنسية معه؛ ثم فقدانه وهجره له وعمله في البار الليلي، وما سببه له هذا الأمر من آلام نفسية ثم تعرضه للإهانات الجنسية والتحرش الجسدي داخل مركز الشرطة على خلفية جريمة القتل؛ كل هذا جعل حياته معرضة دائمًا للخطر مما اضطره للهرب والسفر في النهاية.. "أحياناً أشعر أن كل شيء آتيه هو رد فعل. أن أكتشف إن كنت أفعل ما أفعل لأنني أريد فعله أو أنني أفعل ما أفعل كرد فعل هذا سؤال حياتي".
البطل الثالث وسام. هذا الذي قُتلت حبيبته بعد خروجهما من البار الذي يعمل به نور وكان يعمل به رؤوف. لا يوجد شهود عيان على الجريمة. كانت ربا صديقته، القادمة من غزة، تعيش معه بعد رفضها الهجرة رفقة أهلها.
حزنُ وسام وصراخه وبكاؤه الهستيري على قتل ربا جاء بمثابة صرخة مدوية ترثي هذا الجيل. رثاء لنفاد الخيارات المتاحة أمامهم لعيش حياة طبيعية. "لم يتوقف الانتحاب، بل ازداد بُعداً، كأنه نداء قديم لم يفهمه البشر".
نقاط القوة
الرواية كتبت بلغة فلسفية ناضجة وبسيطة في الوقت ذاته، وإن شابها بعض الجفاء في البداية. كذلك طريقة السرد جميلة وبسيطة وإن كان هناك إطالة في بعض الأجزاء خاصة الجزء المتعلق بالطبيب النفسي.
البناء الروائي للشخصيات يوحي بمعرفة الكاتب بمختلف المجتمعات المتواجدة حوله. مجتمع المثليين، مجتمع المتدينين، مجتمع مرتادي البارات.
حديث عبّاد عن الجنس في هذه الرواية أضفى عليها جمالاً من نوع خاص. فالهدف من الجنس هنا لم يكن استثارة القراء ولكنه كان مربكًا إلى حد كبير. فهو قد يدفعك للتعاطف مع نور حين أحسّ بألم فقدان رؤوف وابتعاده عنه. وهذه الخسارة لم تكن جسدية فحسب بل إنسانية في المقام الأول. وقد أزالت عن نور رهبة جسده. هذا العبء الذي يحمله معه أينما ذهب.
العلاقة هنا لم تبدأ وتنتهي عند الجسد، بل أصبحت أسلوب حياة قائم على قبول الآخر. ملابسه، طعامه، طريقة كلامه وكذلك طريقة مِشيته.. كلها أشياء تغيرت في نور من أجل أن يشعر بإنسانيته في مجتمع يرفض الاعتراف به.
كذلك نوّع عباد في طريقه سرده للرواية. في الفصلين الاول والثاني كان الحديثُ على لسان رؤوف ونور وهو ما أتاح للشخصيتين التعبير عن أفكارهما ومشاعرهما المضطربة والتحولات التي شهدتها مسارات حياتهم.
في الفصل الثالث، الذي جاء الحديث فيه عن وسام البطل الثالث وعن جريمة القتل، لم يأتِ الحديث على لسان أحد من الشخصيات. أمسك الروائي الزمام هنا نظرًا لوجود شخصيات متباينة، وهو ما منح الكاتب الحرية في التعبير عن أفكاره وقناعاته.
النهايات المأساويةلأبطال الرواية تعبّر عن حجم الجرائم التي ترتكب في حق شباب هذا الجيل؛ فالجاني ليس شخصاً معينًا بل مجتمعًا بأكمله. بنخبه ومثقفيه وسلطته الحاكمة.
رؤوف الباحث عن وجوده انتهي الأمر به معتقلاً في سجون الاحتلال، ما يرمز إلى فشل السلطة الفلسطينية في جمع أبنائها تحت مشروع واضح المعالم لمقاومة العدو، أمّا نور الباحث عن حقه كمثليّ وسط المجتمع انتهي به الحال منفيًا خارج أرضه بعدما عجز الجميع عن حمايته، أمّا وسام فانتهت حياته بالانتحار بعد موت حبيبته وصعوبة العودة الي مجتمع رفض طريقة.
بعد طبع الرواية وإصدارها اتخذا النائب العام قرارًا "بسحبها ومنع طباعتها لخدشها لحياء المجتمع وتضمنها لألفاظ لا تليق بثقافة مجتمعنا" على حد قوله.
وجهت لعبّاد الذي أصدر من قبل ثلاث روايات (رام الله الشقراء – القسم 14 – هاتف عمومي) تهمة خدش الحياء، ذلك السيف الذي تضعه الأنظمة الحاكمة في بلداننا على رقاب المبدعين دائمًا.