بعد يوم شاق من العمل، يجتمع العمال وأصحاب الحرف البسيطة، في "صحبة مغنى". في دائرة الصُحبة تتغير الأدوار، قد يصبح النجار عازف عود، والحداد ناقر دف يضبط إيقاع الغناء المُرتَجَل الممتد حتى ساعات الصباح الأولى.
"الصهبجية" هو اسم أعضاء الحلقة، ينفضون عن أنفسهم شقاء اليوم بترديد الأغاني والموشحات الفصحى أو العامية، يرددون خلف صاحبهم عازف الإيقاع ما حفظوه، أو يرتجلون أغان جديدة، يربط ما بين أبياتها سطر يتكرر بعد أربع أبيات، تزيد أو تنقص، ويُعتَبَر هو عامود الأغنية.
أعلامها عُرِفوا بحرفهم، وعددهم المؤلف الموسيقي والمؤرخ الراحل كامل الخلعي في كتابه " الموسيقى الشرقي" ومنهم إبراهيم النجار، الحاج شحاتة الحلواني، محمد المغربي النقاش، والطرابيشي.
حلقات الصهبجية لا تندرج تحت أي تصنيف؛ فهي لم تكن جلسات للغناء المحترف، بل فن قائم على التسلية و"الصُحبة" التي جعلت البعض يرجح أن كلمة "صهبجية" التي عرف بها هذا الفن، ما هي إلا تحريف لفظ"صُحبجية".
في كتابه "أعلام الموسيقى والغناء العربي" يقول المؤرخ الموسيقي فكري بطرس، إن تطور الموسيقى والغناء الحديث في مصر مر بثلاث مراحل، امتد ظهورها من عام 1876 وحتى 1967.
أولى هذه المدارس وفقًا للمؤرخ نفسه هي مدرسة الصهبجية، التي يحدد ميلادها بالعام 1865، وتمتد حتى 1890. وتلتها المدرسة الوسطى، وبدأت بظهور عبده الحامولي وصولا إلى داوود حسني، ثم تأتي المدرسة الثالثة التي يتزعمها سيد درويش ثم تابع فنها زكريا أحمد.
لقرون طويلة ظل فن الموشح العربي الذي ولد على يد أبو الحسن بن نافع الذي عاش في القرن الثالث الهجري (التاسع الميلادي) وانتقل من الموصل بالعراق للأندلس، هو الفن الحاكم للغناء العربي. وظلت الموشحات التراثية تتوارث وتتناقلها الاجيال، حتى اقتبسها "أولاد البلد" وحفظوها ورددوها، ومع تنقلها؛ ألفها كثير من البسطاء الذين لم ينالوا حظًا من التعليم، ولم تكن لديهم معرفة بالقراءة والكتابة، فحرَّفوها لتتماشى مع غنائهم وموسيقاهم. فكانت السهرات تبدأ بالموشحات المحفوظة وتُرتجل بعدها المواويل. ومع الوقت؛ نظموا أغنياتهم الخاصة بكلمات بسيطة بعيدة عن الموشحات، لا تتقيد بوزن أو قافية.
جابو رواية من حدا الكسباني نغزل صمولي للطحال الضاني
ويطلعوا منها الفراخ كتله زي الجاموس يطرح بلح حياني
وكل بلحة فيها معمل طرشي وان خمّروها تطلع فول سوداني
كان سعد دبل أحد أهم رواد الصهبجية، وكانت الليلة التي يحييها – كما يصف فكري بطرس- من أجمل الليالي؛ حيث يتزاحم الناس من شتى البلاد العربية حول جوقته وتستمر السهرة إلى الصباح، واشتهر في عهد سعد دبل، محمد الربع والشيخ خليل محرم والسيد أحمد الخطاب الذي كان يعرف بإسم خطاب كبير الآلاتية.
في ذلك العهد كانت النساء يزاحمن الرجال في التخوت الموسيقية، لكنهن لم يخرجن عن قالبي الموشحات والأدوار، وظل فن الصهبجية حكرًا على الرجال. وظهرت المطربة "سلم" ولكن لم تلاقي شهرة واسعة، ثم اشتهرت المطربة"ساكنة"، التي استطاعت أن تحصل على لقب البكوية من شدة إعجاب السميعة الأتراك بها، وظلت ساكنة تتبوأ مقعدها على عرش الغناء حتى ظهرت المطربة ألمظ.
وكتب المؤرخ شارل ديدييه في كتابه ليالي القاهرة، عن أجواء الليالي التي تحيها ساكنة، بأن النساء في هذا العصر كن يغنين من وراء ستار من دواعي الحشمة والتقاليد، وكانت عندما تحضر"ساكنة بك" يطلق الرجال أعيرة النيران ترحيبا بها، ومن الأغاني التي ذكرها المؤرخ لها:
أبوك وأمك جابوك عشان عذاب قلبي
ليه يا ترى أبوك زار أمك
ليه أبوك وأمك خلفوك
ومن رحم "الغناء الرسمي" الذي يعتمد على الفنون المستقرة "الموشحات والأدوار" ولد واشتهر مطربين منهم الشيخ عثمان الناظر، الشيخ عثمان بدوخ ، الشيخ أحمد القباني، الشيخ محمد الشنتوري، ومحمد عثمان. وكانت من موشحات هذا العصر:
ليالي الوصل عندي عيد
وأوقات اللقا مغنم
وقربي من مليك الغيد
لأمراض الحشا مرهم
لكن الموشحات لم تبق على سيطرتها على الغناء العربي، فمع اقتراب القرن الجديد (العشرين)، كان هناك جيل جديد تتلمذ على يد الكبار، فعرف الأوزان وأتقن المقامات، وصار ينشر غناءه في المقاهي، وعُرف منهم الشيخ درويش الحريري، الذي تغنى بقصائد الفصحى والعامية . ومع استدعائه وأبناء جيله للغناء في الافراح الشعبية لتنتشر الألحان في الساحات الشعبية والمقاهي، وتلتفت آذان "ولاد البلد" إلى أن هناك أوزان نُظمت عليها تلك الموشحات.
يقول الموسيقار والمؤرخ محمد كامل الخلعي في كتابه "كتاب الموسيقى الشرقي" : "فلما تعلم بعض الشبان الموشحات على أوزانها منا وصاروا يغنون بها في أخريات الليل في حالة أنسهم ونشوتهم في تلك القهاوي — تنبه أصحابها إلى أن هناك أوزان منظومة عليها تلك الموشحات، وهي التي تحدث الطرب المطلوب البعيد عنهم، فأخذ بعضهم بطريق السرقة أو التودد بضعًا من هذه الأوزان. وفي مدة عشر سنوات انتشر أكثرها. هذا من جهة الأوزان، أما من جهة تنغيم تلك الموشحات فحدث عن الخطأ البين والتبديل والتغيير فيه ولا حرج، وهم معذورون في ذلك لأسباب، أولها لعدم استعداد أصواتهم لهذا الفن، ثانيًا لعدم أخذهم ممن يوثق بالأخذ عنه".
هنا يرد ذكر الصهبجية في الباب الرابع عشر من كتاب الخلعي. ويحمل ذاك الباب عنوانًا لافتًا: "التحذير من الأخذ عن قهاوي الحشيش المعروفين بالصهبجية". يقول الخلعي، إن غالبا ما كانت تنتهى تلك الأفراح التي يحيها حلقات الصهبجية بالعراك والشتائم، فتعتدي إحدى الفرق على الأخرى التي لاقت إستحسان الجمهور.
ورغم العداء -البادي من كتابات الخلعي- الذي ووجه به هذا الفن الغنائي، إلا أنه استمر وانتشر. وخرج من عصبه مدارس عدة في التلحين والغناء، منها مدرسة الشيخ المسلوب "عبدالرحيم مسلوب"، وهو من أشهر ملحنين القرن التاسع عشر، فابتكر ألحانًا جديدة أسلوبها يبتعد عن المألوف، كانت مستمده من فن الصهبجية. وبذل المسلوب جهدا كبيرا في إبعاد آذان وأذهان الشعب المصري عن الغناء التركي ومهد لمدرسة الفن المصري، المدرسة التي قادها تلميذه وصفيّه عبده الحامولي، والذي خرجت مدرسته بدورها كبار ملحني نهاية القرن التاسع عشر وفجر القرن العشرين: صالح عبدالحي وسيد درويش وسلامة حجازي وداوود حسني وغيرهم.
لم ينته فن الصهبجية إذن، بل مهد لظهور الموسيقى المصرية الحديثة، وكان هو المؤذن الحقيقي لخروج الغناء المصري من عباءة الموسيقى التركية وقوالبها وفنونها. واتخذ أشكالاً أخرى في محافظات شتى من مصر، كأغاني الضُمّة التي ظهرت في منطقة القناة إبان حفر قناة السويس، فكان عمال التراحيل والعمال الزراعيين في نهاية كل يوم يجتمعون للغناء، وفي كتاب" أغاني الضمة في بورسعيد"، وجد محمد شبانة الصلة بين أغاني الضمة ومدرسة الصهبجية. فهناك تشابه بين دور الضمة "هجرني حبيبي"، وبين موشح بالاسم نفسه لدرويش الحريري، وذلك أغاني ضمة عديدة أصل شبانة لجذورها في فن الموشح القديم في كتابه.
وهكذا أثرى الصهبجية فن الغناء العربي عندما أوجدوا فنهم الخاص، وَوُلِد أسلوب جديد من الغناء والتلحين عرف بمدرسة "الصهبجية"، التي ظلت في وجدان موسيقيين وشعراء الشعب وصولا لصلاح جاهين الذي كتب على إيقاعات شعرهم الغنائي أغنية شهيرة يعرفها كل من شاهد فيلم "الكيت كات".