تملكني الأرق في الليلة التي عدت فيها -بعد 3 شهور غياب- إلى منزل العائلة، لم استطع النوم، ممتلئ بالخوف من أن تأتي الحكومة "الشرطة"إلينا، كيف سأتصرف؟ هل سأختبئ تحت أحد السراير؟ و أخوتي، هل أتركهم إذا اختبأت، وبعدين الحكومة هتفتش تحت السرير!
في يوم 29 مارس/ أذار الماضي، مر عامان على غياب أخي صبري عن البيت. لم يغب صبري بحثًا عن فرصة عمل، أو للإعارة في دولة أخرى، هو ليس في نزهة على الشاطئ. صبري يقضي وقته الآن في سجن 992 طرة شديد الحراسة المعروف بـ"العقرب"، في أحد زنازين "وينج 2 اتش 2"
صبري عبد الله محمد صبري زين الدين، عمره الآن 28 عامًا، قضى منها عامين في السجن محبوسًا على ذمة القضية رقم 326، حصر أمن دولة عليا لسنة 2014، المسماة إعلاميًا بقضية "تأسيس تنظيم جند الله".
جرى ضم صبري للقضية في "مارس/ أذار 2015" ومدون في الأوراق الرسمية أن القبض عليه وقع في 15 أبريل/ نيسان من العام نفسه. بعد عام من بدء التحقيقات. ومن وقتها، يتجدد حبسه احتياطيًا كلما مر 45 يومًا. كل المتهمين في هذه القضية خرجوا بالفعل بعد انقضاء عامين على حبسهم احتياطيًا، إلا صبري.
يوم الأحد 16 إبريل، أكمل صبري عامين في السجن، وهي أقصى مدة للحبس الاحتياطي قانونيًا. اليوم، 18 إبريل/ نيسان، تَقَدَّم محامي صبري بمذكرة لنيابة أمن الدولة يطالب فيها بإخلاء سبيله وفقًا للقانون. و المنتظر - قانونًا- أن تطلب النيابة من سجن العقرب إخلاء سبيل صبري لانقضاء المدد القانونية القصوى للحبس احتياطيًا دون محاكمة.
ميراث ثقيل
بدأت الحكاية في عام 1988، اعتقلت الحكومة (الشرطة) الشاب حديث الزواج "عبدالله" لمدة 3 شهور ونصف. كانت زوجته وقتها على وشك أن تضع وليدها الأول "صبري". جاء صبري إلى الحياة وأبيه لا يزال قيد الاعتقال، ولم ير أباه إلا بعد شهرين من الميلاد.
أنجبت الأم أختنا الوحيدة، وبعدها بعامين وضعتني أنا. وفي أواخر عام 1992، وبعد الزلزال الشهير، جاءت "الحكومة" إلى بيتنا مرة أخرى لتعتقل الأب. هذه المرة طالت مدة الأعتقال لثلاث سنوات، رأت الأم فيها كل أشكال المعاناة بين رعاية ثلاثة أطفال أكبرهم لم يتم الأربع سنوات، وزيارة الأب في السجن وتوفير طلباته.
في عام 1996 عاد الأب الى المنزل محاولا توفير حياة مستقرة لبيته، فقد ازداد عدد الأسرة إلى 6 أفراد.
وفي إحدى الليالي، اعتقد أنها بعد بداية الألفية الجديدة بعام، كنا نجهز لعب السبوع و الحلوى استعدادا لسبوع بنت عمي. كان الوقت متأخرًا، الساعة حوالي 2 بعد منتصف الليل، فتحنا الباب لنجد رجال ضخام الجثة يرتدون جواكت جلدية سوداء ووراءهم عساكر مدججين بالسلاح. كنت طفلاً وشعرت برعب شديد، وإن لم أدرك معنى ما يحدث. عدوت على السلم نحو صوت صراخ أمي وهي تهتف بهم: "ما تاخدوهوش هو معملش حاجة! واخدينه فين؟" ليرد جاكت جلدي: "ما تخافيش، شوية إجراءات وهنرجعهلكم".
استغرقت الإجراءات 15 يومًا، عاد الأب بعدها للبيت في انتظار زيارة جديدة، لا ندري متى ستقع وإلى متى سيمتد أثرها.
ليالي طفولتي قضيتها مريضًا بالأرق والخوف، أترقب لحظة جديدة من فراق أبي
دور الابن
قامت الثورة في يناير 2011، وظنت الأسرة أن زيارات أمن الدولة ستتوقف، وجرؤ أفرادها على الحلم ببعض الهدوء والاستقرار. وإيثارًا للسلامة، لم يشارك أي من أفرادها في أحداث الثورة.
بعد الثورة لم تأت أمن الدولة إلى البيت مجددا، جاء الإخوان المسلمون، ولم تنته معاناة الأب الذي كان موقفه منهم كموقف باقي الشعب، يرى أنهم غير صالحين لتحمل مسؤولية دولة بحجم مصر، وأنهم فقط يسعون لتحقيق مصالحم الخاصة.
انتهى حكم الإخوان وتلاه الاستقطاب الدموي الذي سيطر على البلاد. أثرت تلك الأحداث بالسلب علي استقرار البيت غير المنحاز لأي تيار من التيارات المتصارعة على الساحة، لكن الضحية هذه المرة؛ كان الأخ الأكبر.. صبري.
صبري كان داخل على جواز، وفجأه يوم 29 مارس 2015 بعد منتصف الليل طرق أمن الدولة - الذي صار اسمه الأمن الوطني- الباب، سائلين عن الأب لـ"يطمئنوا عليه كعادتهم". بعد مشادة قصيرة قرر الضابط اصطحاب صبري معه. لم يكن الأب في شقتنا، كان نائما في شقة جدتي ليرعاها، علم الضباط ذلك فمروا عليه و أخذوه هو الآخر علي قسم الشرابية.
بعد يومين من الاحتجاز في قسم الشرابية، عُرض الأب والابن علي النيابة العامة التي قررت بتجديد حبس الأب وإخلاء سبيل صبري. قضت الأسرة ساعات أمام باب القسم في انتظار خروج صبري لكنه لم يخرج.
في الليلة نفسها جاء الأمن الوطني للبيت للسؤال عن صبري مدعين أنه خرج، وأنكروا تمامًا أن يكون في حوزة أية جهة تابعة لوزارة الداخلية. قدمت الأم بلاغ لرئيس نيابة الشرابية وللنائب العام لكن بلا فائدة، كان الرد أنه تم إخلاء سبيله
ظل صبري مختفيًا لأكثر من أسبوعين، لا نعرف له سبيلا، كنا نتبادل تخمين الاحتمالات أملا: ربما هرب بعد خروجه أو ربما يقضي ذلك الوقت مع بعض أصدقاء أو ربما مات.. احتمالات كثيرة فكرنا فيها، إلا احتمالية خطف صبري من داخل القسم واحتجازه بمكان آخر "ليه هيعملو كدة ما كان عندهم"، هكذا تقول الأم ببراءة. لكن هذه هي الحقيقة، علمنا عندما رن هاتف أمي برقم غريب وكان صبري على الطرف الآخر يخبرها أنه كان محتجزًا بمقر أمن الدولة في لاظوغلي، وأنه تعرض هناك لصنوف التعذيب قبل أن يوجه له اتهامٌ بالانضمام لجماعة إرهابية، وأن لديه جلسة تحقيق وبحاجة لمحام. كما أخبرها أنه جرى نقله إلى سجن العقرب عنبر الدواعي!!
لا نعرف الكثير عن صبري أو قضيته، زيارتنا له لا تتخطى 3- 10 دقائق فقط، نتحدث إليه عبر سماعة تليفون ويفصل بيننا وبينه حاجز زجاجي. نعرف أن القضية بلا أحراز ولا يوجد ما يثبت تأسيس تلك الجماعة التي يتحدثون عنها فضلاً عن وجود ما يثبت صلة أخي بها. بالتأكيد لم نطّلع علي أوراق القضية، فهذه طبيعة قضايا أمن الدولة سرية.