الاعتداء على الرموز والكتب الدينية أمر مرفوض، يقابل بالشجب والإدانة حتى في الدول التي تسمح قوانينها وثقافتها به. وهو ما حدث مؤخرًا عندما قرر لاجئ عراقي في السويد حرق نسخة من المصحف. فحملة الإدانات لم تقتصر على الدول والمؤسسات الإسلامية، بل بدأت من السويد نفسها التي وصفت حكومتها الواقعة بأنها عمل عدائي، ومسيء، ولا يحترم الغير.
في نفس السياق، وصف الاتحاد الأوروبي حرق الكتب المقدسة بأنه عمل استفزازي، وأن مظاهر العنصرية وكره الأجانب وما يتصل بذلك من تعصب، لا مكان لها في أوروبا.
فإذا كانت الحكومات الغربية ترفض هذه الممارسات بشكل صريح، لماذا تسمح بها من الأصل؟ وما أسباب معارضة قطاع واسع من دول العالم وضع تشريعات مقيدة للاعتداء على الرموز الدينية، أو ما يعرف بمناهضة الإساءة للأديان؟ وما طبيعة العلاقة بين هذه الوقائع وبين حريات العقيدة والرأي والتعبير، وهل يمكن تقييدهما من أجل عدم استفزاز المشاعر الدينية لمجموعة من الناس؟
حقوق مطلقة
حرية المعتقد، وكذلك حرية التعبير، من حقوق الإنسان المطلقة، التي تضمنتها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وأكدت على حمايتها، وتقييدها غير جائز إلا في ظروف خاصة واستثنائية، فالأصل هو الحرية.
ومن سمات حرية الدين والمعتقد إنه حق فردي، وليس حقًا جماعيًا. فالأفراد، لا التنظيمات والدول، هم من يحتاجون إلى الحماية، خاصة فيما يتعلق بضمان حقهم في حرية الاعتقاد والتعبير عنه. لذلك لا تتضمن هذه المواثيق حقوقًا للأديان أو المعتقدات، ولا ترتب لها حماية خاصة من النقد، بل ميزت بين النقد وخطاب الكراهية المرفوض، إذا كان يدعو إلى التمييز والعداء والعنف.
بطبيعة الحال، لا حماية للمشاعر الدينية، التي لا يمكن قياسها، ولا وضع حدود لها. فعلى سبيل المثال، لا يمكن إثبات أن نشر رسم كاريكاتيري مسيء للإسلام في فرنسا، أو إنتاج فيلم مسيء للمسيح في أمريكا، أثر في حقوق أتباع الديانتين حول العالم في ممارسة حقوقهم الدينية. لا يعني ذلك أن السخرية أو الاعتداء على رموز دينية للآخرين أمر مقبول، بل هو أمر تحكمه بوصلتنا القيمية والأخلاقية، لا القوانين والتجريم.
تتسع حرية التعبير لتشمل الحق في انتقاد المعتقدات والمؤسسات أو حتى السخرية منها. وهذا موضوع مثير للجدل، وهو السبب الذي يجعل الكثيرون يفترضون أن هناك تعارضًا بين حرية الدين وحرية التعبير. ولكن المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وضعت عددًا من الشروط ليمكن في حالات استثنائية فرض قيود مشروعة على حرية التعبير، وذلك من أجل احترام حقوق الغير أو سمعتهم، أو لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.
هذه القيود ينبغي أن يقررها القانون، أي أن تكون موجود في القوانين المحلية، وليست وليدة قرار من السلطة الحاكمة سواء كانت سياسية أو أمنية. في حالة السويد مثلًا، تَقدم الشخص الذي حرق نسخة المصحف بطلب لتنظيم الوقفة، فرفضت الشرطة طلبه. لكنه ذهب إلى المحكمة المختصة، وحصل على حكم بتنظيم الوقفة، ومبررها أن ذلك يأتي في سياق الحق في التظاهر وحرية التعبير، ولا يوجد في القانون ما يبرر منع هذا الشخص.
على أرض الواقع، ما يحدث في بعض الدول الغربية من الإساءة لرموز دينية، لا يستهدف دينًا أو معتقدًا بعينه، فالسويد أعطت تصريحًا لشخص آخر بحرق نسخة من الإنجيل والتوارة، وهو من تراجع عن ذلك فيما بعد. كما أن الدول التي تسمح بوجود رسوم تعتبر مسيئة للإسلام هي نفسها التي تسمح بإنتاج أفلام تعتبر مسيئة للمسيحية، ومبررها أن حرية التعبير حق لا يمكن الانتقاص منه، لا سيما في ظل أنظمة حكم ديمقراطية تعبّر قوانينها بشكل كبير عن احتياجات شعوبها.
قوانين سيئة السمعة
لا تحظى فكرة وضع تشريع دولي لمناهضة الإساءة للأديان باتفاق لأسباب عدة، ففضلًا عن أن كثرة الأديان وتنوعها يجعل الأمر أصعب، فإن هذه القوانين سيئة السمعة عادة ما استخدمت لانتهاك حرية الدين والمعتقد للأفراد الأضعف والأقل عددًا، لصالح الرؤي المدعومة من الحكومات والمؤسسات التابعة لها.
أيهم أحق بالمساعدة، من يزعجهم حرق كتاب مقدس، أم المواطنين الأبرياء الذين يتعرضون لاضطهاد ديني في العالم؟
شهدت المحافل الدولية خلال العقد الأول من الألفية الثالثة معركة شرسة بين تيارين: الأول، قادته منظمة المؤتمر الإسلامي وباكستان ومصر، وسعى إلى إخضاع الشرعية الدولية للتضييق على الحريات، تحت شعار مناهضة الإساءة إلى الأديان والتشهير بها، بحجة حماية الأديان ومشاعر المؤمنين، خصوصًا في ظل بروز ظاهرة الإسلاموفوبيا في الغرب.
أما التيار الآخر، فدافع أنصاره عن حقوق الأفراد الأصلية في حرية المعتقد والتعبير عن الآراء، محذرين من مخاطر غلبة أنصار الحماية لسلطة الأفكار والجماعات على حقوق الأفراد.
ولعبت منظمات حقوق الإنسان العالمية والمصرية وقتها دورًا مهمًا في التحذير من تأثير إقرار قانون مُلزم يجرم ازدراء الأديان، على حريات الرأي والتعبير التي هي أم الحريات، وخصوصًا أن الدول الداعية إلى القانون تستخدم قوانينها المحلية لانتهاك حقوق الأقليات، وقمع حريات الرأي والتعبير والإبداع.
واستند الرافضون لاستصدار قرار دولي يجرم تشويه الأديان في دوافعهم إلى أن الأديان والمعتقدات والأفكار ليس لها سمعة خاصة بها. كما أن المواثيق الدولية مخصصة لحماية حقوق وحريات الأفراد، لا الجماعات أو المجتمعات. وأن تجريم ما يعرف بالتشهير بالأديان يؤدي بالضرورة إلى انتقاص الحق في حرية التعبير الذي تحميه المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
أصدر مجلس حقوق الإنسان في 24 مارس/آذار 2011 قرارًا بالإجماع بعنوان "مكافحة التعصب، والقوالب النمطية السلبية، والتمييز والتحريض على العنف ضد الأشخاص على أساس الدين أو المعتقد". وبذلك أُغلقت المنافذ أمام توفير غطاء قانوني دولي للنصوص العقابية المحلية لازدراء الأديان.
هذا الاختلاف في وجهات النظر، تجدد خلال جلسة مجلس حقوق الإنسان في يوليو/تموز الماضي عند مناقشة قرار يدعو لمحاربة الكراهية الدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداء أو العنف.
عارضت أمريكا ودول أخرى القرار معتبرين أنه يتعارض مع رؤيتهما لحقوق الإنسان وحرية التعبير. وجاء في نص القرار أن "المجلس يرفض بشدة أي دعوة أو إظهار للكراهية الدينية، بما في ذلك أعمال التدنيس العلنية الأخيرة للقرآن"، كما "يدعو الدول إلى اعتماد قوانين وسياسات وطنية وأطر تمنع وتقاضي الأفعال والدعوات إلى الكراهية الدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العداء أو العنف، واتخاذ خطوات فورية لضمان المساءلة".
في الختام، هذه الوقائع تعد حوادث فردية، لا قيمة لها في حد ذاتها، بل تكتسب زخمها من ردود الفعل عليها وموجات الغضب تجاهها، ولكنها لا تؤثر مباشرة في الأديان أو رموزها وقياداتها. كما أنها ليست عملًا جماعيًا يستهدف جماعات معينة طوال الوقت، ولذلك لا ينبغي أن يتحمل تكلفتها آخرون لا دور لهم.
ولا يمكن إغفال الاستغلال السياسي الذي قد يوفر البيئة المحفزة لها، مثل بعض الاتجاهات اليمينية والشعبوية من جانب، أو تلك المحرضة على ردود فعل عنيفة من أجل جماهيرية أو لفت النظر عن إخفاقات على المستوى المحلي من جانب آخر.
وللأسف، تقع بعض المؤسسات الدينية في هذا الفخ، ليبرز التساؤل هنا: أيهم أحق بالمساعدة والدعم ووضع معاناتهم على طاولة الاهتمام العالمي، من تزعجهم هذه الأفعال، أم المواطنين الأبرياء الذين يتعرضون لاضطهاد ديني في مناطق كثيرة في العالم؟
لا يعني هذا الطرح ألّا نتعاطي مع مثل هذه الممارسات المرفوضة، على العكس، من حقنا إعلان رفضنا لها وإدانتها، ولكن بشكل سلمي ودون خطاب المنع أو العنف أو التحريض عليه. من المهم توضيح تداعيات مثل هذه الممارسات السلبية على فهم الآخر والحوار معه، خصوصًا إذا كانت مواقفنا غير متناقضة، وندافع فيها عن المختلفين مع جماعتنا مثلما ندافع عن المنتمين إليها.