في صباح يوم حار، كانت فضيلة(*)، الستينية، تستطلع درجات الحرارة لتطمئن على ولدها سيد(*) ذو الـ34 عامًا، والذي يسكن زنزانة داخل سجن في قلب صحراء وادي النطرون، إذ تشهد مصر الآن صيفًا، تصفه تقارير عالمية وحكومية بأنه استثنائي.
كتبت فضيلة لابنها جوابًا تسأله فيه عن حرارة الجو، وأرسلته مع أهالي معتقلين آخرين في زيارتهم للسجن، فكانت إجابته إنه يواجه حرارة الصيف بـ"مروحتين تعبانين وشفاطين"، بحسب حديث شقيقته للمنصة.
الجواب الذي أرسله سيد، جعل شقيقته ووالدته تشعران بنوع من الرضا عن الوضع الحالي، خاصة وأن سيد قبل ثلاثة أشهر كان يسكن سجن بدر 3، وتُمنع عنه الزيارة. إلا أن مصدر تحدثت إليه المنصة، وهي مديرة الوحدة البحثية بالجبهة المصرية لحقوق الإنسان (منظمة خارج مصر)، طلبت عدم ذكر اسمها، وصفت المراوح ووسائل المعيشة عمومًا في السجون بـ"ضعيفة وبدائية جدًا"، وهو وصف يتفق إلى حد ما مع جواب سيد السابق الإشارة إليه.
بين الفندقة والتكدير
قبل أعوام، كانت وزارة الداخلية نفذت خطة لنقل السجون خارج الكتل السكانية، لتصبح أقرب لنقاط الجيش لحمايتها، وتجنب تكرار اقتحامها كما حدث وقت ثورة يناير 2011. واختارت الوزارة للسجون الجديدة الأطراف الصحراوية للمدن.
هذه الخطة نفذت بناء على مقترح طُرح للمرة الأولى من حركة الضغط الشعبي في أعقاب مظاهرات 30 يونيو/حزيران 2013، إضافة لضغط الانتقادات الدولية لحقوق الإنسان، والتي كانت تدفع لتحسين أوضاع السجون.
وأكدت الوزارة في افتتاحها لمجمعات السجون الجديدة أنها نفذتها "وفقًا للمعايير العالمية". أما رئيسة المجلس القومي لحقوق الإنسان السفيرة مشيرة خطاب، فشبهت، في لقائها مع الإعلامي أحمد موسى الأسبوع الماضي، سجن وادي النطرون بأنه "فندق 5 نجوم للنزلاء".
بدوره قال جمال عيد المحامي الحقوقي في حديثه للمنصة "نحتاج لموافقة الدولة على زيارات مؤسسات مستقلة وصحفيين مستقلين للسجون، وتكون غير مرتبة سلفًا، للتأكد من صدق الرواية الرسمية عن السجون الجديدة".
ربما تعني السفيرة مشيرة بالفندقة إتاحة الأجهزة في الكانتين للمساجين، وهو ما تشرحه فضيلة والدة سيد، المحكوم عليه بالمؤبد في القضية المعروفة إعلاميًا بـ"خلية الصواريخ"، في وصفها للتحسن في السجون "فتحولهم في الكانتين شراء أجهزة كتير، فاشتروا آيس بوكس وكاتيل، وفرن كهربائي"، موضحة "بيشتروا كمان تلج الآيس بوكس".
وأوضحت أن الأسعار المتاحة "أغلى من برة شوية، بس أحسن من الحرمان"، مضيفة "كل شيء بيوفروه جوة في الكانتين يبقى الحمد لله. ما هو لو اشترينا إحنا الحاجات، المواصلات للزيارة بمبلغ برضه، هي محصلة بعضها".
السجناء غير مصرح لهم بالاستحمام بشكل دوري أو منتظم
ولكن الصورة ليست نفسها في عيني منيرة (*) أم سجين آخر في سجن بدر، تقول للمنصة إن الأزمة لا تكمن في توافر مراوح من عدمه، ولكن في تشغيلها. فابنها مسجون في غرفة بها مروحة سقف، والتحكم بها مركزي من إدارة السجن سواء التشغيل أو الإغلاق، وأيضًا تحديد سرعتها.
وعلى الرغم من أن غرفة ابنها في السجن الجديد غير مزدحمة، كما كانت في السجون القديمة، إلا أنها أيضًا لا يوجد بها أي تهوية سوى فتحة في باب الغرفة (النضارة)، بعكس السجون القديمة.
وتضيف منيرة "ابني اتسجن في ثلاث سجون في طره، وفي السجون الثلاثة كانوا بيسمحوا بدخول مروحة مكتب، شرط تكون بلاستيك، لكن ده ممنوع حاليًا في السجون الجديدة".
وتنقل منيرة شكوى ابنها في زيارتها الأخيرة له من الحر، فتقول "لأنه مريض حساسية عانى كتير الفترة الأخيرة من ارتفاع درجات الحرارة، المساجين كانوا بيلجأوا للاستحمام أكثر من مرة في اليوم، لمواجهة الحر الشديد لكن فيه أزمة تانية، المياه فيها تحكم مركزي. وفي أحيان كثيرة بتقطع طول اليوم، وأحيانًا ليومين كاملين".
وتوضح مديرة الوحدة البحثية بالجبهة المصرية، بحكم تواصلها مع عشرات السجناء من أجل تقرير صدر منتصف مايو/أيار الماضي، وحمل عنوان "المنبوذون والمنسيون في السجون المصرية: الجنائيون كنموذج"، أنه "في بعض السجون لا يتمكن السجناء من الاستحمام بشكل دوري أو منتظم، وقد يقتصر الأمر في بعض الأحيان على مرتين في الأسبوع فقط، الأمر الذي يزيد من وطأة الحر عليهم".
تروما ومتاجرة
يستعيد حسن(*) بصعوبة ذكرياته في السجن، حيث أُفرج عنه مطلع العام الجاري، بعد تجربة استمرت ثلاث سنوات تنقل فيها بين سجني شديد الحراسة بطرة وبدر1، قائلًا للمنصة "عملتلي تروما".
يتدرج حسن في تعرفه على حر الزنازين، فيقول "اللي خدت بالي منه أول ما دخلت أن السترة كلها بوليستر، بتكتم الحر وتخنق النفَس. الواحد وهو لابسها بيموت من الحر".
ظل حسن ثلاث سنوات إلا ثلاثة أشهر بسجن شديد الحراسة، يرتدي البوليستر داخل زنزانة 4 في 5 متر، بها "تسع مصاطب"، ويقول "كل سجين ليه مكانه قاعد فيه مش قادر ياخد نفسه، مش قادر يتحرك، مفيش تلاجة، هو بس مروحة وشفاط"، ولكنه يستدرك "أحيانًا كتير المراوح بتبقى عطلانة، أو مفيش كهرباء، فطبعًا تكدير رهيب". ولتشغيل المراوح "كان ممكن نعمل خناقات بالأيام ونرفض التعيين (وجبة السجن)" .
غلق المراوح لا يعتبر التكدير الوحيد، فتشغيلها كذلك يسبب أزمة. يوضح حسن "موضوع المراوح كان سبب خناقات كبيرة؛ لما تكون الأوضة فيها عدد كبير، فالناس بتتخانق على المروحة موجّهة أنهي اتجاه، كل واحد عايزها ناحيته"، مبينًا "جزء من المزايا كان إنه يديك مروحة بتتحرك وتهوي الغرفة كلها، لو عايز يكدرك يديك مروحة اتجاه واحد".
الشفاط كذلك كان سبب لـ"الزعيق والشتيمة" بحسب حسن، "الشفاط في أوقات كتير صوته مزعج، أنا عايز أشغّل الشفاط وفيه حد بيصدّع، فنتخانق". وكنتيجة لكل ذلك كان بعض السجناء "يغمى عليهم ونقعد ننده على الحرس".
بخلاف الزنازين، يعتبر حسن عربيات الترحيلات "الأصعب"، ويفسر "بنقعد بالساعة والساعتين من غير تهوية في عز الشمس، العربية كلها صفيح"، مؤكدًا "كنا بننزل نتخانق مع الأمناء".
الزنزانة طاقتها الاستيعابية 9 أشخاص، لكن فيها 30 أو 40 شخص
جمال سجين سياسي سابق (*)قال للمنصة إن الوضع في سجن طرة كان يتوقف على أمرين، الأول مزاج المسؤول والثاني شخصية المسجون؛ موضحًا بأن كل غرفة بالسجن بها مروحة سقف واحدة وزر التحكم الخاص بها موجود بالداخل، إلا أنه في فترة من الفترات تم إزالة هذه المرواح خوفًا من أن يستخدمها السجناء في إيذاء أنفسهم.
يحكي "كنت محبوسًا في غرفة بها مروحة سقف يتحكم السجناء في درجة قوتها، لكن تم إزالتها بعد إصابة أحد المساجين بسببها. الغرفة كان فيها سرير من دورين والسجين النائم في الأعلى استيقظ، ودون أن ينتبه للمروحة اصطدم بها، وعندما علمت إدارة السجن قررت إزالة المروحة"، قرر السجناء شراء مروحة مكتب على نفقتهم الخاصة، بعد موافقة الأمن على ذلك. تزدهر تجارة المراوح داخل السجون (القديمة)، بحسب جمال.
وضع كارثي
تعتبر الباحثة في الجبهة المصرية أن الوضع فيما يخص الحرارة "سيئ؛ خاصة في ظل تكدس الأعداد في الزنازين، ودي مشكلة رئيسية للأسف، وسمت عام بين مقرات الاحتجاز سواء كانت أقسام، أو سجون".
مضيفة أن أساليب التبريد مثل المراوح "اللي هي مش موجودة دائمًا"، حال توافرها يكون "أثرها ضعيف، إن لم يكن معدوم، بالنسبة لأعداد السجناء. تخيل زنزانة طاقتها الاستيعابية لا تتجاوز 9 أشخاص، لكن الأمر الواقع أنه يوجد فيها 30 أو 40 شخصًا من البالغين، بدون وسيلة تبريد جيدة".
يتفق معها محمد رمضان المحامي والسجين السابق في حديثه للمنصة، إذ وصف الوضع في بعض السجون بـ"الكارثي"، بحسب الشهادات الواردة إليه من بعض الموكلين المسجونين في أبو زعبل.
يشرح "الغرفة مساحتها 5 في 3 متر، وفيها ما بين 40 إلى 43 مسجونًا والتريض ساعة واحدة، ولا يوجد إلا مروحة السقف وحالتها متردية، ومعظم الأوقات تكون الشفاطات معطلة"، موضحًا أن المروحة ليس لها أي أهمية في حال لم تعمل معها الشفاطات. ويزداد الأمر صعوبة عندما يكون هناك كثير من المدخنين في الغرفة.
وتستكمل الباحثة الحقوقية الصورة بـ"غياب مصادر مياه كافية داخل الزنازين في الأماكن المخصصة لدروات المياه"، ما يؤثر على قدرة السجناء على التبريد، مؤكدة أن الوضع يشمل مياه الشرب "لا تتوفر إلا في شكل زجاجات مياه معدنية تُباع في الكانتين. لهذا يتردد البعض في استهلاكها، إلا بالحد الأدنى في مثل هذه الأجواء الحارة".
بالإضافة إلى عدم السماح للسجناء باستخدام "أدوات شخصية تُعينهم على تقليل أثر الحرارة عليهم مثل مزيلات العرق"، بحسب الباحثة.
الأمر يصبح مأساويًا مع كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة، وتقول "كثير منهم بيتعرض لإجهاد حراري، يصل بهم للإغماء لفترات طويلة، بل بيفقد بعضهم حياته في مثل هذه الظروف".
وأكدت أن ظروف الحر تمتد على السياسي والجنائي وإن كانت أخف وطأة على السياسيين، "الأوضاع المالية لنسبة كبيرة منهم أفضل نسبيًا، بدرجة تتيح لهم شراء مياه شرب من الكانتين، كافية لحاجة أجسامهم أو شراء مروحة على حسابهم".
قانون مُنتهك ووعد بالتحرك
يتفق جزئيًا كلًا من جمال عيد المحامي الحقوقي، وولاء جاد عبد الكريم، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان، في حدوث مخالفات في حق السجناء فيما يخص الحر والتهوية. وبينما يقر عيد، بحكم دفاعه عن العديد من السجناء، بأن المشكلة ليست في وجود مراوح ولكن في "سياسة التنكيل"، التي وصفها بـ"الغالبة"، يكتفي عبد الكريم بقوله للمنصة "وارد إنه يحصل مخالفات".
وتناول عيد الوضع قانونيًا، قائلًا إن لائحة تنظيم السجون والتعديلات المضافة عليها في 2022، تنص على "أن الزنازين يكون فيها هواء وخروج المساجين برا الزنزانة"، لكنها "حقوق بيتم إهدارها".
يرى الحقوقي أن الأهم من النص القانوني هو "وجود إرادة سياسية لاحترام القانون"، مفسرًا بأن لائحة السجون تنص على حقوق للسجناء "لكن الداخلية تنتهكها"، ويؤكد "الوضع مش مستند للقانون، الوضع مرتبط بإرادة احترام القانون". ويلخص الوضع "ماعندناش قوانين جيدة ولا إرادة احترام القانون".
إلى جانب لائحة السجون، يضمن باب الحقوق والحريات بالدستور حق السجناء في مكان "لائق إنسانيًا وصحيًا"، وتناولت المادتين 55 و 56 ظروف السجن وطبيعة أماكن الاحتجاز، والتي يجب أن تكون مكانًا ملائمًا للإقامة، ويحظر فيه كل ما ينافي كرامة الإنسان، أو يعرض صحته للخطر، واعتبرت أن مخالفة ذلك جريمة يعاقَب مرتكبها وفقًا للقانون.
على الجانب الآخر، كانت رؤية عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان متفائلة، عندما اعتبر أن مشكلة التهوية في السجون القديمة سببها "البنية الأساسية؛ حيث لم تكن قابلة لأي تطوير"، ويقول عبد الكريم إنه مع افتتاح السجون الجديدة "التي زارها المجلس، يوجد الحد الأدنى المطلوب من مقومات البنية الأساسية التي يمكن البناء عليها".
تتمسك فضيلة بالوعود الحكومية بتحسين الظروف، وتدعمها جوابات نجلها إليها عن تحسن أوضاعه في سجنه الجديد، ليرتاح بالها أخيرًا. أما شقيقته فمازالت متشككة، وتقول "لما بيبقى عنده مشكلة ما بيحكيش".
(*)أسماء مستعارة بناء على طلب المصادر