"لأنك معانا رغم المسافة.. ورغم البعاد بتوفي الميعاد
وصوتك بيرسم ملامح غنانا ويرسم خطانا...
أكيد هنرجع ونغني تاني.. ونرسم بفنك حروف الكلام
معاني وأغاني وحب وسلام.. ودايما معانا وإحنا معاك"
هذه كلمات كتبها الشاعر أحمد يسري لرفيق رحلته الفنان نبيل البقلي، الذي رحل في نفس شهر ميلاده. (29 فبراير / شباط 1956- 13 فبراير 2001)، ويظل بعد وفاته في أعين محبي فنه؛ نسمة سكندرية طافت موسيقاها بالوطن تملأه بالحب والسلام.
هناك فى الأسكندرية، ولدت الغواية بقلب الفنان نبيل البقلي ليكتب عام 1975 (كل ماييجى الليل تسرح أمانينا ونروح ويا الليل نسهر وحدينا)، أولى رسائله الشعرية -التي نعرفها- لحبيبته الإسكندرية. شاركه في صوغ الرسالة صديقاه الشاعران أحمد يسري وحسن عبد السلام، ومنها أقدم البقلي على تشكيل فرقة "الحب والسلام". ومع رفاق الفرقة، بدأ في ملء فضاء مدينته بالموسيقى والغناء، واستغرقهم الأمر ثلاث سنوات حتى سجلوا ألبومهم الأول باسم "إسكندرية .. اذكريني". وكأنما كان يطمئن مدينته أنه سيترك لها أثرًا من المحبة.
بعد صدور الألبوم، بادر البقلي وفرقته إلى التجوال لتقديم حفلاتهم في محافظات أخرى بخلاف القاهرة والأسكندرية، لتصبح "الحب والسلام" من أوائل الفرق الغنائية المستقلة التي تتخذ هذه الخطوة في نهاية السبعينات وبداية عقد الثمانينات.
من البداية انتهجت الفرقة طريقًا مميزًا بالالتفات للحفلات الحية، وإيلاء التفاعل مع الجمهور أهمية أكبر من تسجيل الألبومات في الاستديو. مشاركة الجمهور تلك الغواية- غواية تجدد ميلاد الموسيقى - كان دائمًا على رأس اهتمامات البقلي، وكانت لديه نظرية عن حياته الفنية نصح بها الجميع: "لا تجعل الفن مصدرًا للرزق"، مؤكدًا على ضرورة أن يكون للفنان عمل آخر يكسب منه عيشه، لاقتناعه بأن تلك الخطوة ستضمن إبداع الفن لغاية الفن وحدها، ما يكفل أن تخرج الأعمال الفنية بإقناع خالص من الفنان، لتصل بصدق للمستمع.
اذكرينى
وكغيرها من الفرق التي ظهرت في منتصف ونهاية السبعينات؛ تأثرت "الحب والسلام" بالموسيقى الغربية، وأعادت تقديم عدة أغنيات غربية مغناة بالإنجليزية، منها أغاني لفرقة "بي جيز". وتكون الفريق الأساسي من نبيل الجندي- باص جيتار، ويسرى عمر- درامز، وعادل واصف- ليد جيتار، وشادي عصمت- كيبوردز، والمطرب ياسر شعبان، ونبيل البقلي مؤسس الفريق ولاعب الأورج.
تغير تكوين الفرقة مرارًا على مدى السنين، وانضم أحيانًا جونى ميروس على الدرامز، وهشام نور لاعبًا للبركشن، وغيرهم.
في هذه الفترة (نهاية السبعينات وحتى نهاية الثمانينات) تعددت الفرق الموسيقية، وتعددت ألبوماتها، لكن "الحب والسلام" ظلت مخلصة لأولوية الحفلات الحية على تسجيلات الاستديو وإنتاج الألبومات المُسجلة.
https://www.facebook.com/plugins/post.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Famr.andromida%2Fvideos%2F10154116780339202%2F&width=500
ولكن؛ لا يبقى شيء على حاله. وقع الخلاف بين أعضاء الفرقة في بداية الثمانينات. وإن لم تظهر أسباب هذا الخلاف إلى العلن، إلا أن النتائج كانت واضحة: افترقت الفرقة، وقام نبيل البقلي بتكوين فرقة جديدة هي "طيور البحر" التي تشابهت كثيرًا مع فرقته الأم. ولم تختلف أغاني "طيور البحر" كثيرًا عن أغنيات "الحب والسلام"، بل وتنقل الأعضاء بين الفرقتين، إلى أن انتهت فرقة "طيور البحر" بعودة "الحب والسلام" بكامل أعضائها -بما فيهم البقلي- لتسجل ألبوم "تحت العشرين" عام 1984. وتولى توزيع الأغاني هذه المرة شادي عصمت، بينما ظهر اسم نبيل البقلي ملحنًا لجميع أغاني الألبوم عدا أغنيتي "أنا أعلنت عليك الحب، ومقدرش أكون" اللتان لحنهما شادي عصمت.
على الرغم من نجاح ألبومي الفرقة الأولين، إلا أن "الحب والسلام" ظلت مصرة على رؤيتها التي جعلتها تقدم أغلب أغنياتها الجديدة في الحفلات. لكن كثير من تلك الأغاني فُقدت، أو ربما لا تزال مختبئة في مكتبة محبي الفريق، ممن سجلوها في حفلاته العديدة. وَجَدت بعض تلك الأغنيات طريقها إلى صفحة البقلي على فيسبوك، ولكن لا يوجد حصر يؤكد لنا إن كانت الصفحة قد استطاعت اجتذاب محبيه لمشاركة تسجيلاتهم لأغنيات الفرقة، أم أن هناك أغان أخرى لا تزال غائبة.
محاولات تسعينية
توقفت الفرقة طويلاً مرة أخرى، حين رأت أن "الساحة الغنائية لم تعد ملائمة"، وقتما ظهرت موجة التسعينات التجارية، فترك نبيل الفرقة وعمل بالسياحة، ولكن حبه للموسيقى والحنين للعودة ظلا غالبين؛ إلى أن عاد للفريق عام 1998، محاولا إعادة تشكيله بأجيال جديدة مرة تِلو الأخرى. وخلال ثلاثة أعوام من العودة؛ شارك "الحب والسلام" فى مهرجان القاهرة للأغنية (متوقف حاليًا)، بأغنيات الأقصر ومدرستي القديمة (فازت بالمركز الثالث)، وابن الجنوب (فازت بالمركز الأول) على الترتيب.
تبيع ماضيك.. تبيع ملامح عايشة فيك وتشترى كدب الحياة؟ لكن السؤال يا ابن الجنوب يا ابن القلوب الطيبين.. هى المدن بالنسبة ليك تنفع وطن؟ إيه الوطن؟
هذه الكلمات لأحمد يسري من أهم أغنيات الحب والسلام فى رأيي. السؤال الذي تطرحه الأغنية عن معاني الوطن والاغتراب لا يزال معلقًا. لكن البحث عن الجواب عبثي، فلا أحد يملك الإجابة في ظل مطحنة العيش التي تفرض هي الجواب الذي تراه.
قطر الصعيد بيرمي ناس في كل يوم فوق الرصيف.. بيشدهم صوت الرغيف وأنت واحد منهم.. والعود نحيف. والخطوة في زحام المدن لازم تضيع.. مكتوب عليك من قبل حتى ما تشتري.. لازم تبيع
https://www.facebook.com/plugins/video.php?href=https%3A%2F%2Fwww.facebook.com%2Fnabil.elbakly%2Fvideos%2F1680748462766%2F&show_text=0&width=400ولعل هذا أجمل ما يميز فريق "الحب والسلام"، وهو غناؤهم لمجريات الحياة. فبالإضافة لأغاني الحب والغيرة والخداع، قدم الفريق أغاني شديدة الجمال عن الصداقة والزمالة المدرسية التي لا يتميز فيها شخص بدينه "مدرستى القديمة"، أو عن المال الذي يفرق الإخوة بينما هو "حتة عملة".
ولأن نبيل سعى ألا يتوقف الفريق عند شخص، حتى وإن كان نبيل نفسه؛ فقد تأكد قبل رحيله في سن الخامسة والأربعين أن وصيته تتضمن أن يستكمل الفريق الرحلة. وهو ما حرص عليه أفراد الفريق بالفعل، أو على الأقل حاولوا.
استمرت الحفلات لفترة؛ إلى أن تدخلت الخلافات بين عائلة نبيل وصانعي ألبوم "بعد سنين" الصادر في 2006، بسبب إقدام الفريق على تقديم أغاني نبيل بتوزيعات مغايرة لتلك التي وضعها الراحل.
احتوى الألبوم على 11 أغنية ورسالة إلى نبيل، وكانت كلها بالفعل أغنيات قُدمت مع الراحل في حفلاته، وقام هو بتلحينها وتوزيعها عدا أغنية "عصفورين" من ألحان عمرو جلال لاعب الدرامز. بل وحوى الألبوم أغنيتين صدرتا في الألبوم الأول، وهما "اذكريني" و"صدفة" (حنتقابل). وكُتب على غلاف الألبوم أسماء المؤلفين، وأن الملحن والموزع هو نبيل البقلي. وقدمت الفرقة كافة أغاني الألبوم بتوزيعات جديدة، عدا أغنيتي "صدفة" و"عملة" اللتان قُدمتا بنفس التوزيع الذي وضعه البقلي. اكتفي الفريق بإضافة اسمه "الحب والسلام" كموزع مشارك لنبيل بجوار أسماء باقي الأغاني.
خرجت تلك التجربة عامرة بالحب لنبيل، لكن الألبوم فشل تجاريًا؛ ليقرر الفريق إنهاء التجربة خلافًا لوصية الراحل. لكن قبل نهايته، قدم الفريق العديد من المطربين والعازفين والملحنين الذين صاروا نجومًا، ومنهم المطرب حمزة نمرة، وأيمن مسعود ومحمود صيام لاعبي فرقة مسار إجباري، ونور عاشور عازف الساكس في فرقة محمد منير. كما أتاح الفريق الفرصة لشعراء منهم مدحت الخولي، الذي بدأ كشاعر يكتب لـ"لحب والسلام" ثم عُرف لاحقًا كفنان شامل (مؤلف وملحن وموزع).
لم ينس حمزة نمرة تجربته مع نبيل البقلي، ويحرص على ذكر اسم الراحل باعتباره "صاحب فضل عليه". وغنى حمزة فى 2009 أغنية "عصفورين"، إحدى أغنيات "الحب والسلام" الصادرة في ألبوم "بعد سنين". كما فاجأ حمزة حضور حفله في الجامعة الأمريكية عام 2010 بغناء "يا إسرائيل"، التي لحنها ووزعها البقلي من كلمات أحمد يسري، وأعاد حمزة إصدارها في ألبومه الثاني "إنسان" ولكن تحت اسم جديد للأغنية وهو "اسمي مصر".
ما يبقى فى الأثر أيضًا، أن ياسمين، ابنة البقلي، حاولت حمل شارة الفريق مرة أخرى، لكن المحاولة لم تنجح لقلة الخبرة وضعف التجانس بين أفراد الفرقة، فقررت إصدار بعض أغاني والدها بصوتها، ونشرها من خلال ساوند كلاود.
ربما لم يحقق الفريق ذات الانتشار الذي حققته فرق موسيقية أخرى معاصرة له، كانت أكثر نجاحًا وقدرة على الاستمرار ، مستعينة بالنجاح التجاري الواسع الذي افتقر إليه "الحب والسلام" بقيادة نبيل البقلي؛ لكن تجربة الفريق فنيًا لا تقل بحال عن معاصريه، وإن كانت تتجاوز بعضهم. كما أن ألبومهم الأخير "بعد سنين" كان قويًا فنيًا، وإن كان وقت ظهوره لم ينصفه، حين صدر في وقت سيطرت في أغاني التيار العام "الماين ستريم" التجارية الأقل فنيًا.
ورغم الاختلاف حول مدى صحة قرار نبيل بالإخلاص للغناء الحي على حساب التسجيل، وهو القرار الذي ربما أسهم في عدم تحقيق الفريق النجاح التجاري المطلوب، أو حتى الاختلاف على مقارنة توزيعات نبيل للأغاني مقابل التوزيعات الصادرة بعد وفاته.. يبقى أن التجربة أفرزت غناءًا مختلفًا. وأن ما بقي من الأغاني هو لـ"الحب والسلام".