من الصعب أن تفاجئك رسالة صباحية عن ارتفاع معدل التضخم في مصر بنسب غير مسبوقة، ثم تمر مرور الكرام. ربما تطاردك بعدها أفكار سوداء عن أسعار السلع الأساسية التي تستطيع بالكاد توفيرها، لكن الأصعب أن تشهد في اليوم نفسه نقاشًا طويلًا ينتهي بالموافقة على قرض جديد، فتقضي ليلة عصيبة يلاحقك فيها الأرق، إذا كنت من المصابين بداء القلق مثلي.
بالأمس أعلن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء ارتفاع معدل التضخم وتسجيله أعلى مستوى خلال العام الجاري عند 36.8% مدفوعًا بالنمو في مجموعة الطعام والشراب، الذي بلغ حوالي 65%. وبالأمس أيضًا مرر مجلس النواب في جلسته العامة قرار رئيس الجمهورية رقم 129 لسنة 2023 بالموافقة على اتفاقية مشروع تطوير خط لوجستيات التجارة بين القاهرة والإسكندرية، وهي اتفاقية قرض بين مصر والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، قيمته 400 مليون دولار.
حضر وزير النقل كامل الوزير بنفسه، وعرض فيديو إنجازات الوزارة ومشروعها الذي يستهدف ربط الميناء الجاف بالسادس من أكتوبر بخطوط السكك الحديدية، لإقناع النواب بتمرير القرض الجديد. لا يحتاج الوزير لاستعراض إنجازاته في فيديو خلال الجلسة العامة، وهي السابقة التي ابتدعها في جلسة ماضية وكررها بالأمس. بل لا يحتاج الوزير للحضور بنفسه، فالأغلبية وأحزاب الموالاة ستوافق على القرض مثلما مررت غيره على مدار السنوات والأشهر الماضية رغم كل التحذيرات من التوسع في سياسات الاقتراض وتراكم الديون وتضاعف فوائدها.
البحث عن خطة
واجه النائبان أحمد فرغلي، وعاطف مغاوري الوزير بتخوفاتهما ورفضهما للقرض، واعتراضهما على مشروعات البنية التحتية عالية الإنفاق دون تحقيق عوائد مباشرة على الاقتصاد.
رفض النائب المستقل أحمد فرغلي القرض، دافعًا بأن "التقارير الدولية تقول إن مصر أكثر الدول اقتراضًا العام الماضي"، وأضاف "أرفض الموافقة على أي قرض إلا بعد حضور رئيس مجلس الوزراء لعرض رؤية الحكومة بالنسبة للاقتراض وحجمه".
وتحتل مصر المرتبة الأولى عربيًا، والثانية عالميًا، في قائمة الدول الأكثر مديونية لصندوق النقد الدولي، بإجمالي ديون نحو 20 مليار دولار بإجمالي ديون خارجية تتجاوز 160 مليار دولار، تستحق السداد على مدى السنوات الخمس المقبلة.
وطرح فرغلي تساؤلات عدة "هل الحكومة وضعت سقفًا للاقتراض الخارجي؟ هل وضعت أولويات؟ هل وضعت رؤية مستقبلية لسداد تلك القروض؟" موضحًا أن الدولة عليها التزام سداد 18 مليار دولار خلال العام الجاري، وطالب بحضور رئيس الوزراء لعرض رؤيته لسداد الديون.
توقف فرغلي أمام قيمة القرض المعروض على المجلس وأزمة تغير سعر الصرف "400 مليون دولار كانوا من 3 شهور 6 مليار جنيه مصري الآن 12 مليار جنيه مصري"، وانتقد الاقتراض لمشاريع بينة تحتية بدون عائد اقتصادي "اقترض لو مشاريع استثمارية لها جدوي وتشغل عمالة".
وفقدَ الجنيه المصري حوالي 100% من قيمته منذ مارس/آذار 2022 أمام الدولار الأمريكي، بعد إعلان البنك المركزي انتهاج سياسة سعر صرف مرنة.
يرى فرغلي أن الحكومة توجه دعمًا خاص لوزراة النقل، وقال "لو راح الدعم ده للصحة والتعليم، مصر تكون في ناحية تانية خالص"، واختتم كلمته "أرفض حكومة الاقتراض وبيع أصول الدولة وزيادرة الرسوم والضرائب. الشعب يعاني ومفيش أي نتيجة، الواجب الوطني إن الحكومة يجب أن تُقال وتيجي حكومة عندها فكر استثماري. رئيس الوزراء فكره مقاولين بس، نقترض لبنية تحتية لا يستفيد منها الناس".
أما رئيس الهيئة البرلمانية لحزب التجمع، عاطف مغاوري فقال "أرفض أي قروض جديدة في ظل الظروف الاقتصادية الحالية لعدم زيادة ديون مصر الخارجية و(عدم) الضغط على الموازنة العامة للدولة".
القرض من أجل الفقراء
تحدى وزير النقل كامل الوزير المعارضة، وطالب النائبين بعدم مغادرة القاعة لحين الرد عليهما "لأني هقول كلام عن القرض. لما يكون كلامهم صحيح وقتها هخرج من هنا وأقدم استقالتي، أو تعدلوا مفهومكم. لو هذا المشروع ليس استثماري وعائده بالدولار يبقى أنا معرفتش أوضح، لو كلامي صح يقولوا لي في الآخر أنت صح".
يخرج كلام الوزير عن الأعراف والتقاليد المتبعة في قاعة المجلس، والتي لا تقبل السجال والتعقيب المباشر بين الوزراء والنواب. ولكن الوزير لم يكتف بالرد المباشر، بل وجههما إلى استمرار الجلوس وانتظار رده، وهو ما أثار استياء النواب، وعاتبه مغاوري "نحن هنا احترامًا للنواب ورئيس المجلس".
قال الوزير إن خط اللوجستيات يوفر مجموعة من المزايا الحصرية الداعمة لاقتصاد البلاد، كما أن هذا المشروع يدعم محدودي الدخل بشكل مباشر، واعتبره مشروعًا للغلابة الذين يتحدث عنهم النائب عاطف مغاوري، مبررًا سرعة مناقشة القرض بوجود سكك حديدية متهالكة، وقال "القطار بيدخل البيوت على الناس، وتوفت سيدة مؤخرًا وحضرنا العزاء، هو خط بالي عايزين نطوره علشان الغلابة اللي أنت بتمثلهم".
أكاد أستمع للانتقادات والمطالبات والمناشدات ذاتها التي سبق وعرضها نواب المعارضة والموالاة خلال مناقشة القانون قبل ست سنوات
يشير الوزير إلى واقعة شهدتها قرية مشروع عبدالعاطي الشرقاوي، في محافظة البحيرة، في يونيو/حزيران العام الماضي، حيث اقتحمت عربة قطار أحد المنازل عقب انقلابه وخروجه عن مساره.
وأكد الوزير في كلمته أن الحكومة تدرس جميع المشروعات، و"لا تمضي في إحداها إلا وقد ضمنا أن الوطن والمواطن سوف يستفيدوا منه دون شك. وهذا مشروع تنموي واستثماري بنسبة 100% وهو مشروع للغلابة، لأنه يستهدف تطوير قطار الناس للغلابة".
لم يعقب النائبان بصوت مسموع للصحافة عبر الميكروفون، على كلام الوزير حين قال "رديت عليكم ولا لأ؟".
بحثت في كلمات الوزير عن عوائد المشروع الذي يؤكد أنه استثماري فلم أجد، فتواصلت مع النائب أحمد فرغلي، لعله يكون وجد إجابات لأسئلته.
قال فرغلي "لا مجاوبش. هو قال لو كلام النائب عاطف مغاوري وأحمد فرغلي صح هقدم استقالتي، أنا عايزه يقولي كلامي صح ولا غلط". وجدد النائب خلال حديثه مع المنصة رفضه لسياسات ومنطق الاقتراض، وأكد أن المشروعات ليست لها عوائد مباشرة في ظل الاقتراض بالدولار والحصول على عوائد بالجنيه.
المعارضة تحذر من الغرق
في 2017 وافق مجلس النواب على قانون الاستثمار، وصدر القانون الذي بشر النواب والحكومة بتأثيره على تشجيع الاستثمار في مصر. ورغم ذلك أجرى المجلس تعديلات عدة على القانون، كان آخرها أمس الأول.
أكاد أستمع للانتقادات والمطالبات والمناشدات ذاتها التي سبق وعرضها نواب المعارضة والموالاة، خلال مناقشة القانون قبل ست سنوات، الجميع يؤكد استمرار البيروقراطية التي تؤدي إلى تطفيش المستثمرين، ويدعون لتطبيق نظام الشباك الواحد، ولمنح حوافز للمستثمرين.
ورغم أن التعديلات المستحدثة التي وافق عليها مجلس النواب تمنح بعض الحوافز في محاولة لجذب الاستثمارات، انقسم نواب المعارضة بين الرفض والموافقة عليها، ولكنهم اتفقوا جميعًا على عدم كفايتها، وعلى أن الأمر يتطلب سياسات وقوانين أخرى.
قال النائب عبد المنعم إمام "مفيش استثمار ييجي في بلد عندها سعرين للدولار، مافيش استثمار في البلد دي هييجي طول ما أنا ماعدلتش قانون التعاقدات الحكومية علشان ألغي التعاقد بالأمر المباشر".
النائب ضياء الدين داود وافق على مشروع القانون، لكنه أكد أنه ليس الحل لجذب الاستثمارات، وقال إن المسألة تجازوت فكرة البنية التشريعية، وجدد هجومه على الحكومة التي سبق وطالب بإقالتها، وقال"تروح تشوف السعودية بيعملوا إيه، قلدوا أي تجربة وهاتوها".
وكرر داود الحديث عن أزمة الدولار متوجهًا للحكومة "بتتفرجوا على سعر الدولار وصل كام (في) السوق السودا؟ ده مناخ؟ هل الحكومة جادة؟ قعدتوا مع مين؟ ماقعدتوش مع حد".
أما النائبة مها عبد الناصر فرفضت مشروع القانون وحذرت "لو لم نجذب اسثمار محلي أو أجنبي المركب هتغرق بينا كلنا"، وكررت "نداء لكل أجهزة الدولة، أرجوكم، المركب لو غرقت هنغرق كلنا، مفيش حد هينجوا لوحده".
نهايات الجلسات في مجلس النواب معتادة، فلا مفاجآت هناك؛ تمرِّر الأغلبية القوانين وتطلق المعارضة تحذيراتها. لكن هل هناك من يستمع للتحذيرات؟ هل يمكن أن تساعد المخاوف على النجاة من الغرق؟ أم سنستمر في دوائر القلق ونظل غرقى في دوامات تحاصرنا بارتفاع معدلات وفوائد القروض، ونبقى بلا أطواق نجاة؟