على الرغم من محاولات كبار المسؤولين الروس التقليل من شأن التمرد المريب وغير المسبوق الذي تزعمه قائد شركة فاجنر، يفجيني بريجوجين، والادعاء بأن الأمور عادت لنصابها بعد تجاوز هذه المشكلة "الصغيرة"، غير أن الضرر الأكبر لحق بلا شك بالرئيس الديكتاتور فلاديمير بوتين، الذي اهتزت صورته كرجل روسيا القوي المسيطر على أدق التفاصيل.
حدوث تمرد عسكري في بلد سلطوي منغلق مثل روسيا هو حدث جلل، لا يمكن المرور عليه مرور الكرام، أو عدّه مجرد خلل أمني بسيط. إذ بلغ الأمر حد سيطرة قوات فاجنر على مقر قيادة القوات الروسية في مدينة روستوف، وتحرك المدرعات نحو العاصمة موسكو، والتي توقفت على بعد 460 كلم. كما أُسقطت طائرات هليكوبتر تابعة للجيش الروسي.
وحتى الدول الغربية التي تتمنى الإطاحة ببوتين، وعلى رأسها الولايات المتحدة، تمهلت أمام ذلك التمرد المريب، واكتفت بإصدار بيانات تقول إنها تتابع الموقف عن كثب، دون الانحياز لطرف على حساب الآخر، رغم أن شركة فاجنر تخضع للعديد من العقوبات الغربية، وتعد أنشطتها معادية لمصالح تلك الدول. ولكن حرص مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية/CIA ويليام بيرنز، على التواصل مباشرة مع نظيره الروسي، والتأكيد على أن واشنطن لا علاقة لها بتمرد فاجنر ولم تكن على دراية مسبقة به.
هل يمكن تصور أن قائد تمرد عسكري يمكن أن يبقى حرًا في أي دولة تدعي سيادة القانون؟
بل إن أوكرانيا، ودول أوروبا الشرقية السابقة المجاورة لروسيا، التي تتبنى الموقف الأكثر تشددًا ضد موسكو، وتضغط على الولايات المتحدة لكي تزود أوكرانيا بأحدث الأسلحة خشية أن تكون هي الضحية التالية، شككت في حقيقة التمرد برمته، خاصة بعد الإعلان عن تدخل رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو، وتوسطه بين بوتين وبريجوجين، والاتفاق على نقل قوات الشركة، التي تنتشر فروعها في العديد من الدول العربية والإفريقية، إلى قاعدة عسكرية في بلاده.
حسب مخاوف أوكرانيا وبولندا، قد يكون نقل القوات إلى بيلاروسيا مجرد غطاء لشن هجوم مضاد في وقت لاحق. وقد يكون الأمر برمته مسرحية متفق عليها بين بوتين وفاجنر. ومن المعروف أن لوكاشينكو يدين شخصيًا للرئيس بوتين بالبقاء في منصبه، إذ أرسل الأخير قوات روسية عام 2020 لدعمه بعد الثورة الشعبية ضد حكمه الممتد.
وما زاد من شكوك تلك الدول في كيفية تعامل بوتين مع تمرد فاجنر، هو أن الرئيس الروسي، ومنذ وصوله للحكم قبل عشرين عامًا، لم يعتد التعامل بليونة أو رحمة مع أي معارضة حقيقية يواجهها. بل إنه لم يمانع في ترسيخ صورته كرجل يلاحق معارضيه في الخارج ويقتلهم، كما حدث في بريطانيا وألمانيا بل وفي دولة الإمارات.
فما بالكم برئيس لشركة مقاتلين مرتزقة تمتلك خمسة وعشرين ألف مقاتل، يوجه أقسى الاتهامات والشتائم لوزير الدفاع وبعض كبار قادة الجيش، بل ويصرح أن الوقت قد حان لاختيار رئيس جديد لروسيا، ثم يختفي فجأة ولا يعرف أحد مكانه حتى الآن. قال لوكاشينكو إنه غير موجود في روسيا البيضاء ورجّح عودته لروسيا، وتحديدًا سان بطرسبرج.
هل يمكن تصور أن يبقى قائد تمرد عسكري حرًا في دولة تدّعي سيادة القانون؟
رد الفعل الطبيعي في دولة يحكمها رجل قوي مثل بوتين، أو في أي دولة متماسكة، ألا تتسامح مع تمرد عسكري، وتقبض على كل من تورط فيه من أجل محاكمته، وليس إصدار تصريحات لينة تقول إن الباب ما زال مفتوحًا أمام التحاق منتسبي قوات فاجنر بالجيش الروسي، كما فعل العسكريين الروس. خاصة وأن ذلك جاء ذلك بعد أن وصف بوتين صديقه المقرب حتى وقت قريب،بريجوجين، بـ"الخائن".
ومن المعروف أن بريجوجين كان يتمتع بعلاقات جيدة ومتشعبة مع الجيش الروسي، ومع دوائر الحكم في روسيا، وقد يتم تصويره على أنه رجل "وطني" حريص على استعادة مجد روسيا الذي أهدره بعض المحيطين ببوتين. ورغم شتائمه النابية المباشرة بحق وزير الدفاع الروسي، وكذلك قائد القوات الروسية في أوكرانيا، لم يمنع ذلك نائب وزير الدفاع، ومعه النائب الأول للمخابرات العسكرية الروسية، من التوجه لروستوف للتفاوض مع بريجوجين، بل وإجراء حوار بدا وديًا للغاية معه.
وعندما قال بريجوجين في اللقاء إنه يود القبض على وزير الدفاع سيرجي شويجو وقائد القوات الروسية في أوكرانيا لمحاسبتهم على أخطائهم، رد النائب الأول للمخابرات العسكرية، فلاديمير أليكسيف، بالقول ضاحكًا "يمكنك الحصول عليهم".
من باب الشائعات
كان وجود شركة فاجنر منذ بروز اسمها على الساحة الدولية مثار شك وريبة، في ظل الإصرار الروسي الرسمي على الزعم بأنها شركة خاصة لا ترتبط بالدولة. فروسيا ليست رأسمالية منفتحة كأمريكا، حيث يمكن وجود شركات خدمات أمنية مستقلة تستقطب المرتزقة من كافة أنحاء العالم. وفي أمريكا، لعبت الشركات الأمنية الشهيرة مثل بلاك ووتر دورًا إجراميا في حرب العراق وأفغانستان وغيرها من الدول، بالتنسيق مع البنتاجون، ولا يمكن أن تقوم بأعمال قذرة تضر بالمصالح الأمريكية.
وعلى النسق ذاته، امتدت خدمات شركة فاجنر في عدة دول لخدمة المصالح الرسمية الروسية، وسواءً تعلق الأمر بسوريا وليبيا والسودان أو أفريقيا الوسطى ومالي، واجهت قوات فاجنر في كل تلك الدول المصالح الغربية بالأساس، ودعمت حلفاء روسيا مثل بشار الأسد في سوريا وخليفة حفتر في ليبيا وقوات الدعم السريع في السودان. كما تصطدم فاجنر في الدول الإفريقية مباشرة بالمصالح الفرنسية، كما هو الحال في إفريقيا الوسطى ومالي، التي قامت بطرد قوات المستعمر الفرنسي القديم.
تمرد فاجنر الأخير مثّل تداعيًا في صورة بوتين كديكتاتور، وهو ما يمثل أكبر خطر على مستقبله
ويرجح الخبراء في الشأن الروسي أن يكون أحد أسباب العلاقات الوثيقة التي يتمتع بها قائد فاجنر مع دوائر الحكم في روسيا وأجهزتها الدفاعية والأمنية، هو عدم اقتصار خدمات شركته على الجانب العسكري والأمني فقط، بل تمتد لتشمل خدمات في مقابل الحصول على تسهيلات لإدارة الموارد الاقتصادية في الدول التي يعمل بها، مثل التنقيب عن الذهب والبترول وتصدير واستيراد المواد الخام.
ويعني هذا أن كبار المسؤولين الروس النافذين في دوائر الحكم والأجهزة الأمنية سوف "ينالهم من الحب جانب"، من أجل تسهيل أنشطة الشركة التجارية التي تدر الأرباح الأكبر. ولذلك لم يقوموا بالدفع نحو الانقضاض على بريجوجين والمسارعة بإلقاء القبض عليه ومحاكمته.
وربما تكون دراية بوتين بتلك العلاقات النافذة لقائد قوة فاجنر، والدعم الذي يحظى به داخل الجيش الروسي والمخابرات العامة والعسكرية، ورغبته في الحفاظ على ولائهم، أحد الأسباب الرئيسية للتعامل الذي بدا رخوًا مع التمرد العسكري. فرجل مثل بوتين، رغم كل قوته، يعتمد على دعم النخبة العسكرية والأمنية، وكذلك كبار رجال أعمال الروس الذي يرتبط الكثير منهم بمصالح مشتركة مع بريجوجين.
في الدول السلطوية مثل روسيا حيث حكم الزعيم الفرد، لا يمكن القطع بما يجري في دوائر الحكم المغلقة، خاصة إذا تعلق الأمر بالجيش والأجهزة الأمنية، ويبقى الحديث عن الخلافات الداخلية بين كبار القادة من باب الشائعات، وربما التمنيات من الدول الغربية التي تتمنى الخلاص من بوتين، وتعد أن الهدف الرئيسي من دعم أوكرانيا هو إضعاف الرئيس الروسي داخليًا.
ولكن المؤكد أن تمرد فاجنر الأخير، وبغض النظر عن حديث المؤامرات والمسرحيات المرتبة سلفًا، مثّل تداعيًا في صورة بوتين كديكتاتور وهو ما يمثل أكبر خطر على مستقبله، خاصة وهو مقبل على انتخابات رئاسية في مارس/آذار 2024، بناءً على التعديلات الدستورية التي أجراها في 2020، والتي تسمح له بالبقاء في منصبه حتى العام 2036 ليكون إمبراطورًا لروسيا، وليس مجرد رئيس منتخب.