في الصيف يحلو البطيخ. لكن البطيخة السليمة ثقيلة، تثقل الحركة النشيطة. لذلك، فالنشطاء لا يحملون البطيخ السليم. النشطاء يأكلون قطعًا من البطيخ المعدّة سلفًا، أو يشربون عصيره. من يحمل البطيخة الكروية بيد، وبالثانية يمسك الخبز، الذي سيأكل به الجبن البراميلي، غالبًا، مع البطيخ، هو رجل البيت الوديع.
رجل البيت الوديع، ذو الجلباب الصيفي، الخفيف الواسع ذي الكُمّ القصير، هو رجل الطبقة الوسطى المسالم، الحريص على الابتعاد عن المشاكل المرتبطة بالاشتغال بالشأن العام، أو الانشغال به. فإذا شارك في عمل عام، كان إسهامه في الجانب الآمن، المبارك من السلطة، والساعي إلى تعضيد شرعيتها الشعبية.
الرجل الذي يحمل البطيخة مرتديًا الجلباب لا ينشط في العمل العام، ولا يعمل بنشاط، ولا يبادر، فهل يمكن أن يعارض؟ هل يمكن أن يثور؟
هذه هي الصورة النمطية التي تستدعي، إذا ظهرت على غير توقع، خليطًا متنوعًا من المشاعر وردود الأفعال، أكثر تنوعًا من أطيافٍ شتى تنازعت الثورة والثورة المضادة ومواقف المراقبين من أعضاء حزب الكنبة، الجالسين منهم والراقدين.
قسوة ضرورية قبل الإنصاف
لا يصنع الأحداثَ الكبرى آحادٌ من أفراد الناس، مهما كان دورهم حيويًا في لحظة الإشعال. فإذا ظن فردٌ أنه صنع، وحده أو مع قليلين تحت مظلته، حدثًا ضخمًا، بحجم ثورة مثلًا، فلا يلومنّ إلا نفسه!
نعيب على الحكام المستبدين أنهم ينسبون لأنفسهم كل إنجاز، ويلقون بالمسوؤلية عن أي إخفاق أو كارثة على كاهل الحاشية. فهل هذا سلوك يحتكره رؤوس السلطة دون غيرهم من رموز الحراك الاجتماعي عمومًا، والثوري خصوصًا؟
حين تنفجر الأحداث، فإن جماهير الناس تعيد وضع أمر المسؤولية في نصابه، وتحمّل الرأس تبعات القيادة. تخرس ألسنة الدعاية السلطوية عن الكذب، وتهتف ضد الرأس الذي يحب أن يُحمد بما لم يفعل وأن يُذم غيره بما اقترفته يداه.
وبالمثل، فإن من يصدق أكذوبة أنه صنع الأسطورة وحده، فإن الحظ الأكبر من لعنة الأسطورة سيكون من نصيبه. فلو كُتِب للحدث الضخم النجاح والنصر، فإن مصدّق نفسه وأكذوبته سيتحدث من موقع الاستحقاق. فلماذا لا يضع احتمال الخسارة، ليستحق بأكذوبته القدر الأكبر من الهزيمة؟!
حين تكون تكلفة الحدث باهظة، من الأرواح والعيون والأطراف والأعمار المبددّة في العلاج من الإصابات المزمنة، فإن الواجب الأخلاقي على صانع الحدث، إذا كان، جدلًا، قد صنعه وحده، أن "يتواضع" فيما يعتقده توثيقًا لحكاية الحدث. فإذا لم يكن وحده قد صنع الحدث، ولا حتى الجانب الأكبر منه، فإن الواجب هنا ليس "التواضع" بل "التأدّب".
إذا تبجّح الحاكي وادّعى سرد "كل" الحكاية، واستنكف أن يقتصر على قص "شهادته" على "جانب" من جوانب السردية، فلا ينبغي له أن يُفاجأ بأن أعداء الحدث قد صدّقوه، أو تظاهروا بذلك، واستهدفوه بكل ما أوتوا من جبروت.
وإذا تباهى مُشعل آخر عود كبريت بدوره في تفجير بركان الحدث، من دون التفات إلى عشرات الآلاف ممن سبقوه إلى تخزين الوقود عبر السنوات قبل أن يلقي بعوده الملتهب، فلا يحزن إذا احترق باللهب الخالص. فلكل حدثٍ ضحاياه، ولكل حدثٍ أعداؤه. ومن تصدّر المشهد في مواجهة الكاميرات، لا ينبغي له أن يحزن إذا استُبدلت المدافع بالكاميرات، أو إذا حل تدبير الغرف المغلقة محل الملاسنات العلنية.
هذا هو الدرس القاسي، نستخلصه من دون تشفٍّ ولا شماتة، بل بكل الأسى والحزن.
ورحمةٌ واجبةٌ قبيل الإنصاف أيضًا
اتفقت الحضارة الإنسانية المعاصرة، كما الأخلاق في القرون الغابرة، أن المحارب إذا وقع في الأسر وجب حسن معاملته. فإذا أصيب، وإن كان عدوًّا معتديًا، لا يجوز الإجهاز عليه. وإذا مات أو قُتل، فلا يصح ولا يليق أن يُمثّل بجثته.
وإن كنت أرفض الفلكلور الذي يعتقد أن الله يعاقب الشامت والساخر المتنمّر في أولاده، فهل يرعوي الشامتون والمتنمّرون إذا تصادف ووقعوا، أو وقع ذووهم، فيما سخروا منه وشمتوا فيه؟ هل ينتظرون شيئًا من هذا كي يكفّوا عن غيّهم؟
أتعجب لأناس من لحم ودم وأعصاب، تدمع عيونهم لمرأى مقطع فيديو يصوّر حيوانًا يتألم مصحوب بموسيقى مؤثرة، ثم تقسو قلوبهم على أناسٍ مثلهم، دار بهم الزمن وفعل بهم الأفاعيل!
ثم الإنصاف العزيز الواجب
هل أعلن هزيمته؟ الإجابة: لا، بل أعلن استسلامه!
ولكن، مهلًا.. متى تم هذا؟ وبعد ماذا؟!
عشر سنوات كاملات من الحرب التي لا هوادة فيها. عقد من الزمان سقطت فيه أنظمة، وانهارت فيه تحالفات، واندلعت فيه الحروب، وانتشرت فيه الأوبئة، وتغير فيه مناخ الكوكب!
استهدفه، وحده، ثلاثة أجهزة. تخصص جهاز منها في تصفية أكبر تنظيم سياسي في المنطقة، وركّز جهاز آخر في محاربة أخطر تنظيم مسلح في الإقليم وفي تاريخ البلد. لم يقوما به وحدهما، بل دخل الثالث، السيادي الكبير، معهما لتحقيق هدف بسيط: إسقاط فرد!
حوصر حصارًا شديدًا، أطول من حصارات عكّا التاريخية. تلاعبوا بكل شيء في حياته. فقد أقرب رفقائه في الحدث في اختفاء غامض، وضُغط عليه بشقيقه.
زُلزلت دفاعاته، وشُنت عليه حرب نفسية واجتماعية ضارية، وانكشف ضعفه وهشاشة تكوينه النضالي بمرّ الخطوب عليه. ودهسته قطارات مسرعة على قضبان صدئة، فتطاير الشرر من أضلاع صدره.
فَمَن منّا يحتمل ما مرّ به؟ ومَنْ مِنَ الشامتين يصمد مثلما صمد لسنوات قبل أن يسقط سقوطًا مدويًا أراد الخصوم بتوقيته إعلان انتصارهم الرمزي الكبير: متحالفين، كلهم، على ... فرد واحد!
والله لو كان صديقي، أو كان لي به سابق معرفة شخصية، لذهبت إليه واحتضنتُه باكيًا مبتسمًا، ولقلتُ له: حلال عليك الجبن والبطيخ، هنيئًا مريئًا.. جبن أبيض كنوايانا، وقشرة خضراء كأحلامنا، وألياف حمراء بلون دماء شهدائنا، وبذور سوداء كليالي السجن الكالحة!
هزمونا، فمنّا من قاوم ولا يزال، ومنا من استسلم فانهزم من داخله. وهزموك يا رمز، ثم انهزمتَ، لكن بعد صمود أسطوري، كصمود حملة رايات الألتراس في مواجهات محمد محمود. هنيئًا لك بطيخة الهزيمة الكريمة، ولروحك السلام.
ولا تيأس من رَوْح الله، فهو يحيي الأرض بعد موتها!