حكايات الحرب والحرب والحرب!
"أسوأ ما في الحرب تناسل الأحداث الغرائبية، وتحول القصص المأساوية إلى حدث عادي". من رواية الموت عمل شاق، لخالد خليفة.
مرحبًا، اسمي حمّور زيادة. أنا من بلد تأكلها الحرب.
لو أنك رأيت حربًا، فكأنما رأيت الحروب جميعًا. ولو أنك قرأت عن حرب، فلن يساعدك ذلك على الاستعداد لها، لكن ستأخذ فكرة. بيد أننا، رواة الحكايات، لا نملك غير قص القصص عن الحرب. لن يساعدك ذلك كثيرًا، لكن من قال إن الحكايات يجب أن تساعدك؟
في روايته الموت عمل شاق يحكي خالد خليفة عن رحلة يقطعها أبناء عبد اللطيف السالم إلى قريته لدفنه.
في غير الحرب لا يمكن أن تكون مسيرة الدفن حدثًا ملهمًا لرواية، لكن فيها يختلف كل شيء. والحرب هي الحرب. قبل أيام قطعت أسرة سودانية رحلة مشابهة لرحلة أسرة السالم لدفن والدهم. تعرضت الأسرة لإطلاق الرصاص. مات منهم من مات، وأصيب من أصيب. تتشابه الحروب، في السودان أو في سوريا. لا فرق.
ذلك الجو المسموم بالموت، والاختفاء، والفقد، والدمار.
تتحول القصص المأساوية إلى حدث عادي في اليومي. لكن في ذلك العادي تختبئ مئات الحكايات
أهرب إلى رواية السندباد الأعمى لبثينة العيسى. الحرب في الكويت. تدفن الأسر الكويتية مقتنياتها الثمينة لتحفظها من نهب جنود الاحتلال. هل عندما فعلت الأسر السودانية في الخرطوم الأمر ذاته كانوا ينقلون التجربة الكويتية؟ أنا واثق أن قريبتي التي دفنت بعض غواليها لم تقرأ لبثينة العيسى.
هل يتشابه الناس؟ ربما. لكن المؤكد أن الحروب تتشابه. وهذا يجعل تعاملنا معها يتشابه.
تتحول القصص المأساوية إلى حدث عادي في اليوم. لكن في ذلك العادي، تختبئ مئات الحكايات.
"في الأشهر الأخيرة لم يعد أحد يسأل عن سبب الموت وتفاصيله، يعرفونها جيدًا، الموت تحت القصف، تحت التعذيب في المعتقلات، قتل بعد الخطف لطلب فدية، رصاص قنّاص، معركة، أمّا الموت كمدًا أو بسبب خيانة الجسد لصاحبه، فهي ميتات نادرة هذه الأيّام". من رواية الموت عمل شاق، لخالد خليفة
حكايات الحرب وقصص الفارين من البلاد التي تأكل نفسها موجعة. متى يمكن أن يتخفف الإنسان من الوجع ليعيد غزل تلك الحكايات؟
لكن ما الجديد؟ قرأتُ في رواية قديمة عن تنكّر الفتيات في زي الصبيان هربًا من انتهاكات الجنود. لقد فعلنا ذلك في السودان. أعرف أسرة حلقت شعر بناتها، وألبستهن ملابس الصبية. مثل الروايات القديمة نجحت الحيلة، وعبرت الأسرة الحدود إلى مصر.
لأكثر من أسبوعين في بداية الحرب حُبس المئات في أماكنهم؛ الذين لم يكونوا محظوظين كفاية لتندلع وهم في أماكن آمنة. منهم مجموعة من الطلاب وجدتهم الحرب داخل جامعة الخرطوم. مقطوعين عن أهلهم، وبين أيديهم زميل يموت. بين أيديهم زميل مات. بين أيديهم جثمان يحتاج أن يوارى.
قام الطلاب بدفن زميلهم في فناء الجامعة. هكذا، دون قبور مجاورة تؤنسه. هذا ما كان متاحًا. فما كان عاديًا قبل الحرب، لم يعد عاديًا اليوم. انقلب العالم.
"حتى ذلك النهار، كان كل شيء في مكانه؛ البشر على اليابسة، السمك في البحر أو في المقلاة. لم ينقلب العالم رأسًا على عقب". من رواية السندباد الأعمى – أطلس البحر والحرب، لبثينة العيسى
يوم 14 أبريل/نيسان كان آخر أيامنا العادية. عندما كان كل شيء في مكانه؛ السماء تظلنا، الأغنيات على الشفاه، عاشقان تتلصص أصابعهما للمسة سريعة، الكتب على رفوف المكتبات.
ثم انقلب العالم رأسًا على عقب.
غطى الدخان السماء. مزّق صوت رصاص الأغنيات. مات العاشقان. ودخل الجند المكتبات؛ وأحرقوها.
حين تعيشها ستعرف أنها ليست كائنًا غريبًا. إن الحرب حميمية وقريبة جدًا
أتذكر مقتنياتي الثمينة. كنزي من الحياة في بيتي في الخرطوم. مجموعات الصور العائلية التي تبدأ منذ لحظة ولادتي، تجمع أسرتنا الصغيرة. مكتبتي التي عدتُ إليها بعد هجرها لأكثر من عشرة أعوام. وجوائزي الأدبية التي نقلتها من القاهرة إلى الخرطوم قبل شهرين من الحرب! ما لم يكن كنزي هذا قد احترق، فإن بعضه الآن يحمله جندي كجائزة انتصار.
هل تعرف الحرب؟ أقرأ عنها في الروايات. ستعرف حكاياتها الصغيرة التي لا يتلفت إليها الناس عادة. لا يهم أين تدور أحداث الرواية. فالحرب هي الحرب.
لكن لا تتوهم أنك قد عرفتها، ما لم تعشها.
حين تعيشها ستعرف أنها ليست كائنًا غريبًا. إن الحرب حميمية وقريبة جدًا. إن "الحرب شقيقتنا الكبرى"، كما قال جوزبه كاتوتسيلا في روايته لا تقولي إنك خائفة.
" في الحرب يكفيك أشياء صغيرة للأمل، تعاطف عسكري على حاجز، حاجز غير مزدحم، سقوط قذيفة بعد مئات الأمتار عنك على سيارة كانت تزاحمك على أخذ دورك.. حياة جديدة منحتك إياها الصدفة، لو لم تزاحمك هذه السيارة لسقطت القذيفة عليك، هكذا يفكر البشر الذين يعيشون تحت سقف الأمنيات الواطئ في الحرب"، من رواية الموت عمل شاق، لخالد خليفة
مرحبًا، اسمي حمّور زيادة. أنا من بلد تأكلها الحرب.
لو أنك رأيت حربًا، فكأنما رأيت الحروب جميعًا. ولو أنك لم تقرأ عن الحرب فاقرأ عنها. ستعرف حكاياتها الصغيرة، وستأخذ فكرة.