يعترف كثير من الروائيين العرب والأجانب بدور الجدة في تشكيل وعيهم الحكائي. فالجدات في أغلب الثقافات مظنة الحكمة والتراث، وهن حملة شعلة الأسطورة.
ولدت حاملة أسطورتي الخاصة في السودان بمدينة أم درمان في العام 1916. كانت الحرب العالمية الأولى في أوجها. والبلاد منذ 18 سنة تغير شكلها، إذ انهارت دولة المهدية، وجاء الحكم البريطاني المصري. كان اسمها بتول بابكر. وبتول اسم سوداني شائع، مأخوذ عن اسم مريم العذراء، البتول، أم المسيح عيسى بن مريم. واسم والدها بابكر هو تحريف سوداني شهير لاسم أبو بكر.
كان جدها لأبيها رجلًا متعلمًا في وقت قلّ فيه التعليم. فاشتغل بالتجارة، وتوظف في الدولة المهدية كمحاسب. كانت وظيفة مرموقة وتسمى وقتها بالكاتب. مكانة الكاتب جعلته صديقًا لنخبة الدولة المهدية (1885 – 1898)، وكان منهم النمساوي رودولف كارل، المعروف باسم سلاطين باشا. وذلك رجل عجيب، له في تاريخ السودان ذكر.
خدم سلاطين في الحكومة الخديوية المصرية رغم أنه كان ضابطًا نمساويًا، وأصبح حاكمًا لدارفور. ثم وقع في أسر المهدي عندما اشتعلت الثورة، فأسلم، أو تظاهر بذلك، وانخرط في خدمة الدولة الوطنية الجديدة. عاش في أم درمان، يلبس الجلباب، ويلازم المسجد، ويجالس خليفة مهدي الله.
ثم فجأة، وفي عملية مخابراتية محكمة، يفر النمساوي عام 1895 إلى مصر. وهناك يكتب كتابه الأشهر السيف والنار في السودان، ضمن حملة الدعاية التي نظمها ثعلب مخابراتي اسمه ريجنالد ونجت باشا لتهيئة الرأي العام لإعادة غزو السودان.
لم تشفع صداقة الجد الكاتب مع سلاطين باشا له عندما وقع الغزو. أو لعله لم يتوسل بها. ففر من أم درمان مع بقية المؤمنين بالمهدية، الذين نزحوا عن العاصمة إذ دخلها جند الاحتلال. الكفرة كما كانو يسمونهم. وعاش الجد بقية حياته منفيًا، يحلم بدولة المهدي المنتظر.
لكن الدولة لم تعد. والصديق النمساوي القديم أصبح حاكمًا في السودان الإنجليزي المصري الجديد. وبعد وفاة الجد عاد أولاده العشرة إلى أم درمان يطلبون الرزق.
ومثل والده التحق بابكر بوظيفة حكومية، في وقت كانت فيه وظيفة الحكومة تعني الترقي الطبقي والحصول على الامتيازات. ورُزق ببكريته بتول. ولدت من أم تنتمي لأسرة أم درمانية شديدة التعصب للمهدية، لكنها -الأسرة- انخرطت أيضًا في وظائف الدولة الجديدة. فكان خالها مأمورًا، يقف كتفًا بكتف مع المآمير المصريين والإنجليز، لكنه يترفع عليهم، لأنه دونهم مؤمن بالمهدي الذي به يكفرون.
في تلك المدينة المضطربة الولاء، بين الماضي الذي يرفض أن يموت، والحاضر الذي يؤسس بنيانه بحذر شبت الطفلة بتول. فتعلمت القراءة والكتابة، وحفظت القرآن والأشعار والمدائح النبوية. وامتلأ خيالها بالحكايات. حكايات التاريخ، وحكايات الأساطير.
وعنها، أخذت أسطورتي الخاصة.
هكذا يفعل الفنانون. يحبون أن يشعر الجمهور بمجهودهم. لا يبذلون فنهم لكل طالب
في حوالي العام 1999 كتبت واحدة من قصصي الأولى. أسميتها حجيني يا جدتي، نُشرت لاحقًا في عام 2008 بمجموعة قصصية بعنوان سيرة أم درمانية. يقول الراوي عن بطل القصة "يرى نفسه طفلًا صغيرًا يتعلق بذيلها ويرقب الليل شغفًا ليتربع بين يديها ويقول مستعطفًا: حجيني يا جدتي".
ذلك الطفل كان أنا.
كانت جدتي سيدة وضيئة الملامح. جميلة رغم تقدمها في السن. لابد أنها كانت فاتنة في صباها. فملاحتها رافقتها عبر السنوات. كان خداها محفوران بالشلوخ السودانية، وتلك كانت عادة مشتهرة في تلك الحقبة. وشفتها السفلى سوداء محقونة بالوشم. لكن أجمل ما فيها عيناها الصافيتان. كانت تقرض الشعر، وتحب المدائح النبوية، والمسلسلات الإذاعية.
لكن لم يكن لفتاة سودانية من أسرة محافظة أي مستقبل في ذلك الزمان إلا الزواج. فتزوجت من ابن خالها. لا فرص لفتاة من أسرة أكثر من أن تؤسس أسرة أيضًا. حتى حينما رغبت في تعلّم الخياطة –وكانت صيحة للأرستقراط وقتها– جاء لها والدها بفتاة عاملة من شركة سنجر لتعلمها الخياطة في المنزل. فبنات الأسر لا يخرجن لورش الخياطة مثل بنات الأرمن واليونان وفقراء البلاد.
حاصرت التقاليد شعلتها الوقادة. لكن ذلك حفظها كاملة لي. كنت محظوظًا بالقيود التي كبّلت موهبتها. فتلقيت عنها كل ما حفظته وألفته دون أن يبليه الاستعمال.
أجلس إليها ليلًا، في فناء بيتنا الخلفي. يضيء علينا مصباح وحيد أصفر اللون. ونسمات الجو الأمدرماني الحار ترقّص أوراق شجرة جوافة يتيمة بين أشجار الليمون. أستعطفها قصة. فتضحك. ينير وجهها كالبدر. وكروائية محترفة تدعي التعب وتتدلل. هكذا يفعل الفنانون. يحبون أن يشعر الجمهور بمجهودهم. لا يبذلون فنهم لكل طالب. ثم تلين، وتبدأ الحكي.
نسمي في السودان قصص الجدات بـ"الأحاجي". ومفردها "حجوة". والأحاجي مفردة عربية فصيحة، تعني الخرافات والأساطير والألغاز. وجدتي كانت سيدة الأحاجي.
تحكي كشاعر ربابة مخضرم قصص الأنبياء، وألف ليلة وليلة، والدولة المهدية، وحكومة الأتراك المصريين، وقصص محمد وفاطمة السمحة. ومحمد هو المعادل السوداني للشاطر حسن. وفاطمة السمحة، أي الجميلة، هي أخته التي ينقذها من الغول حينًا، والأميرة التي يتزوجها حينًا آخر.
تحكي بولع ما تحفظه، وتعيد التأليف والتركيب كلما أعادت قص الحكاية. فالحجوة في كل مرة تختلف. يعيد صياغتها ذهن مبدع كان ليمتهن الرواية لو كان الزمن غير الزمن. لكن من يغالب حكم الزمان!
من جدتي بتول تلقيت الشعلة الأسطورية. ومن متعة السماع انتقلت إلى لهفة أن أكون مثلها. قاص يشعر بتلك السعادة التي تبدو عليها حين تقص. وتمنيت أن أخلب لب قارئ واحد مثلما تخلب بتول لبي.
تلك أسطورتي الخاصة التي أطاردها. وأكتب من أجلها. أن أحكي يومًا ما حكاية، فيها تلك المتعة التي كانت في أحاجي جدتي.
ماتت جدتي بتول، صاحبة الأسطورة في الأيام الأولى من عام 2000. لكن أسطورتها ما زالت حية في قلبي.
وحين أسمع أو أقرأ لروائي يذكر أثر جدته على تكوين وعيه السردي، يداعبني صوتها الضاحك بعد أن أتوسلها "حجيني يا جدتي".