تتسلط عليّ حكاية فيل السلطان* الذي يعيث فسادًا بين بيوت الفقراء، يدهس أطفالهم ويدمر ممتلكاتهم البسيطة، حتى يتخلى الخائفون المرتعشون عن جُبنهم، ويتقدمون لقصر الحاكم مطالبين بحلٍ وهم يصرخون "الفيل يا مولاي السلطان". وعندما يهب فيهم الرجل، يرد عليه أحدهم أن الفيل "يحتاج لرفيقة تؤنس وحدته، وتقلل من غضبه وهياجه اللذان يدفعانه لفعل أشياء هو نفسه لا يحبها".
أتذكر هذا الفيل في المناقشات التي تدور بين المعنيين بالسياسات العامة عندما يتحدثون بثقة المؤمنين عن نهاية عصر الأيديولوجيا، مفعمين بثقة العميان المحشورين في غرفة ضيقة مع فيل ضخم، ينكرون وجوده رغم أنه جاثم على أنفاسنا.
لهذا الفيل اسم: الليبرالية الجديدة والاستقرار الأمني والوطنية الزائفة، طوفان ينهمر علينا من كل فتحات جسد الفيل الهائل، طوفان من الأوامر والتوجيهات والنصائح والإرشادات.
أفكار متوالية، يمليها علينا عادة الزعيم والمتحدثين باسمه، بشأن كيفية تنظيم الاقتصاد والبلاد، ودور المؤسسات الأمنية والعسكرية في إدارة الدولة، والتعبئة المستمرة حول شعارات خاوية بشأن أولوية الوطن ومصالحه وقيمه، التي هي غير معروفة سوى للنخبة الحاكمة، وربما ليس لها ذاتها أحيانًا.
كل هذه الأفكار والأدوار والشعارات تشكل خرطوم وآذان وأقدام وأنياب الفيل الأيديولوجي الذي يحتاج، ونحتاج معه، لفتح الباب وتنفس بعض الهواء والتفكير بهدوء، عوضًا عن مطالبات البعض الخانع الراكع المستفيد للسلطان بأن يأتي للفيل برفيق/رفيقة تؤنس وحدته، كما تعلمنا المزحة القديمة السخيفة.
عندما يتحدثون عن نهاية الأيديولوجيا يعنون نهاية خطر الإسلام السياسي بنسختيه الإخوانية والداعشية
ورفيقة الفيل، كما يقدمونها، تتبلور في مزيد من النداءات في برلمان الجهاز التنفيذي وصحف الجهاز التنفيذي وقضاء الجهاز التنفيذي من أجل فرض مزيد من الضرائب على الاستهلاك، والرسوم على السلع، وتقليل الإنفاق على التعليم والرعاية الصحية، واقتراض المزيد من النقود لإنفاقها على التسليح ومشاريع البنية التحتية المفتقرة لدراسات جدوى، أو تعود جدواها على أصحاب شركات المقاولات الكبرى وبعض مؤسسات الدولة والعاملين فيها
غرف مكدسة
لماذا لا يرون الفيل ويتحدثون في منطقتنا عن نهاية الأيديولوجيا وسيادة البراجماتية وأولوية العمل، دون دراسة وتفكر؟ ربما لأن هذا الحوار والإطار يخدم مصالحهم، ويطلق مزيدًا من الدخان في الغرفة المحشورون نحن فيها، بينما يحصل الحواريون على أماكن بجوار الشبابيك القليلة والأبواب، ويقف السدنة على المداخل والمخارج، ويحيط الأمن والزعيم بنا جميعًا. وربما لأنهم حقًا عميان، عميان أيديولوجيًا على وجه التحديد!
عندما يتحدثون عن نهاية الأيديولوجيا في بلادنا، فهم يعنون على الأغلب نهاية خطر/تحدي الإسلام السياسي بنسختيه الإخوانية والداعشية، عن كيف تهاوى الإخوان المسلمون في مصر، بيدهم هم أنفسهم وبيد غريمهم السياسي الرئيسي: مؤسسات الدولة الأمنية والعسكرية، وعن كيف تراجعوا في تونس، وكيف انقلعوا من السلطة في السودان وترنحوا في ليبيا وفشلوا في غزة وسوريا واليمن، وكيف يواجهون صعوبات فائقة في تركيا.
لدينا ليبرالية متوحشة في قلب النظام الاقتصادي العالمي، ونسخة مذهلة التشويه منها في بلداننا
وعندما يتحدثون عن نهاية الأيديولوجية يعنون أنه لم يعد هناك وقت ولا مكان في هذا العالم لتلعب الدولة دورًا في تسيير الاقتصاد وحماية الطبقات والفئات الأضعف، لتوفير حد أدنى من التعليم والرعاية الصحية والمأوى لا يجوز النزول عنه. وعندما يتحدثون عن تلك النهاية، ينعون إلينا أفكارًا ومؤسسات ضخمة تهاوت، وإن ظلت هياكلها الخاوية تلقي بظلالها السخيفة علينا، مثل القومية العربية وجامعة دولها.
ولكن من الخطل الادعاء بأننا لا نعيش في عصر تسيطر عليه أيدولوجيا أو نسق معين من الأفكار والتصورات يستند على بناء قيمي محدد، وهو واضح في بلادنا في مزيج مرعب من الليبرالية الجديدة والقومية الرثة والسلطوية المفرطة التي يقف خلفها تحالف من المؤسسات الأمنية ورجال الأعمال، وتدعمها الدول الغربية عمومًا وكبرى الدول الإقليمية والمؤسسات المالية الدولية.
كيف تحول الربيع العربي شتاءً
اعتقدنا في بداية الربيع العربي، أو في عامي زهوة الحلم بالتغيير العادل 2011-2013، أن هناك فرصة لبناء أيديولوجي مغاير، يعتمد على حد أدنى من العدالة الاجتماعية الاقتصادية والمشاركة الديمقراطية في السلطة، وقبول حدود ما دنيا لحقوق الإنسان.
تحطم كل ذلك على يد الجماعات الإسلامية المغامرة الفاشلة، ثم بشكل أقسى وأوضح على صخرة المؤسسات الأمنية والنخب الحاكمة بدعم من دول النفط الخليجية الخائفة من الاضطراب السياسي وإسرائيل، التي تفضل الشراكة مع الديكتاتوريات المتعاونة عوضًا عن مشاريع دول ديمقراطية مهتزة، قد تتعاطف أكثر مع الحقوق الفلسطينية.
وحتى الولايات المتحدة وأوروبا التي كانت تساند الأيديولوجيات الليبرالية السياسية تراجعت، وغيرت موقفها مفضلة إعادة تأسيس ودعم نظم أمنية قوية تعمل بحزم وشراسة ضد الهجرة خارج نطاق القانون، وضد التهديدات الإرهابية، وتتعاون من أجل ضمان أمن الخليج النفطي وإسرائيل.
عمّا تخلت الليبرالية الجديدة
وعلى عكس النظم الليبرالية التي سادت العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الثمانينيات، تخلت الليبرالية الجديدة عن قطاعات واسعة من نظم الرعاية الاجتماعية والإنفاق الواعي على خدمات الصحة والتعليم المجانية، واستعمال الضرائب التصاعدية من أجل الحيلولة دون اتساع هوة اللا مساواة بين الطبقات.
وهكذا صارت لدينا ليبرالية متوحشة في قلب النظام الاقتصادي العالمي، ونسخة مذهلة التشويه منها تفتقر للحريات السياسية وتعوم في مستنقع من الفساد والفشل في بلداننا. والمذهل أن نجد لدينا معلقين من أنصار السوق الحرة يقولون لك: آه لو قللنا تدخل الدولة في الاقتصاد لوفر القطاع الخاص ما نحتاج من الوظائف! ولو قمنا برفع الدعم تمامًا لانصلح حال الأسعار وانخفض التضخم! ولو عاقبنا هؤلاء "الفقراء الجهلة" الذين ينجبون مزيدًا من الأطفال ويثقلون كاهل ميزانية الدولة المتعبة لوفرنا مليارات ومليارات! ولو خفضنا سعر صرف الجنيه لزادت الصادرات! ...إلخ.
هؤلاء المعلقون، خاصة من حائزي شهادات الدكتوراه، هم غالبًا مؤمنون وليسوا مجرد حفنة من المداهنين المطالبين باستقدام رفيقة لفيل السلطان المدلل. هم مؤمنون لأنهم يتعامون عن اختلافات راديكالية وهم يقارنون ما يجرى في بلدان متعبة على أطراف هامش الاقتصاد العالمي مثل مصر بما يجرى في بلدان داخل متن هذا الاقتصاد نسبيا مثل تركيا والهند أو "حتى". يا للبجاحة، مع بلدان تقود هذا الاقتصاد الكوني مثل الولايات المتحدة وألمانيا؛ هم مؤمنون لا يلتفتون لمجريات التاريخ وطبيعة الدولة والمؤسسات المسيطرة وسبل تداول السلطة وصنع السياسات في هذه الدول المختلفة.
هؤلاء المعلقون مؤمنون يعتقدون أن فشل السياسات النيوليبرالية في بلدان مثل مصر، على سبيل المثال، هو نتيجة "تشوهات" و "فساد"، وليس أمرًا حتميًا في ضوء الوضع النسبي لمصر في هيكل الاقتصاد الكوني ولقصور ذاتي داخل هذه السياسات، ولمشاكل ضخمة تواجه النظام الاقتصادي الدولي منذ أزمتي الأسواق المالية الطاحنتين في عامي 2008 و 2018.