في بلدنا كما في بلدان تشاركنا الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، نجد عاملاً مشتركًا في ثقافاتنا وعاداتنا الاجتماعية. ووضع المرأة واحدٌ من أهم محاور تلك العادات.
فهي إنسانة "تنقصها الحكمة تغلب مشاعرها على عقلها.. خُلقت للزواج والإنجاب وما يتبعهما من مهام وواجبات".. تنجح النساء في الفضاء العام، تحزن شهادات علمية لها وزنها وتتقلدن مناصب عليا. ولكن ما رسخ بأفكارنا يصعب تخطيه إلا قليلا.
وما عادة التشويه الجنسي للإناث و"الدخلة البلدي" وكشوف العذرية إلا نماذج لتلك النظرة الدونية للنساء، والإصرار علي أن دورهن الأساسي – إن لم يكن الأوحد- هو إرضاء الزوج ورغباته، والقيام بأعباء إدارة البيت دون الحق في اتخاذ القرارات الهامة التى تخص الأسرة.
في بلدنا ننهر الطفل عندما يبكي لأنه مش بنت، الرجل لا يبكي، الرجل لابد أن يكون قويا. في بلدنا يجب علي الطفلة أو الصبية أن تساعد في أمور البيت بما فيها طلبات أخيها. يكبر الأولاد والبنات علي مفهومين متباينين للذكورة والأنوثة، وعلي صفات متباينة أيضا للذكورة والأنوثة.
تُبنى أسر جديدة، لكنها تحرص على أن تحمل ميراث أفكار وعادات تُعلي من شأن جنس وتحط من قدر الجنس الآخر، وتبدأ تداعيات ذلك في الظهور في العلاقة بين الزوجين!
كلام نظري يعرفه الكثير منا، يقبله البعض ويهاجمه البعض. البعض يلبسه قسرا ثوب الدين، والبعض يصر علي عدم تغيير ما وجدنا عليه أباءنا. والبعض يرفض أن يري الحقيقة ويعيش حالة من إنكار الواقع، ويتصور آخرون أن الحديث عن العنف ضد النساء هو محض عداوة لجنس الرجال.
والنتيجة: دائرة لا تنتهي من العنف ضد النساء في البيت والشارع والعمل والمواصلات.. دائرة عنف من الطفولة وقد لا تنتهي إلا بانتهاء الحياة. الموضوعات النظرية بطبيعتها تحتمل الجدل، ولكن قصص الحياة المريرة قد تحسم هذا الجدل إلا عند من كابر واستعلى. دائرة محصلتها أن 99% من نساء مصر يتعرضن للعنف الجسدي أو الجنسي بحسب إحصاء للأمم المتحدة.
ثلاثة وعشرون عاما في مركز النديم، نعيش مع المعذبين والمعذبات حكايات تدمي لها القلوب.. وتترجم المقولات النظرية لواقع قاس، وتجعلنا أكثر إصرارا علي مناهضة العنف بكافة أشكاله.
عشنا مع أبناء نساء قُتلن نتيجة الضرب الوحشي، ومع نساء عشن بعاهات مستديمة أو أمراض نفسية نتيجة العنف الممارس عليهن داخل الأسرة.
عشنا مع نساء حرمن من العمل بأمر الزوج، وطُلقن أو فضلن الطلاق عن حياة تخلو من الإنسانية. نساء فضلن العمل في مهن وأعمال قاسية لتدبير موارد لتربية أولادهن، ورأين أن ذلك أفضل من العيش في ذل وإهانة الاستمرار فيما يسمى ظلما "بيت الأسرة"!
لا أستطيع أن أنسي من فقدن حياتهن نتيجة العنف، ولا أستطيع أن أنسي من حرقن وخضعن للعديد من الجراحات لإزالة بعض أثار الحروق. مرت علي سبع حالات حروق شديدة علي الأقل، اثنتين بموقد غاز مشتعل، وواحدة بسكب كيروسين وإشعاله، وواحدة بسكين يحمى علي النار ويسلخ به الجلد، وثلاثة بمادة كاوية. مرت علي حالات لنساء مصابات بكسور في الذراع والحاجز الأنفي، ومصابات بتمزق في طبلة الأذن. رأيت نساءً فكرن بشراء سم وأكله مع أطفالهن ليموتوا معا.
عشت مآسي نساء يضربن ليجبرن علي المعاشرة الزوجية وهن في أول أسبوع حداد علي فقد الأم أو الأب أو الأخ أو الأخت.
الدولة مازالت تغض الطرف عما يحدث من عنف داخل الأسرة. وعندما أقول الدولة، فالمعنى أوسع من إيجاد قانون يحمي النساء من العنف المنزلي. المعنى الذي أقصده هو استراتيجية وطنية كاملة من تعليم لثقافة لفن لقانون، وآليات حماية للمعنفات. فبدون الاشتباك مع موروثاتنا الثقافية، يصعب حل الإشكالية بالقانون فقط.
ومع ذلك أؤكد أن القانون رافعة هامة للتغيير، علي أقل تقدير يعلن للجميع أن لا صك الأبوة ولا الأخوة ولا صك الزواج يمنحك الحق في الاعتداء علي ابنتك أو أختك أو زوجتك.
في مايو/ أيار 2015، اُطلقت الاستراتيجية الوطنية لمناهضة العنف ضد النساء. مر عام ونصف العام تقريبًا على إطلاق تلك الاستراتيجية، إلا أن الدولة لم تتخذ أية خطوات في اتجاه تنفيذ توصيات الاستراتيجية بإصدار قانون لتجريم كافة أشكال العنف ضد النساء.
وقعت الدولة علي الاتفاقيات المعنية بالعنف ضد المرأة، لكنها لم تعدل قوانينها لتتماشي مع جوهر تلك الاتفاقيات. وهنا تزداد المعضلة؛ فالزوجات نادرًا ما تلجأن للقضاء بسبب الضرب مثلاً، فأيديهن مغلولة بسبب وجود أطفال، وبسبب تهديد ووعيد الزوج، أو بسبب التقاليد. فتسلك الزوجة طريق التطليق خُلعا للخروج من دائرة العنف، وهنا ينبغي أن نُذكِّر أن 70% من القضايا المنظورة أمام محاكم الأسرة هي طلبات الخلع.
حتى في الحالات النادرة التى قررت المرأة أن تسلك طريق القضاء، تجد الصعوبة تلو الأخري بدءًا من قسم الشرطة، مرورا بالنيابة وانتهاء بمنصة القضاء. فالقائمون على القانون أسرى نفس الأفكار، أو في أفضل تقدير يعلون من فكرة الحفاظ علي البيت بصرف النظر عما يحدث داخله.
وتقديرا لأهمية القانون عمل مركز النديم من 2005 علي مشروع قانون لحماية النساء من العنف الأسري، دارت حوله أوسع مناقشة مجتمعية ممكنة: عشرات المؤتمرات ومئات الندوات من الإسكندرية لأسوا،ن من قضاة لصحفيين لمحامين لمسئولي الجمعيات الأهلية والمنتفعات بخدمات الجمعيات التنموية والخدمية. وتم قبول مشروع القانون في برلمان 2010 ثم تاه مع حل البرلمان في 2011 عقب الثورة.
لقد ثار الشعب المصري ضد الظلم والإظلام في 2011. ألا يمكننا أن نثور ضد الظلم الذي نمارسه نحن تحت مبرر الحب والتربية والتقاليد؟