يبدأ البابا تواضروس الثاني غدًا زيارة جديدة إلى الفاتيكان، في إطار الاحتفال بمرور خمسين سنة على أول لقاء بين بابوي الكنيستين؛ القبطية الأرثوذكسية والكاثولكية، منذ القطيعة الكبرى عقب مجمع خلقيدونية في 451، بسبب الخلاف حول طبيعة المسيح.
أدى هذا الخلاف إلى انشقاق الكنيسة إلى قسمين: كنائس خلقيدونية، وفي مقدمتها كنيسة روما الكاثوليكية، التي قبلت قرارات المجمع ومن بينها حرمان بابا الإسكندرية ديوسقوروس وعزله، وكنائس غير خلقيدونية، ومنها الكنيسة القبطية الأرثوذكسية التي رفضت قرارات المجمع.
وبمجرد الإعلان عن الزيارة، تزايدت حدة الأصوات المناوئة للبابا تواضروس، التي لا تترك مناسبة دون توجيه الانتقادات إليه، تارة بإهمال إرث البابا شنودة الثالث، وأخرى بالتفريط في العقيدة الأرثوذكسية والتبعية للفاتيكان. على النقيض من ذلك، لا يزال قطاع آخر من المسيحيين يحمل أملًا في سد الفجوات اللاهوتية والعقائدية بين الكنيستين الكبيرتين، وصولًا للوحدة المسيحية، والاحتفال بالأعياد والمناسبات الدينية في التوقيتات نفسها.
هذا الجو من المشاحنات، ليس بجديد على الكنيسة القبطية، ووصفه الأنبا دانيال سكرتير المجمع المقدس في لقاء مع قناة سي تي في التابعة للكنيسة بأن هناك أطرافًا لها "مصالح شخصية" تسعى لضرب وحدة الكنيسة واستقرارها.
يمكننا القول بأنه منذ عام 2017، تعيش الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في أزمة حادة ومستمرة، تتصاعد وتيرتها أحيانًا، وتخفت أحيانًا أخرى. ففي أبريل/نيسان من ذلك العام، أعلن عن توقيع البابا تواضروس الثاني اتفاقية دينية حول الاعتراف المتبادل بالمعمودية بين الكنيستين القبطية الأرثوذكسية والكاثوليكية، بما يعني التوقف عن إعادة التعميد عند الانتقال من كنيسة إلى أخرى، فانهالت الاتهامات من عدة أساقفة علانية ضد البابا متهمين إياه بأنه يريد إخضاع نفسه للكنيسة الكاثوليكية، فتم التراجع عن الاتفاق إلى إعلان بأنهما يسعيان جاهدين إلى ذلك الاعتراف.
ركزت الانتقادات التي وُجهت للبابا تواضروس هذه المرة على إقامة قداس إلهي على مذبح لكنيسة كاثوليكية
ثم جاءت حادثة مقتل الأنبا إبيفانيوس رئيس دير أبو مقار بوادي النطرون، صيف 2018، وإدانة راهبين بارتكاب الجريمة، لتمثل فصلًا جديدًا للأجواء الملبدة والمحتقنة، التي وصلت لاتهامات بالهرطقة التي تماثل التكفير في المفهوم الإسلامي.
ركزت الانتقادات التي وُجهت للبابا تواضروس هذه المرة على إقامة قداس إلهي على مذبح لكنيسة كاثوليكية، وهو ما اعتبره بعض الأساقفة، لو تم، "سقطة وخطيئة". بشكل مبطن، حذر الأنبا أغاثون أسقف مغاغة في بيان أصدره من المشاركة في صلوات الليتورجيات والأسرار الكنسية مع الكنائس التي خرجت عن الإيمان المسلَّم للكنيسة الجامعة، على حد وصفه، مشددًا أن قوانين الآباء "تمنع الإكليروس (رجال الدين) من الصلاة مع الهراطقة ومن يصلي معهم يعزل". مشيرًا إلى "خطورة التعاليم الخاطئة على إيمان الكنيسة لأنهم يعلمون ويكرزون (يبشرون) بإنجيل ومسيح آخر".
كالعادة، نجح التيار المتشدد في فرض كلمته، فاضطر البابا تواضروس للتأكيد على أنه لا توجد موضوعات ستطرح للمناقشة، ولن يتم توقيع أية اتفاقيات أو وثائق، وأنه لا قداسًا إلهيًا خلال الزيارة، التي هي احتفالية لمناسبتين مهمتين؛ الأولى مرور 50 سنة على أول لقاء بين بابا قبطي وبابا كاثوليكي، الذي تم في روما مايو/أيار 1973، والثانية هي مرور 10 سنوات على زيارة البابا تواضروس الأولى للفاتيكان، وكان شرط البابا تواضروس أن تكون تلك الزيارة في نفس تاريخ اليوم 10 مايو، واتفق مع البابا فرنسيس أن يكون يوم 10 مايو يومًا للمحبة الأخوية بين الكنيستين، تذكارًا بمرور 10 سنوات على الزيارة للفاتيكان.
محاولات الوحدة بين الكنيستين الكاثوليكية والقبطية الأرثوذكسية باءت بالفشل عدة مرات رغم وصول المفاوضات لمراحل متقدمة، والاتفاق على صيغة للإيمان المشترك. ويسرد الدكتور مجدي جرجس في كتابه المهم نصوص وقراءات حول تاريخ القبط من القرن العاشر حتى التاسع عشر، نماذج مختلفة للتقارب خلال القرنين الخامس عشر والسادس عشر، والمناخ الذي ظهرت خلاله، وأسباب فشلها، لا سيما مع أجواء الضعف والانقسام التي شهدتها كنيسة روما.
لاشك أن هناك معوقات كثيرة تعمل على تعطيل أي محاولة جادة لمناقشة الخلافات بين الكنائس والوصول إلى نقاط اتفاق، يمكن بلورتها في أربعة أسباب رئيسية، يأتي في مقدمتها الخوف من الهيمنة؛ نحن نتحدث عن طرفين، أولهما كنيسة جامعة يتبعها دينيًا الكاثوليك في جميع دول العالم، هي مرجعيتهم الوحيدة، بينما الطرف الآخر، كنيسة قبطية يتبعها عدة ملايين من المصريين، أرثوذكسية العقيدة، انفصلت عنها كنائس ولدت من رحمها كالكنيسة الإثيوبية، فالكنائس الأرثوذكسية في العالم لا تجمعها رئاسات دينية موحدة، وتختلف في عقائدها وتقاليدها وطقوسها.
تستند الكنيسة القبطية في مكانتها إلى تاريخها وصمودها، وما قدمته في العصور المسيحية المبكرة من مدرسة لاهوتية ونظام للرهبنة. وإذا كانت المكانة الدينية وترتيب أولوية الكنائس من عوامل الانشقاق المسيحي الرئيسية في القرن الخامس الميلادي، فمن الطبيعي أن يزيد الخوف من الانصهار من تبعات الوحدة أو حتى إجراء مناقشة جدية لنقاط الخلاف الرئيسية.
ثاني معوقات الوحدة هو ما أشار إليه الأنبا إبيفانيوس رئيس دير أبو مقار السابق في مؤتمر مؤسسة برو أوريينتي للحوار المسكوني بين الكنائس الأرثوذكسية الشرقية والكنيسة الكاثوليكية عام 2016 هو عدم الرغبة في الوحدة لدى الأشخاص المسؤولين عن الحوار.
لا يمكن تخيل حدوث وحدة من دون موائمة وموافقة سياسية
رغم أن البيان المشترك الذي وَقّع عليه البابا بولس السادس والبابا شنودة الثالث في بداية السبعينيات يدعو إلى تبنّي لغة الحوار والشّركة بين الكنائس، وليس الصّدام، نجد أن بعض كبار رجال الدين يتهمون المختلفين عنهم بالهرطقة كما أشرنا، ومن المثير للدهشة أن بعض هؤلاء قام برسامتهم البابا تواضروس نفسه، حيث لم يجر التدقيق في اختيارهم، وهل هم من نفسه مدرسته الفكرية أم لديهم توجهات أخرى. فالمختلفون مع البابا طيف من رجال دين بعضهم أقدم منه في الرسامة وبعضهم اختارهم وينتقدونه ويعارضون توجهاته.
أعتقد أن قطاعًا من رجال الدين يخاف من عدوى التعاون والوحدة، ويخشى خسارة مكانته ونفوذه وسيطرته على التابعين.
هذا ينقلنا إلى نقطة أخرى لها علاقة بمستوى التعليم في الكنيسة القبطية؛ بينما نجحت الكنيسة الكاثوليكية في إجراء مراجعة واسعة وتقييم شامل لتراثها العقائدي والفكري، وقدمت رؤية تصالحية مع المختلفين عقائديًا كالأرثوذكس ودينيًا كالمسلمين، ذلك خلال المجامع المسكونية خصوصًا المجمع المسكوني الثاني، مستفيدة من علمانية الدول المتواجدة بها وعدم خلط الدين بالسياسة، نجد أن الكنيسة القبطية لا تزال على تقاليدها وتعاليمها بأنها هي الوحيدة في العالم ذات الإيمان الصحيح والسليم، وهو ما انعكس على تصريحات بعض رجال الدين بأن باقي الكنائس ومن ثم المسيحيين التابعين لها إيمانهم باطل وغير مقبول.
يضاف ذلك إلى عدم حسم الموقف من بعض القضايا السائدة من قبيل المرأة ودورها في المؤسسة، وانتشار الخرافة، وتراجع أهمية العلم. هذه النظرة الثنائية، إما نحن أو الآخرين، تعوق إمكانية وجود أي محاولات للإصلاح وتجديد الخطاب الديني.
بطبيعة الحال، لا يمكن إغفال البعد السياسي في هذا الموضوع، لا يمكن تخيل حدوث وحدة من دون موائمة وموافقة سياسية، الكنيسة مؤسسة دينية متشعبة تلعب أدوارًا دينية واجتماعية وتنموية، في ظل مناخ سياسي واجتماعي مصري سمح للمؤسسات الدينية بشكل عام، إسلامية ومسيحية، بالتمدد ولعب أدوار متعددة تتجاوز مساحة الدور الديني التوعوي والتعليمي.
أدى ذلك لمساحات من التنسيق مع المؤسسات السياسية والتأثر بها، وفتح لها الباب للعب دور سواء بشكل معلن أو مستتر، علمًا بأن هذا الأمر ليس بجديد، وله سوابق فيما يخص علاقة الكنيسة القبطية بالكنائس العالمية الأخرى. فالفرق كبيرة بين كنيسة محلية لها تواجد دولي وبين كنيسة مندمجة في اتحاد مسيحي عالمي.
لا تعني هذه المعوقات أن الوحدة المسيحية مستحيلة، قد تحتاج جهودًا أكبر ووقتًا أطول ووضوحًا للرؤية من أجل التعامل مع تاريخ من العداء ونشر الأفكار المسمومة تجاه كل طرف. يضاف إلى ذلك، هناك حتمية للتغيير مرجعها الأول أن الكنيسة القبطية الأرثوذكسية تمددت في الخارج، ووفقًا لتصريحات البابا تواضروس فهناك أكثر من 500 كنيسة قبطية وعشرة أديرة ونحو 600 كاهن وأسقف وراهب يخدمون بها.
هذا التنوع في الدول التي يوجد بها كنائس قبطية من اليابان إلى البرازيل ومن كينيا إلى أمريكا يفرض على الكنيسة بمرور الوقت تبني خطاب جديد يستوعب قيم الحداثة، ويقدر قيمة تعدد الآراء والاتجاهات الفكرية والإدارية داخل الكنيسة، خصوصًا مع مستوى التعليم والوعي للأجيال الجديدة من الأقباط. يبقى أن الوحدة المطلوبة ليست تلك التي تطمس الهوية الذاتية أو التي تلغي استقلالية المؤسسات الدينية، لكنها وحدة تكرس التنوع وتقدره وتجعله لصالح الإنسانية.