مهمة الناقد السينمائي هي تحليل وتقييم الأفلام نفسها، لا ما يدور حولها. ولذلك لن نتناول ما دار، وما زال يدور حول فيلم "البر التاني" من جدل، حول أحقية مشاركته في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته المنتهية رقم 38، بعد يوم واحد من استبعاد فيلم "آخر أيام المدينة" إخراج تامر السعيد الذي كان ينافس في المسابقة الدولية .
كما لن نتعرض الحوادث التي صاحبت عرض الفيلم في المهرجان، أو حتى طلب الدولة لعمل أفلام من هذه النوعية وحضور وزيرة الهجرة نبيلة مكرم للعرض الأول للفيلم في المهرجان، وإعلانها عن مساندة وتسهيل الإجراءات لصنع الفيلم، وغيرها من الأمور التي تم نشرها في أغلب الصحف والمجلات والمواقع الفنية والتي يسهل الرجوع إليها.
لكننا سنركز هنا على الفيلم نفسه الذي تدور أحداثه حول ثلاثة من الشباب من قرى مصر المختلفة وهم سعيد (محمد علي) وعماد (عمرو القاضي) ومجدي (محمد مهران)، الذين تدفعهم الحاجة وضغوط الحياة المختلفة إلى ترك عائلاتهم وقراهم الفقيرة والاتجاه إلى الهجرة غير المنظمة إلى إيطاليا، عبر السفر على متن مركب صيد متهالكة.
الفيلم من تأليف زينب عزيز وإخراج علي إدريس. وهو التعاون السادس بينهما بعد أفلام "حريم كريم" و"كلام في الحب" و"عصابة الدكتور عمر" و"بابا" و"جدو حبيبي". وتوضح الأفلام سابقة الذكر أن الزوجين (إدريس وعزيز) متخصصان في الأفلام الخفيفة الاجتماعية، وهو ما حاولا تغييره إلى حد ما في فيلمهما الجديد.
هل نجح الفيلم في الوصول إلى هدفه؟
نجح الفيلم في توصيل الرسالة التي يريد إيصالها، وهي أن الهجرة غير الشرعية لها مخاطر جمة. إلا أن ذلك لا يمنع أن الفيلم ليس جيدًا من ناحية اكتمال النسق المضموني خاصة مع تناقض رسالة الفيلم مع خيوط السرد فيه، وبالتأكيد هو ليس فيلمًا جيدًا من الناحية الفنية.
فعلى الرغم من المباشرة التي يتسم بها الفيلم وهي سمة تتسم بها أفلام البروباجاندا (الدعائية) والتي تريد أن تنشر أفكارًا معينة تتبناها النظم الحاكمة وتسعى لإقناع الجماهير بها. إلا أن الفيلم فشل في إقناعنا أن الهجرة غير المنظمة شر يمكن تلافيه. فلقد أوضح الفيلم أن نهاية الشباب المقبلين عليها هي الموت؛ إلا أنه لم يطرح أي بديل، خاصة أن الحياة في مصر في ظل الفقر والعوز والحاجة التي أظهرها الفيلم، غير قادرة بالمرة على توفير حياة كريمة لهم. ويعتبر يعتبر تناقضًا صارخًا في متن ورسالة الفيلم نفسها، التي بني الفيلم كله من أجل توصيلها إلى المشاهد وإقناعه بها.
هذا لا يمنع أن الفيلم جيد من ناحية الإضاءة والتصوير (المصري أحمد عبد العزيز والإسباني أوسكار فيليسس)، والمونتاج (السوري سالم درباس والإسبانيين مانيل فراسكيل وكونرادو لوبيز)، والمؤثرات الخاصة للإسباني سالفادور سانتانا، والمؤثرات البصرية لرافاييل غالدو، والموسيقى تامر كروان. إلا أنه أخفق في الديكور الذي صممه يحيى علام، الذي -وبالرغم من تصريحات صناع الفيلم حول تصويره في الريف وليس في استوديوهات- إلا أنه لم يكن معبرا عن الفقر الذي يشهده الريف المصري، والذي تشير إليه شخصيات الفيلم عبر الحوار، وحديثهم عن الحاجة التي دفعتهم إلى السفر. وكأن المخرج وصناع الفيلم كان في ذهنهم هذا الاتهام المعتاد، وهو "الإساءة لصورة مصر" في السينما، فجملوا هذه الصورة لتصبح متناقضة أيضًا مع متن الفيلم نفسه.
أيضا من المثالب التي لا يمكن تجاهلها: الأداء السيء لأغلب الممثلين، وعلى رأسهم البطل نفسه (وهو أيضا منتج الفيلم)، الذي كان أسوأ ممثل في الفيلم. وهي مفارقة عجيبة نادرا ما تحدث في السينما حول العالم. فالغريب أن نجد في الفيلم بعض الشخصيات الثانوية التي تؤدي أداء أفضل بمراحل من الشخصية الرئيسية، ومن ضمن هؤلاء الممثلين الذين أبدوا فهما حساسا للشخصية التي يؤدون دورها كان محمد مهران في دور مجدي، وحنان سليمان في دور والدته، والتي ظهرت في مشهدين فقط، لكنها كانت بارعة في دور الأم المتلهفة على وحيدها فخطفت أنظار المشاهدين إليها.
استهلال ممل يعقبه سلسلة مشاهد بارعة
برغم الضعف الفكري والفني الذي يجتاح الفيلم بدون رادع، تظهر سلسلة من المشاهد المكتوبة والمنفذة بحرفية إلى حد كبير، والتي جاءت بعد استهلال طويل، ينم عن ضعف في السيناريو. هذه المشاهد تضمنت مشهد داخل الأتوبيس الذي ينقل الشباب الثلاثة إلى الشاطئ، ومشهد وصولهم إلى شاطئ البحر النائي، ومشهد وصولهم إلى المركب عبر السباحة وتسلقهم للمركب.
في هذه المشاهد الثلاث، تريد الكاتبة أن تنقل للمشاهد حالة الانسلاخ من الوطن، وأن هذا الانسلاخ فيه هلاك لهؤلاء الشباب. وهي ترمي في طريق المشاهد بالتفاصيل التي تشير إلى هذا المعنى. وقد ساعد المخرج مؤلفة الفيلم في تنفيذ هذه الأفكار وتأكيدها باختياره لأتوبيس متهالك على وشك أن يتعطل في أي وقت، بل وجعل السائق الذي يقودهم إلى مصيرهم مبتور اليد. ثم لقطات وصولهم إلى الشاطئ وتسليمهم لجوازات سفرهم وأوراقهم تأكيدًا لفكرة الانسلاخ التام عن الوطن، بل ومطالبة سمسار السفر (بيومي فؤاد) لهم بإنكار كونهم من مصر والإدعاء بأنهم من سوريا أو العراق، مكررًا بذلك ما تعلنه السلطة نفسها في الواقع، بأن حالنا أفضل من سوريا والعراق وبالتالي فما الحاجة إلى الهجرة غير الشرعية!
أيضا من اللمحات الذكية في هذه المشاهد: شخصية الأم التي تصحب وحيدها في رحلته الأخيرة، وهذه العلاقة الوثيقة بينهما، وأنها وافقت على سفره فقط خوفًا على حياته، بعد إصابته بمرض دفع "حكيم القرية" لإقناعها بموافقته على ما يريد حتى يعيش. إلا أن قلب الأم يشعر أن الأمور لن تنتهي على خير، في غياب الأب الأعمى الأميّ (والد سعيد/ عبد العزيز مخيون) أو اليتم (والد عماد ومجدي). والأم هنا هي رمز مباشر ومكرر لمصر نفسها، التي لا تريد أن تتخلى عن أبنائها حتى لو كانوا هم أنفسهم يريدون التخلي عنها، ظنا منهم أنهم بذلك سيعيشون حياة أكثر رفاهية واستقلالا.
ومن اللمحات الذكية أيضا، فكرة أن الشباب يجبر على السباحة حتى المركب الرابض في عمق الماء، فيضطرون بذلك إلى خلع ملابسهم وحملها هي وحقائبهم على أكتافهم، لتتحول الملابس إلى ما يشبه الأكفان، تمهيدا لمصرعهم. وتتحول الحقائب إلى ما يشبه النعوش التي لن تؤويهم لأن قاع البحر - وهو القبر الأكبر – سيحتضنهم جميعا.
هذه اللمحات والمشاهد الذكية والمباشرة في نفس الوقت، لم تشفع للفيلم. بل كانت فرادتها عاملاً مهمًا في إبراز التسرع والضعف الذي يسم باقي المشاهد واللقطات، والذي يسيطر على السيناريو، رغم أن الكاتبة صرحت أن الفيلم مكتوب منذ ست سنوات. رغم أن الفيلم تكلف حوالي 27 مليون جنيه، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لإنتاج الأفلام في مصر، إلا أن كثير من العناصر الفينة اتسمت بالضعف رغم الاستعانة بفنيين أجانب.
إلا أن الأفلام التي على شاكلة "البر التاني" يكمن الهدف منها فقط في الدعاية إلى فكرة معينة تمس المجتمع وتلح عليه، ويحاول النظام حلها عبر طرق مختلفة منها السينما، لا يتطلب منها أن تهتم بالرؤيا والعمق الفكري والفني، على الرغم من أنها لو كانت قد اهتمت أكثر بهذه السمات لكانت مكسبا للمتلقي وللسينما.