منذ أن اندلعت الاشتباكات المسلحة بين الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع قبل نحو أسبوعين، انصبَّت تحليلات وتعليقات المصريين على ما يجري في السودان من زاوية مصرية خالصة بدءًا من التخوف من تدفُّق مُتَخيَّل لملايين من اللاجئين عبر حدودنا الجنوبية، مرورًا بالحديث عن قضية سد النهضة ومستقبل العلاقات مع إثيوبيا، وانتهاءً بزيارات للتاريخ غير البعيد لوحدة وادي النيل ومملكة مصر والسودان.
مما لا شك فيه أن السودان بلد غاية في الأهمية بالنسبة لمصر بحكم الجوار والتاريخ ونهر النيل وغيرها، ولا مفر من أن تتأثر مصر سلبًا وإيجابًا بما يجري فيه، لكن لا يعني هذا أن كل ما يجري في السودان يمكن فهمه من زاوية علاقته بمصر سواء في الحاضر أو الماضي أو حتى المستقبل. ليس فقط لأن السودان بلد شديد التعقيد، ولكن كونه يقع في سياقات إقليمية ودولية تضم مصر ولا تقتصر عليها.
أسعى في هذا المقال لمحاولة وضع ما يحدث في السودان في سياق إقليمي إفريقي من الناحيتين الجغرافية والتاريخية ثم الانتقال من هذا التحليل، الأرحب نسبيًا مقارنة بما يتم تداوله بين الخبراء والمعلقين والمتابعين، إلى تقدير أثره على مصر في المديين المباشر والمتوسط.
ومع خصوصية الأزمة الدائرة في السودان، بحكم ارتباطها بثورة 2019 التي أطاحت بنظام عمر البشير، وفتحت المجال أمام انتقال سياسي شديد التعثر أفضى إلى انقلاب 2021، ثم انقسام المكون العسكري على نفسه بالشكل الجاري، فإن الطابع المميز لكل هذه الأحداث هي أنها تشبه الانقلابات العسكرية والصراعات التي تدور بين التنظيمات المسلحة على خطوط عرقية أو قبلية أو جهوية في دول الساحل الإفريقي، تلك المساحة الشاسعة الممتدة بين المحيط الأطلنطي والبحر الأحمر.
عادت عدوى الانقلابات العسكرية إلى هذا الجزء من إفريقيا بعدما توقفت فيه وفي غيره إلى حد كبير منذ تسعينيات القرن الماضي
عُرفت هذه المنطقة تاريخيًا ببلاد السودان، التي كانت تنقسم إلى سودان غربي يشمل اليوم بلدانًا مثل السنغال وجامبيا ومالي وغينيا وبوركينافاسو، وسودان أوسط يشمل شمال نيجيريا الحالية والنيجر وتشاد، ثم سودان شرقي، الذي احتفظ باسم السودان بعد الاستقلال ممثلًا في جمهوريتي السودان وجنوب السودان (بعد استقلالها في 2011).
شهدت هذه المنطقة خلال العقد الأخير اضطرابات سياسية بالغة، تمثلت في انقلابات عسكرية متتالية شملت مالي (2012 ثم 2020) وغينيا (2021) وبوركينافاسو (2022) والسودان (2021 وقبلها إزاحة البشير) ومحاولة انقلاب فاشلة في النيجر (2021)، وفي هذا الخضم اغتيل رئيس تشاد التاريخي إدريس ديبي في أبريل/نيسان 2021 خلال مواجهات مع قوات متمردة في شمال البلاد، ليخلفه حكم عسكري من خلال مجلس انتقالي بقيادة ابنه محمد كاكا (بتسكين الكاف).
عادت عدوى الانقلابات العسكرية إلى هذا الجزء من إفريقيا بعدما توقفت فيه وفي غيره إلى حد كبير منذ تسعينيات القرن الماضي. ولكنها لم تأتِ من فراغ بل نشأت في سياق وتيرة الصراعات المسلحة في مواجهة حركات انفصالية، تأسست غالبًا لأسباب عرقية وجهوية.
يبدو ذلك واضحًا في شمال مالي مع حركة تحرير أزواد التي تمثل الطوارق، أو نموذج الحركات الانفصالية المسلحة في شمال الكاميرون، التي نشطت منذ 2017، وصولًا إلى الاضطرابات العرقية المستمرة في دافور منذ نحو عقدين، التي نشأت في سياقها ميليشيا الدعم السريع، قبل أن تضع الأخيرة نصب عينيها الاستيلاء على الحكم في الخرطوم. ناهيك عن الحرب الأهلية في جنوب السودان والاستقرار الهش منذ 2021 الذي يدور تحت سطحه صراع حامٍ يحمل طابعًا جهويًا وعرقيًا هو الآخر، بين رئيس البلاد ونائبه.
ولكن إلى جانب هذه الحركات المسلحة ذات الطابع العرقي/ الجهوي/ القبلي سواء كانت انفصالية أو غير ذلك، فقد شهدت ذات المنطقة الشاسعة صعودًا محسوسًا للحركات الجهادية في نفس المواضع تقريبًا بما يعكس في الأغلب ضعف الدول المركزية من ناحية، ووجود قواعد اجتماعية مناهضة للسلطات من ناحية أخرى.
تكرر هذا الأمر في شمال نيجيريا (بدءًا ببوكو حرام، الذي تداخل مع ما يسمى بالقاعدة في المغرب الإسلامي ثم مع تنظيم الدولة الإسلامية) ومنها امتدت إلى شمال الكاميرون، وقبلها في شمال مالي وأجزاء من النيجر المجاور وجنوب تشاد الملاصق لشمال نيجيريا. ومؤخرًا، توسعت هجمات الجهاديين في بوركينافاسو بشكل لافت منذ 2017.
هناك الكثير من السمات المشتركة بين بلدان هذه المنطقة منها أنها تتمتع، برغم كل ما فيها من صراع، بقدر من الترابط الثقافي الداخلي. في حالة السودان الكبير مثلًا؛ فإن أغلب سكانه مسلمون سنة يتبعون المذهب المالكي، ولهم تاريخ سياسي وثقافي وتجاري عريق لا تزال آثاره ماثلة في حواضر نهر النيجر مثل تمكبتو وجاو وجيني ومدن شمال نيجيريا مثل كانو وجوبير وكاتسينا.
كذلك فإن أغلبها دول خرجت من رحم تجارب استعمارية فرنسية بالأساس، وبريطانية في حالة السودان انتهت في نهاية الخمسينات وبداية الستينيات.
ربط الكثير من الدارسين بين التغيرات المناخية هذه، وارتفاع حدة الصراعات السياسية في القرن الحادي والعشرين
من زاوية الاقتصاد السياسي، نجد أن ثمانية من ضمن أفقر عشرين دولة في العالم، موجودة في هذه المنطقة من إفريقيا. وهي ذاتها الدول التي تشهد أكبر نمو سكاني حاليًا في العالم خاصة مع انخفاض في معدلات وفيات الأطفال نتيجة التحسن النسبي في الصحة العامة. خلال السنوات العشرين الماضية كان متوسط النمو السكاني السنوي في النيجر ومالي وتشاد (3.7% و3.19% و3.5%) على الترتيب، فيما كان 2.95% و2.7% و2.6% في بوركينا فاسو وغينيا والسودان.
ولنضع الأمور في نصابها، كان متوسط النمو السكاني في مصر، وهو مرتفع، 2% في نفس الفترة فيما كان متوسط النمو السكاني للعالم 1.19% طبقًا لبيانات البنك الدولي.
ومع مرور هذه الدول المجاورة بانفجارها السكاني، الذي مرت به شمال إفريقيا في السبعينيات والثمانينيات، ترتفع حصة الأطفال والشباب في إجمالي السكان لتصبح مرة أخرى الأعلى في العالم. ففي السودان وجنوب السودان وبوركينا فاسو وغينيا ونيجيريا والنيجر ومالي وتشاد والكاميرون تتراوح نسبة من هم دون سن الرابعة عشر بين 43 و45% من إجمالي السكان. إن هذه نسبة بالغة الارتفاع حتى مقارنة ببلد مثل مصر، الذي كانت النسبة المقابلة فيها 33.8%.
يضع ارتفاع معدل الإعالة المزيد من الضغوط على دول ضعيفة واقتصادات هشة لتوليد معدلات نمو من أجل توفير الخدمات الصحية والتعليمية وخلق فرص عمل ما ينذر بالمزيد من الضغط السياسي والاجتماعي.
وتعاني هذه المنطقة من ضغوط بيئية أيضًا، إذا أخذنا في الاعتبار أن بلاد الساحل الإفريقي التي تلامس الطرف الجنوبي من الصحراء الكبرى تشهد تغيرات بيئية سلبية ناجمة في الأغلب عن التغير المناخي تدفع إلى مزيد من الجفاف.
وقد ربط الكثير من الدارسين بين التغيرات المناخية هذه، وارتفاع حدة الصراعات السياسية في القرن الحادي والعشرين ما ظهر في دارفور بالفعل، ويبدو أنه يتكرر نوعًا ما في مالي وبوركينافاسو وشمال نيجيريا وتشاد.
وبحكم الروابط الديمغرافية والثقافية والاقتصادية القائمة بين بلدان السودان التاريخي وبينها وبين شمال إفريقيا، فإن هذه الصراعات المتعددة مرشحة للمزيد من التداخل والاتساع، فنشاط المجموعات الجهادية يتمدد منذ نحو عقد في المحيط الصحراوي الواسع مستغلًا ضعف الدول المركزية، وتأججت الحركات الانفصالية والصراعات العرقية والقبلية، بحيث صارت الحركات الجهادية حاضرة من شمال نيجيريا وتشاد إلى الكونجو الديمقراطية، ومن مالي والنيجر إلى جنوب الجزائر وليبيا. وقد عانينا نحن في مصر من تهديدات من الصحراء الغربية مرات متعددة خلال العقد الماضي ما يثبت أننا جزء من ذات المحيط السياسي والثقافي.
وأخيرًا، فإن تداعيات الصراع في هذه المنطقة ليس بعيدًا عنا، فهي تنتج مشكلات مثل تزايد ضغوط الهجرة عبر شمال إفريقيا بغية الوصول لسواحل أوروبا الجنوبية، بما يعني المزيد من التشابك بين النظم الإقليمية الثلاثة: المتوسط وشمال إفريقيا والساحل الإفريقي، على نحو ظهر بالفعل كمكون رئيسي في علاقة دول شمال إفريقيا بالاتحاد الأوروبي سواء مصر أو ليبيا أو تونس والمغرب أمنيًا واقتصاديًا.